ترجمة وتحرير/ نون بوست
في مثل هذه الفترة من السنة الماضية، شاهد العالم هارفي واينستين وهو يغادر قاعة المحكمة في نيويورك بعد إدانته أخيرًا بتهم الاعتداء الجنسي. وبالنسبة للكثيرات منا، كان ذلك بمثابة تحول يبعث على الأمل في سجل القانون المُعيب الذي كان يسمح للرجال الأثرياء بالإفلات من العقاب بعد التعامل مع أجساد النساء كأنها ملكية خاصة.
شاهدت لحظة إصدار هذا الحكم التاريخي على التلفزيون بمفردي في منتجع على الشاطئ في عمان. كانت الشمس قد غرُبت فوق المحيط الهندي، وكان بإمكاني سماع صوت كؤوس الأزواج الذين يقضون شهر العسل في الحانة الموجودة قرب حمام السباحة في الأسفل.
مع انتشار الأخبار التي كانت تغطي هذا الموضوع، قمت بتصفح حسابي على إنستغرام وشاهدت الرجل الذي اعتدى عليّ جنسيا قبل ذلك بأسبوع، الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، وهو يصفق على منصة عملت بجد على بنائها.
أرسلت رسالة نصية إلى مديري: “أعلم أنك جمعت مرابيح خيالية اليوم، ولكن مع مشاهدة الحكم الذي صدر في حق واينستين في الأخبار ومع قيام نهيان بلعب دور الرجل الطيب يوم افتتاح المهرجان، لم أعد أستطيع التزام الصمت بشأن ما فعله بي، ولكنني أيضا لا أريد إفساد الأمور عليك وعلى الفريق”.
“لا أريد إفساد الأمور عليك وعلى الفريق”، كان ذلك العائق الوحيد في حياتي، حتى الآن. كانت تلك اللحظة بمثابة بداية لرحلة دامت سنة بأكملها لمحاسبة مهاجمي، وإعلان ذلك على الملأ بشكل واضح لأن الآخرين لا يستطيعون ذلك.
خلال تلك الفترة، واجهت محاولات عديدة لإسكاتي، وأحيانا من قبل الأشخاص الذين يعرفونني ويحبونني كثيرا. وجدت أيضا من يساندني، وواجهت ضجة إعلامية، واكتسبت فهما مباشرا للسبب الذي يجعل إدانات الاغتصاب في إنجلترا وويلز منخفضة، حيث تقل عن ثلاثة بالمئة .
إننا نسمع الكثير عن هذه الإخفاقات – المحاكمات المعلقة، والقضايا التي تعتبرها دائرة الادعاء الملكية خاسرة – ولكننا نسمع أقلّ عما يحدث بعد ذلك: العار الشديد الذي يلحق بالضحية بعد التعرض للاغتصاب وحدود العدالة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأغنياء والأقوياء. وقد كنت على وشك معرفة ذلك.
قبل ستة أشهر، اتصل بي مؤسس مهرجان “هاي”، بيتر فلورنس، وطلب مني السفر من لندن إلى أبو ظبي لتنظيم النسخة العربية من معرض الكتاب الويلزي. ولكنني كنت مترددة، إذ لم يمض وقت طويل على عودتي إلى لندن بعد ما يقرب من عقد من الزمان في الخارج، وكانت الحياة جيدة بالنسبة لي. لقد أحببت رحلتي اليومية للعمل في مقر “بي بي سي”، وقضاء عطلات نهاية الأسبوع مع أصدقائي، وكنت أستطيع ركوب القطار بسهولة عائدة إلى ويلز لرؤية جدتي. ولم يُفلح معي نفاق التعاون مع نظام قمعي على منصة قائمة على حرية التعبير أيضًا.
لكنني شاركت في هذا المهرجان منذ أن كنت في سن المراهقة، حيث نشأت في المدينة التي تتخذها إدارة المهرجان مقرا لها. كما تخصصت في الدبلوماسية الثقافية منذ أن درست السياسة في الجامعة، وتعاونت مع منظمات الفنون والإعلام في جميع أنحاء العالم العربي. لم أكن أرغب في أن أكون بيدقا في دعاية شركات العلاقات العامة الإماراتية، ولكنني كنت أعتقد أنني قد أفوت على نفسي فرصة الانضمام إلى منظمة ثقافية بريطانية تؤيد مقاطعة التعامل مع دولة تستثمر بالفعل في قطاعها الفني. لهذا السبب قبلت العمل.
