لم تعلم “إيمان” ذات الأعوام الـ25 أن فرحتها حين ارتدت فستان العرس قبل عشر سنوات، كانت فرحة مزيفة، وأن الكلمات المعسولة التي غازلت مسامعها أصبحت رصاص نحاس يهشم قوامها، فسرعان ما تحول حلم الحياة الممتعة إلى كابوس يقض مضجعها، حتى وجدت نفسها بعد خمس سنوات فقط من زواجها ملقاة في الشارع ومعها طفلان.
لم تكن الفتاة الريفية القادمة من أقاصي قرى محافظة الدقهلية تدرك حين طرق طارق باب والدها يريد الزواج منها وهي لم تكمل الـ15 عامًا بعد، أنها على موعد مع العذاب، فالسعادة الخادعة التي أوهموها إياها حين أزاغوا بصرها بالذهب والهدايا، لم تدم أكثر من شهرين أو ثلاثة على الأكثر، لتجد الشابة التي كانت في مقتبل العمر، نفسها وقد تحولت إلى بقايا امرأة سقطت في بئر الجهل فدفعت الثمن غاليًا.
الزواج المبكر.. آفة المجتمع المصري، تلك الظاهرة المتجذرة في ريف وصعيد المحروسة، التي يدفع عشرات آلاف الشباب، ذكور وإناث، ثمنًا باهظًا لها سنويًا، في وقت يقف فيه القانون مكبلًا أمام التمسك بأعراف اجتماعية، يفترض أنها بليت منذ سنوات، على أيدي الثورة الحقوقية والتكنولوجية الراهنة.
تعد مصر واحدةً من أكثر الدول عددًا لحالات الزواج المبكر، إذ تشير التقارير إلى وجود قرابة 117 ألف حالة زواج تحت سن 18 عامًا سنويًا (سن الزواج في القانون المصري) دون أي أوراق ثبوتية، بما يمثل نحو 40% من إجمالي حالات الزواج بالبلاد، وفق الإحصاءات الرسمية للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء (حكومي).
موقف القانون والدين
كانت الدولة المصرية على قائمة الدول التي حددت سن الزاوج عند الثامنة عشر للفتاة، ووضعت القوانين التي تجرم زواج القصر بشكل قاطع، محذرة المشاركين في تلك الجريمة، سواء المأذون (من يعقد عقد الزواج) أم والد الفتاة، من الوقوع تحت طائلة العقوبات التي تصل للحبس.
وعليه جاء نص المادة رقم 227 فقرة رقم 1 من قانون العقوبات أنه “يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز سنتين أو بغرامة لا تزيد على ثلاثمئة جنيه (18.76 دولار أمريكي) إثبات بلوغ أحد الزوجين السن القانونية، أمام السلطة المتخصصة لتمرير عقد الزواج القانوني”، هذا بالنسبة للمأذون.
أما فيما يتعلق بأولياء أمور الفتاة القاصر، فتنص المادة 116 مكرر من قانون الطفل رقم 126 لسنة 2008 على أنه إذا تورط أحد الوالدين أو من له الوصاية عليه في تنفيذ زواج أطفال قاصرين، فيعاقب المتورط حينها بمدة لا تقل عن سنتين مع إمكانية مضاعفة العقوبة وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه (625.39 دولار أمريكي) ولا تتجاوز خمسين ألف جنيه (3126.96 دولار أمريكي).
المادة 80 من الدستور تنص على أنه “يعد طفلًا كل من لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره”، فيما تنص المادة الخامسة فى فقرتها الأولى من القانون رقم 143 لسنة 1994بشأن الأحوال المدنية والمعدل بالقانون رقم 126 لسنة 2008: “لا يجوز توثيق عقد زواج لمن لم يبلغ من الجنسين 18 سنة”، أي بمنع الزواج لمن دون الـ18 عامًا، ورفضت المحكمة الدستورية العليا، في سبتمبر/أيلول 2017، طعنًا بعدم دستورية نص هذه المادة في قانون الطفل.
وعلى الجانب الديني، أصدرت دار الإفتاء المصرية أكثر من فتوى تفيد بتحريم زواج القاصرات، لأنه يؤدي إلى الكثير من المفاسد والأضرار في المجتمع، إذ خلصت في فتواها إلى حرمة زواج القاصرات ووجوب الالتزام بالسن القانونية لزواج الفتيات، استنادًا إلى القاعدة الشرعية التي تقرر أن “دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح”.
