إن عانت المعارضة المصرية إبان فترة حسني مبارك الممتدة على مدار 3 عقود كاملة من وضع متأزم فإن ما تشهده منذ ثورة يناير/كانون الثاني 2011 وحتى اليوم أشد تأزمًا، وإن كانت بالأمس تشكو ضيق التنفس السياسي في ظل سقف ديمقراطي منخفض فإنها هذه الأيام توضع على أجهزة التنفس الصناعي بعدما استوى السقف بالأرض، إن لم يكن تحت ترابها.
تجريف لمقومات الحياة السياسية، وجدب لما بقى من زهورها الذابلة في بساتينها الجافة وسط أرض قاحلة، هكذا بات تيار المعارضة بعد 8 سنوات عجاف، قضاها المعارضون أسرى اضطراب سياسي وأمني، أعقب انقلاب عسكري قضى على حلم بناء دولة مدنية تفتح الباب أمام معارضة بناءة.
تآكلت مكتسبات الثورة الينايرية سريعًا، حين سقطت الدولة بكل تياراتها ومجالاتها وأضلعها بين فكي حكم عسكري مطبق، أزهق روح التحرر التي نجح الشعب في إحيائها منذ الإطاحة بمبارك وحتى عزل مرسي، ليستبدلها بغيوم الديكتاتورية الملبدة، بعدما استطاع تفتيت الشارع الثوري إلى تيارات شتى، غازل فيها أطماع هنا وجهالة هناك.
وبعد مرو عشر سنوات على انطلاق قطار الربيع العربي، بات السؤال الأبرز: أين موقع المعارضة المصرية، الداخلية منها والخارجية، من المشهد؟ وكيف نجح نظام السيسي في تخديرها بصورة تخدم مصالحه وترسخ أركانه بدلًا من أن تزلزله كما كانت تهدف؟ وما إذا كانت هناك ولو شمعة صغيرة مضيئة أمام المعارضين لاستعادة زخمهم وإحداث تغيير في المشهد رغم سوداوية النفق الطويل؟
واقع مأزوم ثنائي الأبعاد
الفترة الماضية كشفت النقاب عن الواقع المأزوم الذي تحياه المعارضة المصرية، على مسارين مختلفين، الأول: المسار الداخلي، وينقسم إلى قسمين، أحدهما يتعلق بالتباينات بين أطياف المعارضة خاصة الإسلاميين من جهة والليبراليين واليساريين والعلمانيين من جهة أخرى، أما الثاني فخاص بأزمة الثقة المتفشية بين مكونات المعرفة المختلفة، إذ هناك غياب ثقة متبادلة بين الجميع لها ارتدادتها العكسية على ثقل ونفوذ المعارضة.
القارئ للساحة السياسية يجد أنه منذ يوليو/تموز 2013 وهناك حالة جفاء كبيرة بين تيار الإسلام السياسي وغيره من التيارات السياسية الأخرى، فكلاهما يرفض التعامل مع الآخر، وعلى العكس من ذلك تجده يشكك في أي نشاط أو تحرك يخرج عن الطرف المقابل.
هذا التشكيك وسوء النية المتبادلة جعل كل فصيل يعمل بمفرده، في محاولة لالتقاط الصورة على أنه المناضل الأكثر حرصًا على مستقبل البلاد، ما قد يدفع الفصائل الأخرى إلى تشكيل كيانات انفرادية موازية، ما يضعف من قوة الجميع ويظهرها بمظهر المشتت لدى الشارع الذي يزداد منسوب فقدانه الثقة في معظم تلك الكيانات يومًا تلو الآخر.
أما المسار الثاني فيتعلق بسيطرة نظام عبد الفتاح السيسي على مناحي الحياة كافة، بشتى مجالاتها، وهو ما سيتم الإشارة إليه تفصيلًا لاحقًا، هذا بخلاف تجييش كل أجهزة الدولة الإعلامية والدعائية لتشويه المعارضة وتصدير صورة ممزقة عنها وعن أهدافها، ما سحب كثيرًا من رصيدها على مدار السنوات الماضية.
عسكرة الدولة
في كرة القدم يقولون “من يهدر الفرص تستقبل شباكه الأهداف”، وفي السياسة الأمر لا يختلف كثيرًا، فمن يضيع المكافآت التي تمنح له مجانًا، سيدفع ثمنها غاليًا جدًا مستقبلًا، والمعارضة التي تتخاذل عن تلبية طموحات الشارع ولو كانت متضائلة سيقابلها تنام متصاعد من النظام لإحكام سيطرته على المشهد برمته.