عند وصولي إلى أبو ظبي في شهر أيلول/ سبتمبر 2019، قيل لي إن عقدي مع مهرجان “هاي” باطل وأنني سأعمل بدلا من ذلك مع الشريك الإماراتي للمهرجان، وهي وزارة التسامح. وكانت الترجمة الإنجليزية تجعل هذا الصوت أكثر أورويلية من أصله العربي؛ علما بأنني لم أوقّع على عقد للعمل لصالح حكومة الإمارات العربية المتحدة. ولكنني كنت قد تركت بالفعل وظيفتي في لندن واستأجرت شقة. وقلت في نفسي إنها مجرد ستة أشهر وقررت الاستفادة منها على أفضل وجه.
حجزت لي الوزارة في فندق فخم على الطراز المغربي من فئة خمس نجوم يطل على بحر العرب، وكان لدي مكتب داخل الوزارة، عملت فيه أياما طويلة وحيدة أواجه الصعاب الدبلوماسية: كنت أحاول بناء واجهة عرض متألقة لأحظى بثناء الوزارة، مع الحفاظ أيضا على نزاهة مهرجان “هاي”. ولكنني حظيت أيضا بامتيازات هائلة إلى جانب هذه التحديات.
كان لدي الحرية الإبداعية والميزانية لتحويل الأفكار إلى واقع. سافرت إلى الإمارات العربية المتحدة للعثور على كتّاب وناشرين جدد؛ وأقنعت فنانين مثل برناردين إيفاريستو والحائز على جائزة نوبل وولي سوينكا باستضافة ورش عمل مجانية للعمال المهاجرين والطلاب المحليين؛ وتعاونت مع شبكة “بي بي سي عربي” لعرض أفلام من إخراج نساء؛ وكافحت من أجل فرقة “مشروع ليلى” اللبنانية التي تدافع عن حقوق المثليين العرب لتقديم عروض في بلد لا تزال فيه العلاقات المثلية غير قانونية.
طلبات عقد الاجتماعات غير المخطط لها وركوب السيارات الرسمية دون أي فكرة عن المكان الذي تتجه إليه، ليست سوى إجراءات اعتيادية
جعلني العمل داخل الوزارة أحتكّ بالمجتمع الإماراتي المضياف والمرح إلى جانب فريق مهرجان هاي الذي يعمل عن بُعد في ويلز، والذي شعرت وكأنه أسرتي. كان هناك ضباب على نظارتي الشمسية عندما خرجت من سيارتي التي يقودها سائق خاص. لقد كنت بعيدة حوالي مليون ميل عن حياتي في لندن ولم أستطع تحديد ما إذا كنت أحب أو أكره حياتي الجديدة. قمنا بتنظيم تظاهرة نفخر بها: بحضور 80 من الكتاب والمفكرين والفنانين المشهورين دوليًا على امتداد أربعة أيام، والذين من المقرر أن يتواصلوا مع حوالي 3900 طالب من 81 مدرسة في الإمارات العربية المتحدة.
على غرار العديد من المنظمات الفنية الأخرى، واجه مهرجان “هاي” العديد من الانتقادات بسبب قرار إقامته في بلد يعتقل بانتظام سجناء الرأي. في ذلك الوقت، كان المهندس والشاعر الإماراتي أحمد منصور (ولا يزال) في الحبس الانفرادي على بعد عدة أميال من موقع المهرجان، بسبب نشاطه السلمي حول حرية التعبير. لقد كنت أنا وبيتر نعمل بهدوء مع مجموعات حقوق الإنسان الدولية للعثور على طريقة لتقديم المساعدة، وقد تواصلنا مع شركائنا في الوزارة لمعرفة ما إن كان بإمكانهم الاستفادة من منصة المهرجان لممارسة التسامح الذي يعظون به.