واستندت الدار في موقفها الشرعي حيال تلك المسألة إلى أنه “بالنظر إلى مقاصد الشريعة الإسلامية والحكمة من الزواج، يتبين لنا أن ما يُقدم عليه البعض من تزويج القاصرات هو عمل منافٍ لهذه المقاصد وتلك الحكمة، ويمثل جريمة في حقهن، لعدم قدرة القاصر على تحمل مسؤولية الحياة الزوجية والقيام بالأعباء المادية والمعنوية اللازمة لاستمرارها، ما ينتج عنه الكثير من الأضرار والمفاسد التي تؤدي لفشل هذه الزيجات وانتشار حالات الطلاق المبكر”.
العُرف ينتصر
منذ عقود طويلة دأب المصريون في المناطق الريفية وجنوب البلاد على تزويج بناتهم في سن مبكرة، اعتقادًا منهم أن زواج الفتيات “سترة” ويجب الإسراع به، طالما أن البنيان الجسدي للفتاة يسمح بذلك، مستندين في موقفهم هذا إلى بعض القراءات التاريخية القديمة التي اعتبروها مسوغ تشريع رسمي لهذه الظاهرة.
قبل 4 عقود تقريبًا كان ينتشر في الريف ظاهرة “الزوج الخليجي” وهو ذلك الشخص ميسور الحال القادم من عواصم النفط للبحث عن فتاة صغيرة السن للمتعة قبل أي شيء، مستغلًا حالة الفقر والعوز التي كانت تحياها معظم الأسر في ذلك الوقت، ما قد يدفعهم لقبول تلك العروض الخيالية بالنسبة لهم.
ويتحول هذا الشخص – الذي في الغالب يكون كبير السن – إلى قبلة الكثير من أولياء الأمور، لا سيما بعدما يفك كيسه على الجميع، فيغدق بماله ومغرياته، الأمر الذي يغلق كل منافذ العقل والوعي لدى الوالد والبنت على حد سواء، فيصبح الذهب الذي يغطي ذراع البنت التي لم يتجاوز عمرها الـ15 عامًا هو كلمة السر.
وفي هذه الحالة يتحايل الأهالي والأزواج معًا على القانون من خلال الاكتفاء بكتابة عقد بينهما يوثق الزواج لكن دون توثيقه رسميًا أمام القضاء، وفي مقابل ذلك يؤخذ على الزوج ضمانة ما، قد تكون إيصال أمانة أو شيكًا على بياض، وحين تتم الفتاة السن القانونية يتم توثيق العقد.
ورغم حملات الوعي المستمرة لخطورة هذا الأمر، فإن بريق المال لا يقاوم لا سيما إن كانت العين التي تبصره تعاني من الفقر والعوز والجوع، وهو ما توثقه الدراسات التي تكشف ارتفاع نسب الزواج المبكر في بعض المناطق الفقيرة، كما في الدراسة التي أعدتها مؤسسة “بنت النيل” (تحت التأسيس تعمل على مناهضة العنف الجنسي) وتوصلت من خلالها إلى بلوغ زواج الأطفال بمركز أبو المطامير 53.5% من إجمالي عدد الزيجات، والدلنجات 78.8%، وإدكو 68.6%، وهم ثلاثة مراكز تابعين لمحافظة البحيرة (شمال).
وفي دراسة حديثة كشفت أن عدد من سبق لهم الزواج في سن (10-17 سنة) يبلغ 117220 فردًا بنسبة 0.8% من جملة السكان في هذه الفئة العمرية وذلك وفقًا لتعداد 2017، لافتة إلى ارتفاع نسبة الأمية بين من سبق لهم الزواج في تلك الفئة العمرية، حيث تبلغ نحو 40%، كما أن نسبة التسرب من التعليم بينهم مرتفعة أيضًا حيث تبلغ 36%، موضحة أن أحد أهم الأسباب الرئيسية للتسرب يرجع إلى الزواج المبكر، خاصة بين الفتيات بنسبة 25%، بحسب الدراسة التي أعدها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، عن الزواج المبكر في مصر ضمن سلسلة من الدراسات التحليلية التي تضمنتها المجلة النصف سنوية “السكان – بحوث ودراسات”.
الأزمات والأوبئة.. بيئة خصبة للنمو
تعد الأزمات الاقتصادية الطاحنة وتراجع المستوى المعيشي بيئةً خصبةً لنمو هذه الظاهرة رغم مساعي تطويقها، قانونًا وتوعيةً، وكلما زادت معدلات الفقر بين أفراد المجتمع زاد حجم ومستوى الزاوج دون السن القانونية، وهي المعضلة التي تشكل خطرًا على المنظومة الاجتماعية برمتها.
