أبصر المشهد السياسي في الجزائر عشية الانتخابات النيابية التي تقرر إجراؤها في 12 من يونيو/حزيران القادم، صراعًا حادًا بين الإسلاميين والعلمانيين رفع حرارة الشارع الجزائري الذي يشهد حراكًا شعبيًا واسعًا.
البداية كانت بالهجوم الحاد الذي شنه رئيس حركة مجتمع السلم الجزائرية (أكبر الأحزاب الإخوانية في البلاد) عبد الرزاق مقري، على التيار العلماني واتهه بقيادة مؤامرة تستهدف الوصول إلى مرحلة انتقالية ثم انتخابات رئاسية، وقال مقري (يعتبر من أبرز مؤسسي الحركة التي تعرف اختصارًا بـ”حمس”)، خلال مؤتمر صحافي نظمه بداية الشهر الحاليّ: “التيار العلماني المتطرف بصدد قيادة مؤامرة الهدف منها عدم الذهاب نحو الانتخابات، إنهم لا يريدون الانتخابات لأنهم لا يملكون فيها حظًا”.
بين الدين والعلمانية
اتهامات عبد الرزاق مقري الذي يراهن على الحفاظ على حصة حركته في الانتخابات البرلمانية المذكورة لم تتوقف عند هذا الحد فقط، بل قال أمام إطارات حزبه ووسائل الإعلام المحلية والأجنبية: “هناك مؤامرة لمنع الانتخابات يقوم بها العلمانيون والمتطرفون الذين يرفضون الإقرار بالإرادة الشعبية، إنهم يريدون فرض مرحلة انتقالية”، وكشف مقري الذي يتولى رئاسة حركة مجتمع السلم منذ عام 2012 أنهم يحوزون على نفوذ المال والإعلام ونفوذ ما وراء البحر ويريدون قلب المعادلة دون أن يكشف هويتهم.
ولم تنتظر زعيمة حزب العمال اليساري لويزة حنون، مطولًا للرد على هجوم غريمها التقليدي في الساحة السياسية، إذ قالت خلال مؤتمر صحافي نظمته بداية الشهر إن الأحزاب الإسلامية في الجزائر تحاول إفراغ مسار الحراك الشعبي من محتواه الاجتماعي والاقتصادي، واتهمتها بـ”توظيف الدين سياسيًا”.
ومن المسائل الأخرى التي وظفت في هذا الصراع، قانون الأسرة الجزائري الذي صنع الحدث مع بداية التسعينيات إبان سيطرة الإسلاميين على المشهد في الجزائر، إذ طالبت زعيمة حزب العمال اليساري بـ”إلغاء” هذا القانون ووصفته بـ”الظلامي” لأنه في نظرها يمثل “أكبر عنف مسلط على المرأة الجزائرية”.
الرجال والنساء متكاملون في خدمة القيم والصالح العام، فرديًا وأسريًا ومجتمعيًا
وبمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للمرأة، أشهرت حنون إحدى الأوراق التي ناضلت من أجلها طويلًا المتمثلة في “حرية المرأة وحقوقها”، حيث قالت إن قانون الأسرة المعمول به حاليًّا يجعل المرأة قاصرًا على مدى الحياة ويكرس اللامساواة ويؤثر على وجود المرأة في الحياة السياسية، وبحسب حنون فإن “المرأة الجزائرية ليس لها مواطنة كاملة” بموجب هذا القانون، واتهمت القوى الرجعية بضرب المكاسب الديمقراطية وفرض التقهقر في مجال المكاسب الصغيرة التي انتزعتها المرأة الجزائرية.
ولم يهضم المحسوبون على التيار الإسلامي هذه الخرجة، إذ قال عبد الله جاب الله (أحد الوجوه الإسلامية البارزة في الساحة السياسية): “ما يقوم به العلمانيون يدخل في إطار محاربتهم للشريعة ومعاداتهم من يدعو إليها ومحاربتها بكل أدوات الحرب الميسورة لهم”، وذلك في إشارة واضحة إلى مطلب إلغاء قانون الأسرة المستمد من الشريعة، وأكد أن التيار العلماني يجتهد في “فرض الفهم الكنسي للدين وحصره في جانب الشعائر التعبدية، واعتبار المسؤولية عنه مسؤولية فردية، وترويج ذلك في الإعلام وترسيمه في المنظومات التعليمية”.
أما زعيم حركة مجتمع السلم الجزائرية عبد الرزاق مقري، فرد على هذا المطلب بالقول: “الرجال والنساء متكاملون في خدمة القيم والصالح العام، فرديًا وأسريًا ومجتمعيًا”، واعتبر أن صناعة الخصومة بينهم توجه مضر بالإنسانية كلها”.
والإسلام في نظر مقري هو المحرر الفعلي للمرأة، إذ بإمكانها تحسين أوضاعها وبلوغ أعلى مستويات الرقي بالاعتماد على المبادئ والقيم الإسلامية وما يتوافق معها من القيم الإنسانية والتطورات البشرية العصرية.
