ترجمة وتحرير: نون بوست
لم ينته الاجتماع الأول منذ انتخاب جو بايدن بين دبلوماسيين أمريكيين وصينيين في أنكوريج (ألاسكا) هذا الأسبوع بشكل جيد، ومن المتوقع أن تستمر التوترات التجارية والسياسية التي تصاعدت في عهد دونالد ترامب. في الواقع، أوضح وزير الخارجية أنتوني بلينكن موقف الولايات المتحدة بقوله: “سنناقش مخاوفنا العميقة حول الإجراءات التي تتخذها الصين، بما في ذلك في سنجان وهونغ كونغ وتايوان والهجمات الإلكترونية على الولايات المتحدة والضغط الاقتصادي على حلفائنا.. كل هذه الإجراءات تهدد القواعد التي يحافظ على الاستقرار العالمي”.
من جهته، رد كبير الدبلوماسيين الصينيين يانغ جيتشي قائلا: “تستخدم الولايات المتحدة قوتها العسكرية وهيمنتها المالية لتنفيذ عقوبات واسعة النطاق وقمع عدد من الدول. إنها تنتهك ما يُعرف بمفاهيم الأمن القومي لعرقلة التبادلات التجارية وتحريض بعض الدول على مهاجمة الصين”.
كان من المفترض أن يمثل انتخاب بايدن نهاية لرئاسة دونالد ترامب المضطربة، والتي انتهت بحشد مؤيديه لاقتحام الكابيتول بعد رفضه قبول نتائج الانتخابات. لكن من نواح عديدة، يعتبر بايدن رجل الاستمرارية، رغم كل الضجيج أثناء تنصيبه حول التغييرات القادمة في البيت الأبيض.
استغرق بايدن المنتخب حديثا أكثر من شهر بقليل قبل أن يأذن بشن ضربات عسكرية على سوريا، والتي كانت على ما يبدو ردا على الهجمات الصاروخية على القوات الأمريكية في العراق. بعد أسبوع، أعلنت نائبة الرئيس كامالا هاريس علنا معارضتها للتحقيق الذي أعلنته المحكمة الجنائية الدولية مؤخرا في جرائم الحرب الإسرائيلية والجرائم ضد الإنسانية.
استخدمت الولايات المتحدة في عهد ترامب سلطتها بشكل واضح وأكثر من أي وقت مضى للتنمر على الأصدقاء والأعداء على حد سواء، والخروج من المعاهدات الدولية التي وقعها الرؤساء السابقون، مثل الاتفاق النووي الإيراني. لكن من يتوقع من بايدن أن يغيّر السلوك “الإمبراطوري” للولايات المتحدة بشكل كامل، فلم يقرأ جيدا التاريخ.
لغة جديدة لكن السياسات لم تتغير
سواء تعلق الأمر بالشرق الأوسط أو روسيا أو إيران أو الصين، فإن الإدارة الجديدة تعمل على تغيير اللهجة (التخلي عن عبارة “الفيروس الصيني”) مع الحفاظ على الجوهر. في الشهر الماضي، قال بلينكن إن ترامب “كان على حق في اتباع نهج أكثر صرامة تجاه الصين”، بينما قالت وزيرة التجارة جينا ريموندو إنها ستواصل سياسة ترامب باستخدام “الأدوات الكاملة المتاحة لي، لحماية الولايات المتحدة وشبكاتنا من التدخل الصيني”.
يصف الخبير الاقتصادي جيفري ساكس العقلية الأمريكية الفريدة التي تشكلت قبل 200 سنة من خلال مبدأ مونرو، أو في الواقع منذ تأسيس أول مستوطنة استعمارية، قائلا إن الولايات المتحدة ترى أن “قدرها وواجبها هو توسيع قوتها وتأثير مؤسساتها ومعتقداتها حتى تسيطر على العالم”.
كان الرئيس السابق دوايت أيزنهاور، الذي ترك منصبه سنة 1961، آخر رئيس يعارض بوضوح سياسة السعي المستمر للتفوق العسكري وعدم التسامح مع الأيديولوجيات والأنظمة السياسية الأخرى، وهي المبادئ التي حكمت السياسة الخارجية للولايات المتحدة منذ سنة 1945 عندما ألقى الرئيس ترومان القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناغازاكي. وقال أيزنهاور في نهاية عهده كرئيس: “يجب أن نكون حريصين على ضمان ألا يملي علينا تجار الموت سياساتنا”.
لكن بايدن ليس أيزنهاور (الذي أعطى رغم كل شيء الإذن بالإطاحة بالحكومات الديمقراطية في إيران وغواتيمالا). في الواقع، يدعم بايدن الاحتلال الإسرائيلي بشكل غير مشروط تماما مثلما فعل ترامب، حتى إن أدلى عدد من المسؤولين في إدارته ببعض التصريحات حول حل الدولتين. وتستمر المساعدات العسكرية الأمريكية لحكام ديكتاتوريين مثل عبد الفتاح السيسي، على الرغم من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي يرتكبها نظامه.
