لا تكاد تبصر مكتبة إسلامية تخلو من أحد مؤلفاته ولا يكاد يفتح نقاش أو يدور حديث في حلقة علمية عن تفاسير القرآن الكريم المعاصرة إلا وكان لكتابه الشهير “صفوة التفاسير” نصيب من هذه الجلسات.
في هذه المادة نستعرض القليل من قرن إلا نيف من العطاء العلمي تجسدت في حياة أحد أبرز الشخصيات الإسلامية المعاصرة العلامة محمد علي الصابوني الذي غادرنا للرفيق الأعلى في مدينة يلوا التركية اليوم الجمعة عن عمر يناهز ٩١ عامًا قضاها في العلم والتعليم والتأليف.
نشأته وتعليمه
وُلد محمد علي ابن الشيخ جميل الصابوني الحلبي في مدينة حلب الشهباء عام 1930م، وكان والده أحد كبار علماء حلب في ذلك الوقت فأخذ عنه التعليم المبكر، ثم حفظ القرآن في الكُتّاب، وتعلّم علوم اللغة العربية.
أتم دراسته الابتدائية بتفوق في المدارس الحكومية في حلب، ثم نسب إلى الثانوية التجارية إلا إنّ دراسة التجارة لم تنسجم مع ميوله الشرعية فترك المدرسة، والتحق بالمدرسة (الخسروية)، التي كانت تسمى (الكلية الشرعية)، وفيها التقى كوكبة من شيوخه العلماء الكبار في عصره وتتلمذ على يدهم أمثال: الشيخ محمد سعيد الإدلبي، والشيخ أحمد الشماع، والشيخ محمد نجيب خياطة، والشيخ محمد زين العابدين الجذبة، والشيخ محمد راغب الطباخ، والشيخ محمد السلقيني، والشيخ محمد أسعد العبه جي، والشيخ عبد الله حماد، والشيخ محمد ناجي أبو صالح، وغيرهم.
تخرج الشيخ الصابوني من الخسروية عام 1949م بعد أن أكمل دراسة علوم القرآن الكريم والتفسير والحديث النبوي الشريف ومصطلحه، والفقه وأصوله، والفرائض والسيرة النبوية المطهرة والتاريخ الإسلامي، وعلوم اللغة العربية، نحوها وصرفها وبلاغتها وآدابها، بالإضافة إلى بعض العلوم الكونية، كالرياضيات والعلوم العامة والفيزياء والكيمياء والجغرافيا واللغة الإنكليزية، وغيرها من العلوم.
ونظراً لتفوقه في الدراسة في الكلية الشرعية، فقد ابتعث من قبل وزارة الأوقاف السورية إلى القاهرة، ليتابع دراساته الشرعية على نفقتها، ليلتحق بجامعة الأزهر ليكمل تعليمه عام 1952 م، وتابع الشيخ دراساته العليا التخصصية في الأزهر الشريف، إلى أن حصل على شهادته (العالمية) باختصاص (القضاء الشرعي)، 1955م ليعود بعدها لمدينة الأم حلب.
رحلة العطاء
منذ عودة الصابوني من مصر بعد إكماله لدراسته العليا في منتصف القرن الماضي وحتى رحيله اليوم في يلوا التركية لم يتوقف الصابوني عن العطاء، فقد عمل الصابوني مدرساً لمادة التربية الإسلامية في عدد من ثانويات حلب، ودور المعلمين فيها، وظل على عمله في التعليم إلى عام 1962م، انتدب بعدها إلى المملكة العربية السعودية أستاذاً مُعاراً، من وزارة التربية في سورية، للتدريس بجامعة الملك عبد العزيز، فرع مكة المكرمة، وكان على رأس البعثة السورية إلى المملكة آنذاك، ليكمل فيها ثلاث عقود إلا نيف من التعليم وتخريج طلبة العلم.
وثم اسندت له جامعة أم القرى تحقيق بعض كتب التراث الإسلامي، فعيّن باحثاً علمياً في مركز (البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي)، فاشتغل في تحقيق كتاب (معاني القرآن) للإمام أبي جعفر النحاس، المتوفى سنة 338 هـ، وقد خرج الكتاب في ستة أجزاء.
انتقل الشيخ بعدها للعمل في رابطة العالم الإسلامي، مستشاراً في (هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة)، وبقي فيها عدة سنوات، تفرغ بعدها للتأليف والبحث العلمي،.