صراعات وهمية ومفتعلة
أبانت هذه التصريحات بوضوح الصراع المحموم بين الضدين، إذ يسعى كل طرف جاهدًا للحصول على مكاسب سياسية أو الحفاظ على المكاسب التي كان يتمتع بها في حقبة الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة، من خلال الاصطفاف جنبًا إلى جنب واليد في اليد مع السلطة التي تستعد للدخول في مرحلة ثالثة ضمن مسار الخروج من أزمتها السياسية بعد الاستفتاء على الدستور الجزائري أو التخندق في الجهة المعارضة لهذا المسار من خلال رفض جميع المقترحات التي تصب في هذا السياق.
فكل واحد منهما يريد ركوب موجة معنية من أجل الظهور في هذه المرحلة في ظل الانقسام الذي طال النخبة الجزائرية، فهناك نخبة انخرطت في الصراع الأيديولوجي واستعملته كورقة للاسترزاق وصناعة النفوذ لتسوية مصالحها الشخصية والفئوية، وقسم آخر منهزم نفسيًا لا يرجو من الوضع إصلاحًا، خصوصًا بسبب الممارسات السابقة، بينما هناك فئة قليلة تناضل في صمت وتبحث عن مخرجات لها لتعيد قاطرة التغيير إلى سكتها بطرق هادئة وسلمية حسبما يقوله الناشط السياسي والبرلماني السابق محمد حديبي لـ”نون بوست”.
ويضيف أن الصراع القائم بين العلمانيين والإسلاميين محض وهم وأخذ حيزًا أكثر مما يستحق، فكل تيار يحاول “أدلجة” الصراع ببعض الأوراق بينها قانون الأسرة الذي يستعمل كفزاعة لإلهاء الساحة وتغذية المشهد السياسي.
الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين كما الصراع بين البربريين والعروبيين وحتى الصراعات الداخلية في كل تيار هي صراعات وهمية مفتعلة ولا علاقة لها بالزمن والواقع
ويؤكد أن كل جناح يسعى اليوم للدفاع عن مصالحه خصوصًا مع توجه السلطة السياسية في البلاد نحو البحث عن لاعبين جدد غير مستهلكين لرصيدهم أو مشوهين بفعل تزكية ما، فلا يكاد يمر خطاب أو مقابلة تليفزيونية للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، دون أن يؤكد ضرورة فتح الأبواب أمام المجتمع المدني والاهتمام به ليؤدي الدور المنوط به في “الجزائر الجديدة” التي يرافع لأجلها وجعلها شريكًا في التنمية المحلية والحياة السياسية إلى أبعد الحدود.
إذ تبدو بعض الأحزاب غير مطمئنة للمسار الانتخابي الذي تتمسك به السلطة السياسية في البلاد، وهو ما عبرت عن زعيمة حزب العمال اليساري لويزة حنون التي أعلنت عدم مشاركة حزبها في الانتخابات التشريعية المقررة يونيو/حزيران القادم، في ندوة صحافية عقدتها منذ يومين، إذ ألمحت إلى “رغبة السلطة الجزائرية رسكلة نفسها داخل مؤسسة المجلس الشعبي الوطنية (الغرفة الأولى للبرلمان الجزائري)”، في إشارة منها إلى تكتل “نداء الوطن” الذي يضم العشرات من الجمعيات والمنظمات المدنية.
ويجمع متتبعون للمشهد السياسي في البلاد أن هذا التكتل يشكل الورقة التي ستعول عليها السلطة في الانتخابات المرتقبة، ويرجحون تكرار سيناريو حزب التجمع الوطني الديمقراطي (ثاني أحزاب الائتلاف الحاكم خلال رئاسة عبد العزيز بوتفليقة)، فهذا الحزب لم يكن إلا تكتلًا للحركة الجمعوية آنذاك، أنشئ لدعم الرئيس الجزائري الأسبق اليامين زروال.
وفي تعليقه على هذا الصراع، يقول المحلل السياسي والإعلامي الجزائري أحسن خلاص لـ”نون بوست” إن الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين كما الصراع بين البربريين والعروبيين وحتى الصراعات الداخلية في كل تيار هي صراعات وهمية مفتعلة ولا علاقة لها بالزمن والواقع، بل تدل على إفلاس الطبقة السياسية وعدم قدرتها على الإبداع الفكري والسياسي.
ويؤكد أن الجزائريين لا يلتفتون اليوم إلى هذه الصراعات الجانبية والهامشية لأن قضاياهم مركزة من الناحية السياسية على إشكالية قيام دولة القانون وتكريس السيادة الشعبية الحقيقية وحفظ الحريات وكرامة المواطنين، ومن الناحية الاجتماعية على إشكالية غلاء الأسعار وتداعيات أزمة كوفيد 19 ومشكلات العمل والسكن والتزود بالماء والكهرباء والوقاية من الأمراض، فالمثيرون لمثل هذه الصراعات يعملون على إطالة عمر النظام وإفساح المجال لتثبيت هيمنة العصابة الفاسدة المفسدة.
وعن مستقبل هذين التيارين، يتحدث المحلل السياسي قائلًا: “إذا أرادا نيل ثقة الشعب فعليهما الاهتمام بالقضايا السالفة الذكر وإذا أرادا الكوطات فعليهما التحالف مع السلطة السياسية في البلاد ومحيطها”.