يحتفل العالم الغربي بعيد الأم في شهر مايو/أيار من كل عام، بينما تحتفل معظم دول العالم العربي بهذه المناسبة في 21 من مارس/آذار من كل عام.
وكما هو معروف فإن كلا العالمين لهما خصائصهما المختلفة في الثقافة والاقتصاد والسياسة وغيرها، لكن المفارقة أنهما يجتمعان في سياسية التمييز ضد الموظفات والعاملات الحوامل.
لعل المفارقة تتضح أكثر عندما يضج اليوم الذي يوافق عيد الأم بعبارات تعظيم وتمجيد الأمهات، ويتم الاحتفاء بهن وتكريمهن من المؤسسات الرسمية والشركات الخاصة والمنظمات الكبرى، في الوقت الذي تتسبب فيه ذات الأماكن للأمهات العاملات أو الحوامل أو حتى اللاتي يخططن للحمل بمتاعب كبيرة، قد تصل حد الفصل من العمل أحيانًا.
تكشف شكاوى الأمهات العاملات اللاتي يخدمن في ساحات عمل مختلفة حقيقة ما يروج له أرباب العمل فيما يتعلق بالموازنة بين الجنسين في المناصب ودعم النساء وتوفير البيئة المناسبة لهن في العمل بغض النظر عن حالتهن الاجتماعية.
وقائع صادمة
“أنا لن أعود إلى Google بعد إجازة الأمومة، وإليكم السبب”، بهذه الجملة الصادمة بدأت السيدة تشيلسي جالسون، وهي مديرة سابقة لدى شركة جوجل العالمية، مذكرة لأحد المواقع بهدف توعية النساء بشأن التمييز الذي يتعرضن له في أماكن العمل بسبب الحمل أو إجازة الأمومة.
جالسون التي شاركت المذكرة باسم مستعار، لم تتوقع أن تتحول قضيتها إلى قضية رأي عام تثير من جديد ظاهرة التمييز الذي تتعرض له النساء في أماكن عملهن سواء بسبب قرار الحمل أم بسبب إجازة الأمومة.
أثارت مذكرة جالسون غضب العديد من المنظمات الحقوقية والنساء العاملات حول العالم، إذ تضمنت سطور المذكرة تفاصيلًا تكشف التناقض الكبير بين الذي تروج له الشركة العملاقة من تقدير النساء وإيفائهن حقوقهن، والواقع المؤلم الذي أعلنت جالسون تعرضها له.
تنتشر في العالم العربي الآلاف من شكاوى تمييز المشغلين ضد العاملات الحوامل، تنوعت بين تقليص الراتب أو التهميش في العمل
وبالرجوع إلى تفاصيل المذكرة تقول جالسون: “تعرضت خلال فترة حملي إلى تمييز عنصري كبير من مسؤولي في العمل، وتم حرماني من المشاركة في بعض المشاريع وتجاهلي في الاجتماعات”، وأضافت أنها تقدمت بشكوى إلى قسم الموارد البشرية بشأن ما تتعرض له من تمييز، وأكد لها قسم الموارد أنه سيدرس شكواها ويتابع الموضوع.
لكن ما حدث في الواقع، أن الشكوى وصلت إلى مسؤوليها في العمل، وبدلًا من أن يتم دعمها من القسم المختص في الشركة أو تصحيح التصرفات التمييزية، ازدادت تصرفات مسؤوليها سوءًا معها وتحولت هذه التصرفات إلى سلوك انتقامي، فقد أخبرها مسؤولها أنها ستعمل ضمن فريق ولن تتمكن من ممارسة عملها كمديرة إلا حين عودتها من إجازة الأمومة.
ليس هذا فحسب، بل إن الشركة وضعتها طوال الوقت تحت ضغط نفسي كبير أثر جديًا على سلامتها النفسية، إذ استمرت في تلقي عبارات مثل: لن يعود عملنا كالسابق، وبعد عودتك، ستتغير الإدارة على نحو أسوأ، وبعد ولادتك، سيهتز القارب الذي نعمل به.
لم تكن مذكرة تشيلسي جالسون هي الأولى من نوعها فيما يتعلق بالممارسات التمييزية ضد النساء أو ضد العاملات الحوامل في أماكن العمل، إذ تسربت شكاوى أخرى من عاملات حوامل في شركات كبرى كان من بينها شركة “وول مارت” الأمريكية وهي إحدى أكبر شركات التوظيف الخاصة، حيث رفضت إدارة الشركة طلب عاملات حوامل منحهن إجازة أمومة مدفوعة الأجر، كما رفضت تخفيف بعض مهام العمل التي تعتمد على حمل الصناديق الثقيلة أو السماح للعاملات الحوامل بالجلوس على كرسي في أثناء تأديتهن لمهامهن.