النظام الحاكم في المحروسة استطاع التعامل مع المعارضة بصورة احترافية خبيثة، مستغلًا ما تعاني منه من تقزم عامًا تلو الآخر، لإثبات أنه الأقوى والأجدر على الإدارة دون منافس أو منازع، وشيئًا فشيئًا باتت موارد الدولة وأركانها تسكن في قبضته بطريقة قانونية، بصرف النظر عن شرعيتها الدستورية.
وفي أشهر قليلة سقطت السلطات الثلاثة، التشريعية والتنفيذية والقضائية، في يد الرئيس، فالأخيرة باتت خاضعة لرئيس الجمهورية بعد تمرير القانون الذي يمنح رئيس الجمهورية الحق في اختيار رؤساء الهيئات القضائية والمحكمة الدستورية ومحكمة النقض والنيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة والقضاء العسكري والنائب العام ومجلس الدولة، وكان ذلك في يونيو/حزيران 2019.
كل تلك الإجراءات ساهمت بشكل أو بآخر في حدوث أحد أمرين، إما تهميش ما تبقى من معارضة حقيقية وإما ضمان تبعيتها له، ما يمهد الطريق نحو احتكار شبه كامل للمشهد السياسي من الأطراف الداعمة والمدعومة من النظام
الأمر كذلك مع مجلس النواب “البرلمان” الذي تحول إلى أداة في يد الحكومة لتمرير ما تراه من مشروعات قوانين، في ظل ما تملكه من أغلبية مطلقة عبر بديل الحزب الوطني المنحل “حزب مستقبل وطن”، وهو ما تكشفه أعداد القرارات التي تم تشريعها خلال الدورة البرلمانية السابقة، لتتحول قبة البرلمان إلى ساحة للتصفيق، صباحًا ومساءً، على أداء الحكومة فيما يغلي الشارع.
الإعلام هو الآخر حاصرته السلطات بشكل بات التنفس معه أمرًا غاية في الصعوبة، فأحكمت الجهات السيادية قبضتها على منافذ الإعلام الأربع (تليفزيون – صحافة – إذاعة – إنترنت) هذا بخلاف احتكار الساحة الدرامية والفنية، بجانب حزمة التشريعات القانونية والمؤسسية الصادرة لفرض حالة من السيطرة التامة على كل وسائل الإعلام.
وبالتوازي مع ذلك حرص النظام على توسيع دائرة نفوذ المؤسسة العسكرية لتضع يدها على معظم موارد الدولة، مانحًا إياها حزمة من الحوافز غير المسبوقة في تاريخ الدولة، فباتت دولة داخل الدولة، تمتلك مواردًا ربما لا تملكها الدولة في كثير من القطاعات.
وبينما يعاني القطاع المدني من تراجع في نشاطه الاقتصادي بسبب الأزمات الأخيرة، إذ بالنظام يطلق يد المؤسسة العسكرية في كل المشروعات على رأسها النقل والطرق والكباري والزراعة والتعدين والري وزراعة الأسماك، وغيرها من المجالات الأخرى، وهو ما أدخل القطاع المدني غرف الإنعاش المبكر، وما عاد أمامه سوى خيارين، إما أن يعمل تحت لواء الجيش، راضيًا بالفتات وإما أن يكون الإغلاق والتصفية هو البديل.
هذا الجو غير الصحي كان له تأثيره الكبير على المشهد السياسي، فتأثرت المعارضة بصورة كبيرة، فاقدة عامًا تلو الآخر جزءًا من رصيدها المتضائل، حتى أوشكت على الإفلاس، السياسي والشعبي، وهو ما كان جرس إنذار لدى رموز هذا التيار لإعادة النظر في البناء ككل، آملين في وجود أرضية مشتركة يمكن الانطلاق من خلالها.
المعارضة الداخلية.. وضع مأزوم
رغم تأثيرها الذي قد يكون منعدمًا، وحضورها الباهت، ورضوخها في كثير من الأحيان لإملاءات السلطة، فإن النظام المصري فرض قيودًا واسعة على كل القوى المدرجة – ولو اسم فقط – تحت عنوان المعارضة، ليضعها برمتها تحت عينه وبصره ووفق إرادته.