وكان للصابوني نشاط دعوي واسع، وذلك من خلال دروسه في المسجد الحرام بمكة المكرمة، وتصدره للإفتاء فيه في مواسم الحج، كما كان له درس أسبوعي في التفسير، في أحد مساجد مدينة (جدة)، امتد لفترة ما يقارب الثماني سنوات، فسّر خلالها لطلاب العلم أكثر من ثلثي القرآن الكريم، وهي مسجلة على أشرطة كاسيت، كما قام الشيخ بتسجيل وتصوير أكثر من ستمئة حلقة لبرنامج لتفسير القرآن الكريم كاملاً، ليعرض في تلفزيون المملكة العربية السعودية، وقد استغرق هذا العمل زهاء السنتين.
كتابه الأشهر صفوة التفاسير
بلغ عدد مؤلفاته 57 كتاباً انتشرت في جميع الدول العربية والإسلامية ولكن كتابه صفوة التفاسير كانت الاكثر شهرة على الاطلاق حيث يقول الصابوني في مقدمته: “وقد أسميت كتابي صفوة التفاسير، وذلك لأنه جامع لعيون ما في التفاسير الكبيرة المفصلة، مع الاختصار والترتيب، والوضوح والبيان”،
وقد اشتهر كتابه أيضًا لأنه حمل الكثير من وجوه التفسير بشكل ميسر ومستساغ لكل من أراد الولوج لقراءة تفاسير القرآن الكريم فهو كتاب شامل، جامع بين المأثور والمعقول، مستمد من أوثق التفاسير المعروفة كـ الطبري والكشاف وابن كثير والبحر المحيط وروح المعاني، في أسلوب ميسر سهل التناول، مـع العناية بالوجوه البيانية واللغوية.
وعلى الرغم من عظم شهرة الكتاب بسبب ما ذكرنا لكنه لم يخلو من نقد وردود مثل كتاب تنبيهات هامة للشيخ محمد جميل زينو وكتاب “ملاحظات على كتاب صفوة التفسير” للشيخ سعد ظلاَّم – عميد كلية اللغة العربية في مصر، وكذلك كتاب “ملاحظات على صفوة التفاسير” للشيخ عبد الله بن جبرين، ثم كتاب” ملاحظات عامة على كتاب صفوة التفاسير” للشيخ صالح الفوزان.
كلها تعود إلى أن المؤلف أشعري الاعتقاد وهذا مخالف للتوجه السائد في فترة المد للتيار السلفي في سبعينيات وثمانينات القرن الماضي مما دفع وزارة الأوقاف في السعودية لمنع تداول الكتاب ومصادرته، وذلك في: ” تعميم وزارة الحج والأوقاف برقم 945/2 / ص، في 16/4 /1408 هـ من المديرية العامة للأوقاف والمساجد في منطقة الرياض المتضمن مصادرة “صفوة التفاسير” وعدم توزيعه حتى يصلح ما فيه من أخطاء عقدية”.
وعلى الرغم من هذا المنع، إلا أن كتاب صفوة التفاسير بقي رقمًا صعبًا في كتب التفاسير الحديثة والميسرة للقرآن الكريم وبقيت نسخة تطبع وتوزع في أغلب الدول الاسلامية.
الصابوني والثورة السورية
وقف الشيخ الصابوني إلى جوار الثورة السورية ضد نظام البعث في سوريا منذ الأيام الأولى، وهاجم بشار الأسد بشكل علني، واصفا إياه بـ “مسيلمة الكذاب”، احتجاجا على قمع النظام السوري للمتظاهرين السلميين.
وقال الصابوني في أحد اللقاءات التلفزيونية: “لقد رأى علماء الأمة وجوب الخروج على مسيلمة الكذاب، الذي يسمى بشار الأسد بعد أن استفحل طغيانه قتلاً للبشر”.
واعتبر الشيخ الصابوني في بيان له عام 2012 أن “الإصلاحات التي أقرها النظام السوري ومطالبته بإعطاء وقت عشرة أيام أو عشرين يوماً لإقرارها بمثابة تخدير بعد أن منحه الشعب 11 عاماً للإصلاح”.
رحل الشيخ الصابوني عن العالم بعد أن ترك إرثًا ضخمًا من الكتب والمؤلفات والتحقيقات والمحاضرات الصوتية والمرئية وسيل كبير من طلبة العلم الذين عاصروه منذ خمسينات القرن الماضي وحتى 19 من مارس/آذار 2021 ليتربع على عرش أشهر علماء أهل السنة والجماعة المعاصرين وأكثرهم تاثيرًا، تقبله الله على ما قدمه خير الجزاء ويسر لهذه الأمة العلماء العاملين.