برزت حوادث مشابهة أيضًا لنساء عاملات في المملكة المتحدة، حيث صرحت سارة ريز – عاملة سابقة في منظمة خيرية ببريطانيا – أنها حاولت التواصل مع مسؤوليها في العمل بعد انتهاء إجازة أمومتها، لكنها لم تتلق أي رد سواء عبر البريد الإلكتروني أم الهاتف، ثم فوجئت بإزالة اسمها عن موقع المنظمة وإبلاغها لاحقًا بقرار فصلها من العمل.
وبالحديث عن التمييز ضد النساء الحوامل في العمل في العالم العربي، نجد أن الوضع لا يختلف كثيرًا عن العالم الغربي بل قد يتفوق عليه في الممارسات التمييزية.
تنتشر في العالم العربي آلاف من شكاوى تمييز المشغلين ضد العاملات الحوامل، تنوعت بين تقليص الراتب أو التهميش في العمل أو الحرمان من الترقية، وقد تصل في بعض الأحيان إلى الفصل من العمل.
ولتضح الصورة أكثر، نضمن بعض الإفادات المنشورة على وسائل الإعلام لنساء عاملات تعرضن للتمييز بسبب الحمل، حيث تقول إحداهن: “لم أكن أعلم أن خبر حملي سيتحول من حدث جميل إلى رخصة للتمييز ضدي، إذ حرمت من زيادة الراتب والترقية، ومن إجازة الأمومة مدفوعة الأجر وانتهى الأمر بفصلي من العمل”.
وتقول أخرى: “منذ علمت مديرتي بخبر حملي، بدأت بتجاهلي وتكليفي بمهام كبيرة على نحو مكثف، تعمدت إقصائي وتجاهلتني، وكان هذا أسلوبها المتبع مع العاملات الحوامل للضغط عليهن وإجبارهن على ترك العمل من تلقاء أنفسهن”، وتضيف أخرى “في أثناء مقابلة للعمل، سألتني اللجنة إذا كنت حاملًا أم لا، وبعد معرفتهم أنني تزوجت حديثًا، لم يتم قبولي بالعمل بذريعة تخوفهم من حدوث فرصة حمل قريبة”.
حلول مبتكرة ولكن
حاولت بعض الشركات الكبرى حول العالم تقديم حلول لمساعدة النساء العاملات لديها فيما يتعلق بموضوع الحمل، فقدمت شركات “فيسبوك” و”آبل” و”جوجل” عرضًا للنساء العاملات لديها بإمكانية توفير خيار “تجميد البويضات” لمن ترغب منهن، ما سيتيح لهن فرصة التركيز على العمل فقط خلال فترة العشرينيات من عمرهن، وفي ذات الوقت تخفيف الضغط النفسي عنهن من الخوف من فقدان فرصة الحمل لاحقًا مع تقدم العمر.
من جهة، يمكننا القول إن مثل هذا العرض يعد إيجابيًا لبعض النساء العاملات اللاتي يضعن حياتهن المهنية أمام الاجتماعية، كما أنه يمثل تحركًا لافتًا من الشركات تجاه توفير بدائل وخيارات قد تكون مقبولة لدى بعض النساء لتجاوز ازدواجية العمل والأمومة.
لكن من جهة أخرى، هل هذا العرض الذي يكلف نحو 10000 دولار أمريكي هو وسيلة لمساعدة الشركات نفسها أم لمساعدة النساء حقًا؟
إذا نظرنا لهذا العرض من زاوية أخرى، نجد أن تلك الشركات العملاقة تطمح في المقام الأول إلى استمرار عمل طواقمها بنفس الكفاءة دون “تنغيص” الأمهات العاملات على الإدارة بأمور مثل إجازات مرضية في أثناء فترة الحمل أو إجازة الأمومة أو الخروج لإرضاع الطفل أو الانشغال الذهني للأم بمولودها الجديد وغيرها من الأمور التي تتعلق بالحمل والأمومة.