السنوات الأخيرة ورغم ما شهدته من طفرة تكنولوجية هائلة ومستويات كبيرة من حملات التوعية، فإنه بالتزامن مع ذلك شهدت أيضًا ارتفاعًا كبيرًا في نسب الفقر، تجاوز حاجز الـ30% من إجمالي عدد المصريين، أي ما يقترب من الثلاثين مليون مواطن يعيشون تحت مستوى خط الفقر ( دولار يوميًا).
ومع تفشي وباء كورونا المستجد (كوفيد 19) وتداعياته على المستوى الاقتصادي والمعيشي للدول والشعوب، يذهب خبراء إلى ترجيح زيادة نسب زواج القاصرات، في محاولة للبحث عن الستر الموهوم وعدم تعريض مستقبل الفتيات للمجهول وفق ما يعتقد أولياء الأمور.
آثار اجتماعية ونفسية مدمرة
خبراء الصحة النفسية والعلاقات الأسرية يصفون الزواج المبكر بأنه “اختطاف للفتاة في مرحلة الطفولة” إذ تسلب البنت صغيرة السن من إطارها الزمني المفترض أن تكون فيه، إلى إطار آخر أكبر منها حجمًا وأكثر اتساعًا، لتجد نفسها بين يوم وليلة مسؤولة عن حياة كاملة وأسرة وهي لم تتجاوز بعد مرحلة الطفولة.
معظم الزيجات من هذا النوع تنتهي بالفشل بحسب شهادات عدة لتجارب، شباب وإناث، فحداثة سن الزوجين وقلة خبراتهما وعدم القدرة على تحمل المسؤولية، كلها معاول هدم تسرع بإنهاء الحياة في أقصر وقت، لتجد الفتاة نفسها في الشارع بلا ظهير قانوني أو مجتمعي.
حتى خلال الحياة نفسها مهما كانت قصيرة، فهناك أزمات يندى لها الجبين، فمعظم أحاديث ضحايا هذا النوع من الزواج تكشف عن حياة بطعم الجحيم، ضرب مبرح، وإهانات نفسية وجسدية غائرة، وعلاقات حيوانية لا تمت للإنسانية بصلة، وتبقى تلك البيوت بركان نار خامد قلما يهدأ.
حتى بعد الطلاق إن كان لدى أهل الفتاة الجرأة لإنقاذ ابنتهم من هذا الفخ، لا تتوقف المعاناة، فالحقوق ضائعة لعدم وجود مرجعية قانونية للزواج من الأساس، بخلاف الأطفال الذين يلقى بهم في غياهب التجاهل والنسيان والإهمال، فمنهم من يلتحق بمدرسة أطفال الشوارع ومن نجا منهم يحيا حياة مشوهة نفسيًا على الأرجح.
المؤلم في تحقيق الجزيرة عن زواج القاصرات في #مصر #egypt باثرياء عرب انه وضع أمامنا الحقيقة التي نتعامى عنها ان الفقر هو عدونا الأول
— Zein Tawfik (@zeintawfik) February 27, 2014
ما الحل؟
المهتمون بشؤون الأطفال والمرأة على حد سواء يطالبون بوجود قانون ملزم وجازم يجرم زواج صغار السن، ويقر أغلظ العقوبات، ويضيق الخناق عليهم من كل الجوانب، لا سيما أن الدستور في أكثر من مادة منه كان واضحًا في تلك المسألة بعيدًا عن تأويلاتها القانونية المختلفة.
الخبراء يرون أن القانون الحاليّ رغم ما به من بنود تتعلق بتلك الجزئية، فإنه لا ينص صراحة على تجريم من قام بالزواج بقاصر أو تزويجها، فالعقوبة هنا تقع فقط إذا اقترن ذلك بجريمة تزوير في المحاضر الرسمية طبقًا للمادة 227 من قانون العقوبات، وهو ما يتحايل عليه الأهالي والمأذون كما ذكرنا سابقًا.
وعليه يرى هؤلاء ضرورة إصدار تشريع مستقل ينظم الزواج، وينص صراحة على أن من يتزوج بقاصر أو يزوجها أو يشارك في الزيجة، مجرم يستحق العقاب، وأن توضع عقوبات رادعة تتباين حسب درجة ومسؤولية المتورط فيها، مع ضرورة إلغاء دفتر إثبات الزواج، وقصرها على المحكمة، كإجراء احترازي لضمان عدم التلاعب.
وفي الأخير فإن المسؤولية هنا وفق خبراء الاجتماع والصحة النفسية مشتركة بين الدولة التي يجب أن تقضي تمامًا على تلك البيئة الخصبة لنمو تلك الظاهرة من خلال كفالة حياة كريمة ومستوى عيش معقول، والأهالي الذين يرفعون الراية البيضاء سريعًا أمام ظروفهم الحياتية، مستسلمين للواقع الصعب من خلال التضحية ببناتهم.