تعد النخبة الإماراتية من بين طبقة الأغنياء التي تشكل 1 بالمئة في العالم، حيث تلقوا تعليمهم في الجامعات التابعة لرابطة اللبلاب الأمريكية ومجموعة رسل البريطانية، ويقضون صيفهم في لندن، وشتاءهم في جزر الباهاما. في المقابل، تشمل النخبة بضعا من أكثر الشخصيات المهتمة بمبادئ التعددية والتقدمية الذين عرفتهم على الإطلاق؛ والذين لم أشعر بالخجل عند طرحي بكل احترام أسئلة مباشرة عليهم من قبيل: تزعم عائلة أحمد أنه ليس لديه فراش في زنزانته – هل هذا صحيح؟ هل يمكنني أخذ بعض الكتب إليه في السجن؟ هل يستطيع كتّابنا قراءة شعره على المسرح تضامنا معه، دون تلقي أي أذى؟ لكن في صباح اليوم التالي، قيل لبيتر إننا تجاوزنا الحد، وتلقيت طلبا للقاء وزير التسامح الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان.
أثناء إقامتي، كنت قد قابلت نهيان وأفرادًا آخرين من العائلة المالكة الإماراتية عدة مرات، إلا أن ذلك كان دائما وسط مجموعة في إطار مناسبات رسمية. وفي الحالات النادرة التي جاء فيها إلى وزارته، أحيانا ما طُلب مني الانضمام إلى صف الموظفين الذي كان يصافحهم لدى جولته مع الوفد المرافق له. ذات مرة، صعدت إلى حافلة كانت تقل أكاديميين صينيين زائرين، وتم نقلي إلى قصر حيث عُرض علينا رؤية صقر ثمين، وتناولنا طبق البرياني مع لحم الجمل.
ذات يوم، وقفت في غرفة مليئة بالخناجر العربية لأطلب مساعدة نهيان في الحصول على تأشيرة صعبة للإيرانية الحائزة على جائزة نوبل شيرين عبادي. في جميع تلك الحالات، كنت أبادله التحية العربية التقليدية، أو أشكره على رعايته للمهرجان. قد لا أكون من مناصري الحكم الملكي، لكني أحترم من يستضيفني.
كما يعلم أي أحد يقضي قدرًا كبيرًا من الوقت في الإمارات أن طلبات عقد الاجتماعات غير المخطط لها وركوب السيارات الرسمية دون أي فكرة عن المكان الذي تتجه إليه، ليست سوى إجراءات اعتيادية. كنت متيقنة أن الاجتماع يتعلق بمنصور، وتوقعت محاولات لإيقاف المهرجان على خلفية التحدث بخصوصه. اشتكيت لوالديّ في ويلز بشأن الاضطرار إلى العمل لوقت متأخر، وأرسلت رسالة نصية إلى بيتر كمجرد مزحة: “أشعر وكأنني استدعيت إلى مكتب مدير المدرسة لعرقلة سير الحصة. إذا لم أعد في غضون 24 ساعة، أرسل النجدة”.
غطت تقارير كثيرة حقائق ما حدث بعد ذلك. رفضته بعدة طرق وعدة مرات. بدأ الأمر بعرض كأس من النبيذ (المحرم) وجولة في الفيلا الخاصة به، حيث حاولت يائسةً إبقاء الحديث في حدود الطابع الاحترافي. بعد ذلك، تعرضت لاعتداءات بشكل متكرر وبعنف متزايد. لم يكن العنف جسديا فقط. لقد كنت محاصرةً، دون وسيلة للخروج عبر نقاط التفتيش التي لا يمكن تجاوزها سوى عن طريق سائقه الخاص، ولم أكن أعرف أبدًا ما ستحمله اللحظة التالية أو كيف ستنتهي. حتى دون نطق أحدنا بها، كانت الحقيقة أن نهيان يتمتع بالسلطة على نجاح المهرجان أو فشله، إلى جانب وظيفتي وإقامتي وتأشيرة الخروج الخاصة بي.
بعد أربع ساعات، أودعوني في المقعد الخلفي لإحدى السيارات. كنت قد تمكنت من إرسال رسالة نصية إلى بيتر، قائلة إنني بحاجة إلى الخروج، وأظهر هاتفي عدة مكالمات فائتة ورسائل تعبر عن قلقه. سارعت بالرد عليه: “أنا بخير، تمكنت من مغادرة منزله.. بالطبع لم يكن يريد التحدث معي عن حقوق الإنسان، يا لي من حمقاء”، بينما كنت أكبت دموعي لأبقى على إدراك بالوجهة التي يأخذني السائق إليها.
