أعلنت الحكومة الفرنسية حظر ذبح الدواجن وفق الأصول الشرعية الإسلامية، وهو ما يأتي ضمن مخطط استهداف الجالية الإسلامية ومنعها من ممارسة شعائرها الدينية، في ضوء الحملة التي يشنها إيمانويل ماكرون على مدار عامين كاملين، كان المسلمون فيها الضحية الكبرى لعنصرية فجة لم تشهدها البلاد منذ عقود طويلة.
في بيان لها أعلنت 3 مساجد كبرى في فرنسا (في باريس وليون وإيفري) رفضها لهذا القرار، فيما عقدوا اجتماعات مكثفة لمناقشة هذا التحرك الصادر عن وزارة الزراعة والأغذية الفرنسية، في 23 من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، والمقرر تنفيذه رسميًا اعتبارًا من يوليو/تموز المقبل.
أئمة المساجد في المدن الثلاث اعتبروا أن هذا القرار رسالة سيئة للمجتمع المسلم، كما نقلوا مخاوفهم بشأن هذه القضية إلى وزارتي الداخلية والزراعة والأغذية دون التوصل إلى نتيجة إيجابية، لافتين إلى أن تلك الإجراءات ستشكل عقبةً خطرةً أمام الممارسة الحرة للشعائر الدينية.
يأتي هذا التحرك ضمن الهجمة الممنهجة التي يقودها ماكرون وحكومته ضد كل ما يمت للإسلام بصلة، فمنذ قدومه الإليزيه وعنصريته حيال المسلمين تتزايد يومًا تلو الآخر، ضاربًا بالشعارات التي رفعها خلال حملته الانتخابية بشأن المواطنة عرض الحائط.
ورغم ذهاب البعض إلى أن استهداف الرئيس الفرنسي للمنتجات الحلال يندرج تحت إطار النكاية بالمسلمين، لكنها خطوة محفوفة بالمخاطر، إذ تحمل في رحمها تهديدات خطيرة للاقتصاد الذي يعاني من أزمات طاحنة في الآونة الأخيرة، أودت بالملايين من الفرنسيين للنزول للشارع للتنديد بالحكومة وسياستها فيما عرفت بـ”السترات الصفراء”.
منع تدريس العربية في المساجد
هناك حالة من الامتعاض لدى مسلمي فرنسا بشأن استهداف الحكومة المس بمقدساتهم تحت ذريعة حماية العلمانية وقيم الجمهورية، حيث أغلقت السلطات الفرنسية قبل يومين، عددًا من الفصول الدراسية التابعة لمسجد عمر بن الخطاب بباريس، التي كانت تدرس اللغة العربية لأبناء الفرنسيين.
قرار الغلق جاء بعد جولة تفتيشية شرطية على المسجد في خطوة أثارت قلق المسلمين وإدارات المساجد بالدولة الأوروبية، حيث أشار رئيس جمعية الإيمان والعمل حمادي الهمامي، إلى أن فرقة من الشرطة تضم ممثلين من أجهزة مختلفة في فرنسا داهموا المسجد في أثناء الدروس الصباحية للطلاب، ومنعوهم من استكمال الدراسة.
وأضاف الهمامي أن السلطة الفرنسية منعت تعليم اللغة العربية في المساجد بحجة أنها مخصصة للصلاة فقط، وأن الفصول الدراسية تحتاج إلى موافقة خاصة، هذا في الوقت الذي يسمح فيه للأطفال المسيحيين بالذهاب إلى الكنائس لتعلم دينهم وأمور دنياهم العادية، وفق تصريحاته لـ”الجزيرة”.
وتوشك الجمعية الوطنية الفرنسية “البرلمان” على إقرار مشروع قانون مبادئ تعزيز احترام قيم الجمهورية المثير للجدل، المعروف إعلاميًا بـ”مكافحة عيش المسلمين منعزلين عن المجتمع، رغم الانتقادات الحادة التي تعرض لها كونه يستهدف المسلمين في فرنسا ويفرض عليهم قيودًا مشددةً على كل مناحي حياتهم.
عنصرية ممنهجة
في أكتوبر/تشرين الأول 2020 خرج ماكرون بتصريح استفزازي قال فيه: “الإسلام يعيش اليوم أزمة في كل مكان بالعالم، وعلى فرنسا التصدي للانعزالية الإسلامية الساعية إلى إقامة نظام مواز وإنكار الجمهورية الفرنسية”، طارحًا مشروع قانون ضد “الانفصال الشعوري” بهدف “مكافحة من يوظفون الدين للتشكيك في قيم الجمهورية” كخطوة أولى في مسار سياساته ضد ما أسماه “التشدد الإسلامي الذي يتخذ العنف منهجًا له”.
التصريح أجج مشاعر الغضب لدى ملايين المسلمين في مختلف أنحاء العالم، فيما فُسر على أنه استهداف للجالية المسلمة في بلاده على وجه التحديد، وهو ما دفع قادة العالم الإسلامي ورموز الدين الإسلامي للانتفاضة ضد تلك العنصرية في حملة ما زال صداها يخيم على الأجواء حتى كتابة هذه السطور.