القيود لم تطل فقط الكيانات والجمعيات التي تعمل بشكل غير قانوني، بل تخطى ذلك إلى القوى السياسية الرسمية، التي من المفترض أنها تعمل بشكل دستوري، فأحاطها ببيئة من الترهيب والخوف غير مسبوقة، وسجنها داخل أقفاص التضييق والخنق العمدي، حتى كادت أن تلفظ أنفاسها الأخيرة.
وتنوعت السلطات في استخدام وسائل التضييق على المعارضة، ما بين التوسع في أحكام الإعدام والاختفاء القسري وموجات الاعتقال المتتالية في المواسم التقليدية وغير التقليدية، بل وصلت إلى مرحلة التصفية الجسدية خارج القانون في كثير من الأحيان، وفق ما وثقته التقارير الصادرة عن كيانات حقوقية، مصرية وأجنبية.
هذا بخلاف حزمة التشريعات التي أقرتها الدولة لإغلاق المجال العام تمامًا أمام أي متنفس حريات للمواطنين، فكان قانون التظاهر رقم 107 لسنة 2013، بخلاف التعديلات الطارئة على قانون الطوارئ في أبريل/نيسان 2017، علاوة على التضييق الذي فرضته السلطات على المجتمع المدني عبر إصدار قانون العمل الأهلي، أغسطس/آب 2019.
كل تلك الإجراءات ساهمت بشكل أو بآخر في حدوث أحد أمرين: إما تهميش ما تبقى من معارضة حقيقية وإما ضمان تبعيتها له، ما يمهد الطريق نحو احتكار شبه كامل للمشهد السياسي من الأطراف الداعمة والمدعومة من النظام، يتوازي ذلك مع تضخيم وتجميل صورة المؤسسة العسكرية كونها حامى الحمى والسند الحقيقي للشعب والجهة الوحيدة الحريصة على الوطن وتراعي مصالحه، في مقابل شيطنة كل التيارات الأخرى التي تنادي بالديمقراطية والمدنية كونها معاول هدوم للأوطان.
المعارضة الخارجية.. 7 سنوات عجاف
الوضع على مستوى معارضة الخارج، أو كما يسميها البعض “معارضة المنفى” لم يكن بالحال الأفضل من الداخل، حيث باتت في حالة من الانحسار، خاصة بعد الإفلاس الذي منيت به على مستوى الأفكار والتوجهات، فضلًا عن التحركات على أرض الواقع بعيدًا عن التنظير على شاشات الفضائيات.
البعض ربما يلتمس العذر لمعارضة المنفى لحداثة خبراتها وجهل معظمها بدهاليز السياسة، لكن الظرفية التاريخية التي وجدت نفسها فيها كفيلة أن تدفع الجميع نحو التطوير دفعًا، فالوقت هنا سلاح فتاك في ظل السباق الكبير للخروج بأكبر قدر من المكاسب من تلك المعادلة التي باتت اليوم صفرية.
مراحل ومحطات تعامل المعارضة في الخارج مع تطورات المشهد السياسي في مصر تكشف حجم الأزمة التي تعاني منها، سواء على المستوى البنيوي أم التنظيمي الفكري، فالبداية كانت عقب سقوط نظام الرئيس محمد مرسي في 2013، حيث اتجهت المعارضة إلى تأسيس كيانات ثورية لجمع الشمل في الخارج، على أمل توحيد الكلمة وأن يكون لها تأثيرها الملموس ميدانيًا.
المعضلة الأكبر التي واجهت المعارضة المصرية بالخارج تتمثل في غياب المشروع وعدم وجود رؤية موحدة، مكتفية بالشعارات الرنانة دون ترجمة على أرض الواقع
وعليه بدأنا نرى “تحالف دعم الشلرعية” الذي حمل شعار عودة مرسي للحكم مرة أخرى، لكن سرعان ما تبدلت الأمور ليظهر على الساحة كيان ثوري آخر يحمل اسم “المجلس الثوري المصري” الذي فتح الباب أمام كل تيارات المعارضة لتوحيد الجبهة ورفع راية مقاومة نظام السيسي من أجل إحياء الثورة مرة أخرى بأدوات مختلفة.
لكن مع مرور الوقت بدأت الانقسامات تظهر على السطح، وشروخ الجدار الثوري تتزايد، بل وصل الأمر إلى التشكيك والتخوين بين تلك التيارات، وهو ما أدى إلى إجهاض دورها بشكل رسمي، لتعود الأمور إلى المربع رقم صفر مرة أخرى، ليدور المعارضون في المنفى في حلقات مفرغة، دفعت شريحة كبيرة من أنصارهم، لا سيما الشباب، إلى إعادة النظر في المسار برمته.