ذهبت إلى ذلك الاجتماع بصورة مهنية، لكنني لم أستغرق وقتًا طويلاً حتى أدركت أنني لم أكن سوى ألعوبة بالنسبة له. كنت على علم بكيفية سير الأمور: بدلاً من التصدي لسلوك الرجال، يتم إخبار النساء بأنه من مسؤوليتهن تجنب إرسال إشارات خاطئة. لذلك نختار الكراسي الفردية بدلا من الأرائك، والأكمام الطويلة بدلا من التنانير القصيرة، ونتجنب التواصل البصري.
قيل لنا أيضا إنه ينبغي أن نكون وديعات ولكن ليس بطريقة تميل للمغازلة؛ أن نكون جميلات ولكن ليس بطريقة مغرية؛ أن نكون ممتعات لدرجة لا تطاق. وإذا لم ينجح أي من هذا، فيجب علينا اتخاذ تعبيرات وجه طبيعية، وأن نتجه بكل رفق وأدب إلى مكان آمن. إذا علمتني الحياة أي شيء، فهو أن وليم كونجريف أشار إلى الجنس الخطأ في جملته: “ليس للجحيم غضب يماثل غضب امرأة محتقرة”.
اليوم، وبعد سرد التفاصيل عدة مرات – للدبلوماسيين والأطباء والشرطة والمحامين – لم أعد أشعر بقدر كبير من العواطف الجياشة أثناء حديثي عما حدث. لكن بعد الاعتداء مباشرة، حينما كان من لجأت إليهم يلتفون بشكل محرج حول الأسئلة الحساسة، لم يكن باستطاعتي تسمية ما حدث لي على حقيقته: “اغتصاب”، وذلك بموجب قانون الجرائم الجنسية في المملكة المتحدة لسنة 2003، و”تعذيب” – كما جادل محاميّ في وقت لاحق – بموجب قانون العدالة الجنائية لسنة 1988 واتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة.
بدلاً من ذلك، حاولت بشدة التفكير في طرق لإعادة تأطيرها، والإتيان بنسخة تجعلها مجرد قصة طريفة أخرى من رحلتي الخارقة للعادة؛ وتخفف من شعوري بأني ضحية؛ ولا تعطل المهرجان؛ وتخرجني من محادثة غير مريحة مع رئيسي. عبر مكالمة هاتفية في تلك الليلة، سألني بيتر عما إذا كان ما حدث يشبه قضية واينستين، فأجبته بنعم. فأعطاني رقم بطاقته الائتمانية وطلب مني حجز رحلة العودة إلى الوطن على الفور.
لكنني لم أستطع فعل ذلك: فقد كنت أنا نقطة الاتصال الرئيسية لمهرجان من المقرر أن يبدأ في غضون أسبوع؛ كان لدي زملاء وموظفون وفنانون يعتمدون عليّ. كما أنني سأواجه عواقب قانونية ومالية نتيجة خرق قوانين العمل الإماراتية. لذلك، غادرت أبو ظبي واختبأت في أحد فنادق دبي تحت اسم مستعار، وأبلغت عما حدث للقنصلية البريطانية. سافر بيتر للانضمام إلي، وكانت نصيحة الجميع هي مغادرة البلاد. شعرت بغضب شديد تجاه إيذائه لي، وأنه يُطلب مني المغادرة بسبب أهواء رجل ذي سلطة. عبرت الحدود إلى عُمان، ومن هناك عدت إلى المملكة المتحدة. ومضى المهرجان من دوني.
لم أرغب أبدًا في مشاركة هذه القصة لأنني أقدر خصوصيتي للغاية. لقد نشأت مع أخواتي الخمس في قرية على الحدود الويلزية، وكما يعلم أي شخص لديه عائلة كبيرة في مكان صغير، فإن قيمة الخصوصية تعتبر ثمينة وعليك المحافظة عليها قدر الإمكان. في الصغر، اعتدنا على نصب خيام باللحاف لبناء ركن خاص لمشاركة قصصنا بشكل مطمئن في السرير.