المكايدة السياسية الذي يمارسها ماكرون تجاه المسلمين سيكون لها تبعات كارثية على الاقتصاد الوطني لبلاده
لم يكن هذا هو الموقف الوحيد للرئيس العنصري، كما يلقبه كثير من المسلمين، ففي الـ18 من فبراير/شباط 2020 كشف ملامح خطته لتشديد الحرب ضد ما أسماه “الانفصال الإسلامي في الأحياء”، إذ اشتملت على أربع نقاط رئيسية، أبرزها تحرير المدارس والمساجد من التأثيرات الأجنبية وتخلي البلاد عن الدعاة القادمين من الخارج الذين يتقاضون رواتب من المنح والمعونات التي ترسلها الدول الإسلامية للجاليات وعلى رأسها تركيا والجزائر، وذلك خلال زيارته لمدينة مولوز “شرق”.
وفي الـ24 من أكتوبر/تشرين الأول 2019 أعلن ماكرون رفضه لارتداء الحجاب في المناطق العامة ببلاده، متهمًا من يحاولون الترويج له في بعض المناطق الفرنسية بأنهم يسعون لتأسيس طائفية مرفوضة، فيما ناشد كثيرًا مواطنيه بمساعدته فيما يزعم بأنه “الشر الإسلامي” وذلك بالإبلاغ عن أي شخص مسلم تحمل تصرفاته الريبة والشك، وهي الخطوة التي أحدثت قلقًا كبيرًا في المجتمع الفرنسي، فيما اعتبرها البعض تشجيعًا على الانقسام وزرع الفتنة بين نسيج المجتمع الواحد.
المكايدة فوق الاعتبارات الاقتصادية
المكايدة السياسية الذي يمارسها ماكرون تجاه المسلمين سيكون لها تبعات كارثية على الاقتصاد الوطني لبلاده، فحظر ذبح الدواجن على الطريقة الإسلامية، وما قبلها من حديث عن منع اللحم الحلال من التداول في المتاجر والمراكز التسويقية سيكبد البلاد خسائر بالمليارات.
ويمثل الطعام الحلال (يقصد به الطعام المُباح أو المسموح بتناوله في الإسلام، وفقًا لضوابط شرعية معروفة) أحد المحركات الأساسية للتجارة الدولية، وتشير التقديرات إلى أن هذا السوق في العالم يبلغ نحو 1.5 تريليون دولار، كما أنه يمثل ركنًا أصيلًا في الاقتصاد الفرنسي على وجه الخصوص، بقيمة سوقية تبلغ 5.5 مليار يورو فيما ينمو بوتيرة متسارعة تبلغ 7.5% سنويًا، الأمر الذي يجعل هذا المنتج سوقًا مغريةً للكثير من المستثمرين، مسلمين وغير مسلمين.
وبعيدًا عن الآراء غير الموضوعية التي تشير إلى أن هذه التجاره تصب في النهاية في صالح المسلمين، فإنه وفق إحدى الدراسات التي أجراها المركز الإسلامي لتنمية التجارة التابع لمنظمة التعاون الإسلامي قبل أعوام فإن 80% من إمكانات هذا السوق تستفيد منها شركات تابعة لدول غير مسلمة.
تبقى إستراتيجية “الهروب للأمام” عبر الباب الكبير المسمى بـ”الإسلاموفوبيا” سياسة ماكرون الأكثر استخدامًا لغض طرف المجتمع الدولي عن الانتهاكات التي يمارسها، سواء ضد معارضي بلاده في الداخل أم دعم الأنظمة الديكتاتورية في الخارج
وتعد فرنسا أحد أبرز دول أوروبا استهلاكًا للحم الحلال، نظرًا لحجم الجالية المسلمة بالبلاد، التي تتراوح أعدادها بين 5-6 ملايين مسلم، فيما يتحدث اليمين المتطرف عن عشرة ملايين، ما يجعلها سوقًا رائجًا لهذه التجارة، فيما تحولت باريس خلال الأعوام الماضية إلى قبلة مسلمي أوروبا الباحثين عن هذه النوعية من المنتجات لا سيما من مواطني الدول التي تفرض قيودًا عليها.
استهداف ماكرون للمسلمين رغم تبعات ذلك الاقتصادية والسياسية أثار اهتمام الكثير من الباحثين والمحللين، فيما ذهب تيار كبير من السياسيين إلى أن الوضعية الحرجة التي بات عليها الرئيس الفرنسي الذي يعاني من تراجع كبير في شعبيته، دفعته لمغازلة التيارات العلمانية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فلم يجد أفضل من العنصرية ضد الإسلام لتقديم أوراق اعتماده لدى أنصار اليمين المتطرف، لا سيما بعد النفوذ الكبير الذي حققه هذا التيار في أوروبا بصفة عامة في الآونة الأخيرة.
وفي المحصلة، تبقى إستراتيجية “الهروب للأمام” عبر الباب الكبير المسمى بـ”الإسلاموفوبيا” سياسة ماكرون الأكثر استخدامًا لغض طرف المجتمع الدولي عن الانتهاكات التي يمارسها، سواء ضد معارضي بلاده في الداخل أم دعم الأنظمة الديكتاتورية في الخارج، لتتساقط الأقنعة المزيفة يومًا تلو الآخر، كاشفة عن عنصرية قبيحة لم يسمع عنها الفرنسيون منذ عصر الاستعمار القديم.