المعضلة الأكبر التي واجهت المعارضة المصرية بالخارج تمثلت في غياب المشروع وعدم وجود رؤية موحدة، مكتفية بالشعارات الرنانة دون ترجمة على أرض الواقع، وهو ما أودى بها إلى حالة من الشتات، عززه ارتكانها الكثيف للدعم الخارجي، دون العمل على تقوية شوكتها بوضع لبنات البناء السياسي القوي القادر على مواجهة أي تحديات أو عقبات قد تأتي من هنا أو هناك.
وبعد 8 سنوات عجاف عاشتهم المعارضة في الخارج وجدت نفسها تعاني من حالة من الاغتراب السياسي والأخلاقي، أسفر عن تحلل معظم الكيانات الثورية إلى خيوط ومسارات غير متشابكة، وليس لها ثقل حقيقي، الأمر الذي جعلها صيدًا ثمينًا في مواجهة السلطات المصرية التي نجحت عبر أذرعها ولجانها في تفتيت وحدة معارضة المنفى بعدما بات الشك هو لغة الخطاب بين تياراتها.
سياقات التعافي
رغم حالة التيه التي باتت عليها المعارضة بشقيها، الداخلي والخارجي، فإن نظام السيسي قدم لها هدية – غير مقصودة – على طبق من ذهب، تتمثل في استعدائه لكل أصناف المعارضة، حتى المستأنسة منها، فالجميع في التنكيل والاستهداف سواء، ما قد يجعل من فكرة التوحد مسألة قد توضع على موائد النقاش.
بات يقينًا أن التغيير بالأساليب التقليدية، سواء عبر الثورات أم الانقلابات العسكرية، لم يعد له وجود في الوقت الراهن على الأقل، بعدما أحكم نظام السيسي قبضته على المشهد بتفاصيله كافة، الأمر الذي أغلق الباب على معظم خيارات التغيير إلا نافذة المعارضة القوية والمقاومة السياسية الشرسة.
لا ينكر منصف أن النظام المصري الحاليّ استفاد بصورة كبيرة من الظروف الإقليمية والدولية التي فرضت نفسها على الساحة منذ 2011 وحتى اليوم، لا سيما المتعلقة بالأزمات الاقتصادية والوبائية والنزاعات المسلحة وتصاعد وتيرة الأعمال الإرهابية التي هددت مصالح القوى الكبرى، ما جعل الدول تنكفئ على داخلها، مرجئة الملف الحقوقي إلى مراتب أقل أهمية نسبيًا.
السنوات الماضية أثبتت أن التغيير بالصدمة بات مستحيلًا، وأن سياسة التقطير طويل المدى ربما تكون الأكثر جدوى في ظل نجاح النظام في تقوية شوكته
لكن الاعتقاد بأن تلك الظرفية ستستمر إلى ما لانهاية، ينافي الجغرافيا والتاريخ معًا، وهي الأرضية التي قد تدفع تيارات المعارضة إلى إعادة النظر في صيرورتها الحاليّة، خاصة بعد التطورات السياسية التي يشهدها العالم، وعليه فإن تبني مشروع سياسي قوي، يجمع الكل تحت لوائه، بعيدًا عن ثلاثية الاحتكار والإقصاء والتأدلج، ربما تكون الخطوة الأولى نحو تدشين كيان معارضة قوي.
السنوات الماضية أثبتت أن التغيير بالصدمة بات مستحيلًا، وأن سياسة التقطير طويل المدى ربما تكون الأكثر جدوى في ظل نجاح النظام في تقوية شوكته ودعم مؤسسته العسكرية على حساب المسار المدني، فهل يستفيد المعارضون من تلك الوضعية في إعادة تموضعهم مرة أخرى، مستفيدين من أخطاء الماضي، بما يسمح لهم بالوجود على الساحة السياسية ليكونوا مع مرور الوقت منافسًا محتملًا، ثم ندًا قويًا، إلى أن يستعيدوا ثورتهم المسلوبة؟ سؤال تبقى إجابته لدى قادة ورموز المعارضة المصرية في الداخل والخارج على حد سواء، هذا إن كانت لديهم الرغبة ثم الإرادة لتحقيق ذلك.