عندما كنت مراهقة، كنت أقنع نفسي بأن طلب التوصيل من الغرباء رفقة أصدقائي إلى الحانات على طول الطرق الريفية لن يكشف عن هويتي، ولكني لم أكن أدرك أن كل من وافق على اصطحابنا يعلم أنني من بين فتيات عائلة مكنمارا: لقد كانوا يعرفون والدي، وحتى أسماء كلابنا. بقيت هذه الرغبة في عدم الكشف عن هويتي راسخة في حياتي إلى غاية وصولي إلى مرحلة البلوغ، حيث خضت مغامراتي وعلاقاتي الغرامية والمهنية والاجتماعية بعيدا عن الإنترنت. وفي سعيي لتحقيق العدالة، سمحت لوجهي والتفاصيل الدقيقة لجسدي بأن تصبح ملكية عامة على الإنترنت.
عند وصولي إلى المنزل، ومع الإغلاق الأول للمملكة المتحدة، سارعت إلى مشاركة ما حدث. تجاهلني البعض، بينما قلل البعض الآخر من شأن قضيتي. تعاطف الكثيرون معي، لكن سرعان ما بدء الجدل. كان الخوف والقلق الذي أظهره الأشخاص الذين يحبونني هو الذي كشف عن مدى تمسك المجتمع بالتكتم عن العنف الجنسي. وسمعت أمورا من قبيل: “إنه أقوى من القانون حبيبتي؛ نحن خائفون من أن يلاحقك لاحقا. لن يهتم المحامون لأمرك. سوف يحاولون تشويهك ولن يقبل أحد بتوظيفك بعد ذلك؛ سنساعدك على تجاوز الأمر والمضي قدما”. لقد أحسست بأن تحدي الأشخاص الذين تثق بهم أمر محطم أكثر من مقاومة خصومك، لذلك أخبرت نفسي: ألم أصرخ بصوت عالٍ بما فيه الكفاية؟ هل كان الهجوم بهذا السوء حقا؟
كان تدوين هذه الكلمات مؤلما جدا، أنا لا أفعل هذا من أجل كسب التعاطف أو طلب الاهتمام، وإنما لأنني يائسة من إقناعكم بمدى الذعر الذي يمكن أن يشعر به الشخص عندما تقابل معاناته بالصمت
مكثت في شقتي بمفردي بينما كان العالم يعاني من انتشار الوباء: عاطلة عن العمل وازداد وضعي الصحي سوءا. لطالما كنت من بين الأشخاص الصباحيين، لكن بدأت أعاني للنهوض من السرير. توقفت عن الأكل وصرت أعاني من اضطراب كشط الجلد النفسي. ولا يزال كابوس آل نهيان يوقظني مرتعبة في الليل. كان تدوين هذه الكلمات مؤلما جدا، أنا لا أفعل هذا من أجل كسب التعاطف أو طلب الاهتمام، وإنما لأنني يائسة من إقناعكم بمدى الذعر الذي يمكن أن يشعر به الشخص عندما تقابل معاناته بالصمت بعد التعرض للأذى. كنت أعرف أنني لست على ما يرام (تم تشخيصي لاحقا باضطراب ما بعد الصدمة)؛ لكن العزلة التي فرضها كوفيد-19 جعلتني في حالة يرثى لها.
تمكنت في النهاية من تلقي المساعدة التي أحتاجها. تحدث بيتر إلى هيلينا كينيدي عن قضيتي. ومع رفع الإغلاق، توجهت نحو لندن لمقابلتها. بينما كان أحفادها يركضون حول الحديقة، استقبلتني للاستماع إلى قضيتي. وإثر ذلك، أصبحت تحت رعاية أفضل شركات المحاماة في المملكة المتحدة لتمثلني مجانا في دعوى جنائية. في الصيف الماضي، رافقتني كينيدي إلى سكوتلاند يارد. بعد أن أدليت بإفادتي، قامت الشرطة بتركيب أجهزة إنذار في شقتي. ورُفعت معنوياتي، وعدت إلى العزف على البيانو من جديد، ومارست تمارين التأمل وتلقيت العلاج. هذا بالإضافة إلى الرعاية التي تلقيتها من هيئة الخدمات الصحية الوطنية، والدعم الذي حظيت به من القائمين على مهرجان هاي ومن عائلتي. لقد تمكنت من التخلص من الخوف والعار، والخروج ببطئ من محنتي.