وبالنظر إلى الموضوع بعيون النساء العاملات اللاتي لن يقبلن هذا العرض، نجد أن مثلك هكذا عروض ترسخ فكرة التعامل مع العنصر البشري على نحو غير إنساني، إذ لا ترى في المرأة العاملة سوى جهاز مبرمج للعمل فقط دون مراعاة الجانب الإنساني والاجتماعي.
في السنوات الأخيرة، اعتمدت الكثير من النساء على منصات التواصل الاجتماعي للتحدث عما تعرضن له من تمييز في أماكن العمل بسبب الحمل وإجازة الأمومة، ما أعطى زخمًا جديدًا للقضية
يزيد ذلك بالطبع من شعور الموظفات بالضغط النفسي إزاء قرار شخصي للغاية ربما لا يمكن مناقشته أو اتخاذه مع الإدارة، وسيشعرهن ضمنيًا أنهن مملوكات لأرباب العمل وأن حياتهن الاجتماعية ليست أولويتهن، وأن قرار الحمل قضية يمكن أن توضع على طاولة اجتماعات مشغليهم في العمل.
وفي حالة النساء اللاتي لن يقبلن هذا العرض ويلجأن للحمل الطبيعي في الفترة العمرية والزمنية التي يرتئينها مناسبة لهن، سيتعرضن للوم العلني أو اللوم المبطن، بحجة أن الشركة قدمت عرضًا رائعًا لهن رغم كلفته العالية، إلا أنهن سلكنا طريقًا آخر سيقلل من كفاءتهن، وبالتالي سيكون لهذه الشركات ذريعة الضغط على الموظفات الحوامل لإعاقة تطورهن أو وقف ترقياتهن، وفي بعض الحالات طردهن من العمل.
حلول واقعية
في السنوات الأخيرة، اعتمدت الكثير من النساء على منصات التواصل الاجتماعي للتحدث عما تعرضن له من تمييز في أماكن العمل بسبب الحمل وإجازة الأمومة، ما أعطى زخمًا جديدًا للقضية، وجعلها حاضرة دومًا وبقوة على ساحات المنظمات الحقوقية والنشطاء المناهضات لسياسية التمييز ضد المرأة.
حالة التضامن هذه قادت في المدة الأخيرة إلى طرح حلول واقعية قد تناسب غالبية النساء وأرباب العمل معًا، فعند وضع سياسة منظمة أو شركة ما، يجب الأخذ بعين الاعتبار توظيف المرأة بناءً على كفاءتها وعلى حاجة المنظمة لمهاراتها، وبالتالي لا يمكن لومها على أحد أهم أدوارها في الحياة (الدور البيولوجي في الحمل والإنجاب) أو إلغائه أو دفعها للاختيار بينه وبين العمل، لكن ما يمكن فعله هو الموازنة بين طرح حلول بديلة لضمان منح المرأة الحامل أو الأم حقوقها والحفاظ على كفاءتها، وضمان حصول المُشغل على العمل المطلوب.
من الممكن مثلًا تحديد مدة زمنية معينة للمرأة الحامل/حديثة الولادة يتم فيها تخفيض الراتب بنسبة ملائمة، مع تخفيض عدد ساعات الدوام أو تخفيض عدد أيام الدوام أو تحويل الدوام إلى نظام العمل الجزئي أو عبر الإنترنت (إذا كانت طبيعة العمل تسمح بذلك).
من الحلول التي قد تبدو واقعية للشركات أو المنظمات الكبرى الذين لديهم عدد كبير من الموظفين، إقامة حضانة مخصصة للأطفال بجانب مقر العمل أو في مبنى تابع له.
هناك الكثير من الأفكار والحلول التي تطرح فكرة الموازنة بين منفعة العمل ومراعاة المتطلبات الإنسانية للأمهات العاملات أو الحوامل، لكن الأهم لضمان نجاح تلك الحلول هو وجود قناعة لدى إدارة العمل أن هؤلاء النساء لديهن الحق في الحصول على فرص متساوية دون النظر إلى الآثار التي تتركها فترة الحمل أو مسؤولية الأولاد على الأمهات العاملات.
رغم النجاح الذي حققته المنظمات الحقوقية والنسوية فيما يتعلق بفرض قوانين مختلفة تجرم التحرش بالمرأة والعنف المنزلي ومنع الزواج المبكر، ما زال هناك الكثير لفعله لدعم هذه الفئة من النساء اللاتي يخضن صراعات كبيرة للاختيار بين حياتهن الشخصية والمهنية بسبب التمييز الذي يتعرضن له في أماكن العمل.