مازلت لا أصدق كم كنت محظوظة لتلقي المساعدة، لكن من الخطأ أن يكون ذلك بفضل امتيازي واتصالاتي الخاصة. بعد الاعتداء مباشرة، عندما كنت أحاول محاربة هذا بمفردي، كان أقصى ما وصلت إليه هو قائمة انتظار مغلقة لمركز صحايا الاغتصاب يعاني من نقص التمويل، ومحامي طلب أموالًا تفوق ما أكسبه في سنة.
لم أرغب أبدا في التنكيل بآل نهيان. إننا نعيش في عالم فوضوي يُربي فيه الأولاد على الإيمان بأن الطريقة التي تعزز رجولتهم تكون من خلال إخضاع النساء وقهرهن. ليس من المستحيل تخيل وجوده في مثل هذه الفقاعة من السلطة غير المنتخبة والامتياز المالي. أنا فقط أريده ومن حوله أن يفكر مرتين قبل أن يؤذي النساء الأخريات.
لكن بحلول تشرين الأول/ أكتوبر من السنة الماضية، لم أتلق أي خبر من النيابة العامة. مع مرور كل شهر، شعرت بأن احتمال تحقق العدالة آخذ في التلاشي. لذلك أجريت مقابلة مع صحيفة “صنداي تايمز”، التي توجهت إلى آل نهيان للتعليق. وقد ردّ محاموه: “إن موكلنا متفاجئ ويشعر بالأسف من هذا الادعاء الذي بلغه بعد ثمانية أشهر من الحادث المزعوم وعبر صحيفة وطنية”، وذلك على الرغم من أن بيتر ومدير مهرجان هاي أخبروا الوزارة بالاعتداء في اليوم نفسه قبل انتهاء المهرجان.
دعوت الله أن تمر المقابلة بسلام. ومن بين المواقف اللطيفة البديهية التي بقيت راسخة في ذهني، مساندة صديق اصطحبني إلى الريف في نزهة على الأقدام بينما كنت أنتظر نشر المقابلة. كنا نقود السيارة عائدين إلى لندن عندما بدأ هاتفي في الرنين الذي توقف بالكاد منذ ذلك الحين.
لا شيء يمكن أن يهيئك لأن تصبح محط الأضواء الإعلامية في مثل هذه القضية الحساسة. كانت محطات التلفزيون على مقربة من منزل والديّ؛ نشرت الصحف الصفراء صورا لأخواتي الصغيرات أخِذت من مواقع التواصل الاجتماعي؛ لقد نُصحت بالانتقال من أجل سلامتي؛ بينما اتهموني عبر الإنترنت بالكذب ووصفوني بالساذجة التي تبحث عن الاهتمام.
لقيد وصلتني تعليقات من قبيل: “سوف تموتين في غضون أسبوع. إنها ليست جميلة بما يكفي لجذب انتباه رجل يمكنه الحصول على ما يريد. من الغباء أنها كانت وحيدة في الشرق الأوسط”. ولعل التعليق المفضل بشكل خاص: “كان يومها عيد الحب”. يجب أن يجعلوا يوم 14 شباط/ فبراير إجازة مدفوعة الأجر للنساء إذا كان الحضور للعمل في هذا اليوم يعتبر مضللا.
في 30 تشرين الأول/ أكتوبر، بعد أسبوعين من نشر مقابلتي، تلقيت حُكم النيابة العامة. لن يتخذوا أي إجراء – ليس لأنهم لم يكونوا مقتنعين بأن الاعتداء يرقى إلى مستوى الاغتصاب لو حدث على أرض المملكة المتحدة، وإنما لأن الدليل كان يجب أن يتناسب مع الشروط القديمة المطلوبة للمحاكمة بموجب القانون الدولي. لقد استوفى الادعاء معيارين من المعايير الثلاثة، لكن ليس الثالث: أن نهيان أساء التصرف أثناء أداء واجباته الرسمية. بغض النظر عن كل الأدلة التي تؤكد أن الاجتماع كان اجتماع عمل، لماذا يعتبر فهمه لما حدث أكثر أهمية من فهمي؟ ولماذا يجعل ذلك العنف الذي حدث مقبولاً؟ تقدمت بطلب مراجعة قضائية. وفي نهاية كانون الأول/ ديسمبر، أعيد تأكيد قرار دائرة الادعاء الملكية.
لطالما عرفت مدى صعوبة تحقيق العدالة الجنائية، بسبب مكانة آل نهيان. قبل أربعة أيام من استلام الحكم في كانون الأول/ ديسمبر، استضاف الأمير تشارلز وبوريس جونسون ثلاثة أفراد آخرين من آل نهيان، بما في ذلك ولي العهد الشيخ محمد، راعي مهرجان “هاي” أبوظبي. بعد ذلك، أصدرت رئاسة الوزراء بيانًا تقول فيه إن جونسون يتطلع إلى المشاركة في معرض دبي إكسبو في وقت لاحق من هذه السنة. وكان الرجل الذي اعتدى عليّ جنسيا هو المفوض العام.
في مثل هذه اللحظات، من الصعب ألا تشعر بأعباء إضافية تثقل كاهلك. في السنة الماضية، بلغ إجمالي صادرات المملكة المتحدة إلى الخليج 14 مليار جنيه إسترليني. وبعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أصبحنا نعتمد على هذا الشريك التجاري أكثر من أي وقت مضى. تمتلك عائلة آل نهيان نادي مانشستر سيتي لكرة القدم. ويمتلك رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، 5.5 مليار جنيه إسترليني من العقارات في لندن وحدها. أكدت لي كل من وزارة الخارجية ودائرة الادعاء الملكية أنه لا يمكن محاسبة الجاني في بلادي، ولكن بالنظر إلى مدى تقاعس الحكومة في البحث عن أميرات دبي المختفيات، سأكون حمقاء إن لم أتساءل.
يظل الرجال الأقوياء حراس بوابات جميع قطاعات المجتمع تقريبًا، وغالبًا ما يسيئون استخدام مكانتهم وثرواتهم لفعل ما يحلو لهم بالنساء والفتيات مع ضمان الإفلات من العقاب
عرضت وزارة الخارجية تقديم الدعم لي في حال الذهاب إلى أبو ظبي والإبلاغ عما حدث محليًا، لكن محاميّ أكدوا لي أنه لا يمكن لأحد هناك أن يرفع دعوى ضد أحد أفراد العائلة المالكة والوزير بطريقة مستقلة. وعندما اتصلت بي صحيفة “الغارديان” الأسبوع الماضي، قال متحدث باسم وزارة الخارجية: “إننا نأخذ أي تقارير عن اعتداء جنسي في الخارج على محمل الجد. يظل موظفونا على اتصال بالسيدة ماكنمارا وسنواصل بذل كل ما في وسعنا لدعمها. تم تصميم الدعم دائمًا لتلبية المصالح الفضلى للأشخاص الذين نساعدهم. ولا توجد عوامل أخرى متضمنة في صنع القرار لدينا “. ومن جهته، لم يستجب آل نهيان لطلبات التعليق.
إن الطريق القانوني الوحيد المتبقي الآن سيكون رفع دعوى مدنية، أو الانضمام إلى دعوى جماعية. عندما تم اقتراح الطريق المدني لأول مرة، كنت مصرة على عدم رغبتي في رفع دعوى. شعرت بالغثيان من فكرة وضع مبلغ مالي كتعويض على ألمي. كنت أيضًا على دراية تامة بثروة نهيان وكيف يمكن أن يُتصوّر ذلك.
لكن بعد سنة طويلة من التعلم من النشطاء والخبراء القانونيين والناجيات الأخريات، صرت أفكر بشكل مختلف. يمكن تعريف ما حدث لي على أنه “جنسي” من الناحية القانونية، لكنه مع ذلك يبدو خاصا مثل حادث سيارة. لو كان نهيان قد ضرب سيارتي بسيارته، لما فكرت في المطالبة بأضرار. ولكن هل استهداف العنف لجسدي سبب كفيل لأن أخاف من أن يتم نعتي بالفتاة الاستغلالية؟ أعتقد أن ما أعانيه في حياتي بسبب جريمته أمر لا يمكن تعويضه بالمال.
لقد بدأت للتو في فهم عواقب وجود تجربة مثل تجربتي منشورةً على الإنترنت. لقد كنت محظوظة. فلدي سمعة مهنية قوية، والآن أنا في علاقة جديدة، ولدي دعم ثابت من العائلة والأصدقاء. أنا بأمان لأحرر نفسي من وطأة هذه التجربة على نفسي من خلال التحدث علانية؛ لكن بالنسبة للعديد من الناجيات الأخريات، فإن هذا من شأنه أن يخلق مجموعة مختلفة من الضغوط والمخاطر. ماذا عن المرأة التي بدأت للتو مسيرتها المهنية؟ أو تبحث عن حبيب على تطبيق مواعدة؟ عليهن التعايش مع القلق الأبدي المتمثل في “ماذا لو بحثوا عني في غوغل؟” ويتم تعريفهن بكل ما يستتبعه الاعتداء من أوصاف مهينة.
مع ذلك، ما زلت أعتقد أن البديل – أي الصمت – سيكون أسوأ. لقد وصفني العديد من الأشخاص ذوي النوايا الحسنة بالشجاعة للتحدث عما حدث معي، ولكن لا ينبغي أن يكون الشخص شجاعًا لقول ما حدث. لو لم أفعل، لكان هذا الحمل السام من الخوف والغضب قد دمرني. إن الشجاعة الحقيقية هي لأولئك الذين يجبرون على التزام الصمت.
لقد أجبرت الكثير من النساء على التزام الصمت. منذ تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، تلقيت رسائل بشكل يومي من نساء يعطينني لمحة عن القواسم المشتركة المذهلة حول هذه القضية. الأمر ليس فقط #أنا أيضا، إنها والدتي أيضًا، وأختي أيضًا، وصديقتي أيضًا. واحدة من كل خمس نساء في المملكة المتحدة، وواحدة من كل ثلاث نساء على مستوى العالم، تعاني من الاعتداء الجنسي خلال حياتها. ومع ذلك، غالبًا ما يكون الصمت هو الحل الموصى به، وهو ما يعطي الجناة بالضبط ما يعتمدون عليه، وما يؤدي إلى تحميل الضحايا صدمة ثانوية من العار والعزلة. هذا إلى حانب وصمة العار الإضافية التي تواجه الناجيات من الأجناس والهويات الأخرى.
في النهاية، هذه ليست قضية مخالفات فردية، بل قضيةً عالمية ومستمرة. يظل الرجال الأقوياء حراس بوابات جميع قطاعات المجتمع تقريبًا، وغالبًا ما يسيئون استخدام مكانتهم وثرواتهم لفعل ما يحلو لهم بالنساء والفتيات مع ضمان الإفلات من العقاب.
قبل سنة واحدة، في غرفة فندق عمان تلك، شاهدت محامية الادعاء غلوريا ألريد تخاطب المراسلين أمام محكمة مانهاتن بعد صدور حكم واينستين قائلة: “هذا هو عصر تمكين المرأة ولا يمكنكم تخويفهن بعد الآن”. لكن الأمر لم ينته بهذه الطريقة بالنسبة لي، أو لم يحدث بعد على أي حال. ولئن بدت إدانة واينستين وكأنها لحظة مفعمة بالأمل، فإن أي تفاؤل شعرت به قد انتهى منذ فترة طويلة.
بينما نواصل الكفاح من أجل جعل القانون منصفًا لواقع المرأة، فإن كل ما لدينا هو قصصنا. ليست مهمتنا “المضي قدمًا”، بل التحدث علنا عن مآسينا. التحدث للتخلص من عارنا. التحدث بصوت عالٍ للتخلص من الإذلال الذي شعرت به كل امرأة تعرضت لمثل هذه الأزمة. هذه القصص هي التي ستدفع القانون إلى الأمام. كلما تشاركنا ووقفنا مع بعضنا البعض، قل تجاهلنا.
المصدر: الغادريان