في الشرق الأوسط الكبير وخارجه، تجد الولايات المتحدة نفسها على النقيض مع عدد كبير جدا من الاتفاقيات والمؤسسات الدولية، بدءا من اتفاقيات الحد من التسلح وحقوق الإنسان، وصولا إلى المناخ والصحة، وهو ما يتجلى في انسحاب ترامب من منظمة الصحة العالمية في وقت تطلبت فيه جائحة كوفيدـ19 تعاونا عالميا غير مسبوق.
والولايات المتحدة، شأنها شأن روسيا والصين وإسرائيل، من الدول القلائل التي لم توقع على قانون إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، حتى أن ترامب فرض عقوبات على أعضاء المحكمة.
مع ذلك، يرى مايكل بيمبروك في كتابه الجديد بعنوان “أمريكا في تراجع”، والذي يتحدّث عن “تراجع الزعامة الأمريكية للعالم منذ الحرب العالمية الثانية إلى حدود جائحة كوفيد-19″، أن الولايات المتحدة أصبحت عاجزة أكثر من أي وقت مضى على مواجهة القوى العالمية الصاعدة، وأبرزها الاقتصاد الصيني. يوضح بيمبروك كيف أن سياسات التكامل الاقتصادي والتجاري من الصين إلى جنوب وشرق آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط بدأت تحل محل الولايات المتحدة باعتبارها القوة الاقتصادية العالمية المهيمنة.
التفوق العسكري وهيمنة الدولار
الشيء الذي مازالت الولايات المتحدة تفتخر به هو قوتها العسكرية التي لا مثيل لها، والتي تتحقق بتكلفة باهظة للشعب الأمريكي وملايين الناس حول العالم، حيث تمتلك 800 قاعدة عسكرية في جميع أنحاء العالم. كما تفتخر الولايات المتحدة بالدولار الذي لا يزال العملة الاحتياطية المهيمنة في العالم. وتمكّن قوة الدولار الولايات المتحدة من السيطرة على المبادلات التجارية الدولية وفرض إرادتها على جزء كبير من النظام المالي العالمي، بينما تتراكم في الآن ذاته ديونها لتمويل ميزانيتها العسكرية السنوية البالغة تريليون دولار. تساعد دول العالم على تسديد هذه الديون من خلال شراء سندات الخزانة الأمريكية.
يناسب هذا النظام حتى الآن دولا مثل الصين، حيث تستفيد من العجز التجاري للولايات المتحدة. لكن إلى متى؟ حاول ترامب أن يوقف نزيف فقدان التفوق الصناعي لفائدة الصين من خلال فرض رسوم جمركية على السلع الصينية، لكن هذه السياسة قد يكون لها عواقب أخرى، وقد تساعد على تسريع انتقال مركز القوة الاقتصادية العالمية بعيدا عن واشنطن. إن استخدام الولايات المتحدة المتزايد للعقوبات الثانوية لفرض إرادتها على البلدان التي ترغب في مواصلة مبادلاتها مع الدول التي تخضع للعقوبات الأمريكية هو أحد الانتهاكات العديدة التي قد تدفع دول العالم للبحث عن بدائل.
بدأت الصين وروسيا بالفعل في تطبيق عديد الإجراءات مثل تفعيل أنظمة الدفع العابرة للحدود من خلال بنوك موازية لنظام سويفت الأمريكي، مع تقليل حيازتهما لسندات الخزانة الأمريكية. كذلك يتداول أعضاء منظمة شنغهاي للتعاون التي تقودها الصين على نحو متزايد العملات المحلية لتقليل الاعتماد على الدولار.
يقدم بيمبروك، وهو قاض أسترالي سابق، قراءة مفيدة توثّق انتقال الولايات المتحدة من دولة رائدة صمّمت النظام العالمي في نهاية الحرب العالمية الثانية، إلى قوة إمبريالية مارقة تتحدى جميع الضوابط القانونية التي قد تقيّد تحرّكاتها. وخلال هذه الفترة، غزت الولايات المتحدة عشرات البلدان وزعزعت استقرارها، على غرار إيران ودول في أمريكا الوسطى والهند الصينية والعراق.
سيكون من الصعب اليوم تخيل طريقة انسحاب الإمبراطورية الأمريكية من زعامة العالم مثلما حدث مع بريطانيا وفرنسا في القرن العشرين. الجدير بالذكر أن الإمبراطورية البريطانية وصلت إلى أقصى امتداد لها سنة 1921 في أعقاب الحرب العالمية الأولى، بعد أن استولت على مناطق جديدة في الشرق الأوسط، إلا أنها انهارت في غضون ثلاثة إلى أربعة عقود.
المواجهة مع الصين
تتوجّه الولايات المتحدة نحو آسيا في سياق استراتيجية مُختبرة سابقا تقوم على استخدام نفوذها العسكري والتكنولوجي لإعاقة صعود الصين. لقد نجحت هذه الاستراتيجيّة مع السوفييت، فلماذا لا تنجح مع الصين أيضا؟ ترى الولايات المتحدة أن هذه المقاربة قد تفيده مجددا في بسط هيمنته، لكنها قد لا تكون مفيدة كثيرا عندما تقدم الصين قروضا تنموية وأخرى ميسرة لتوسيع نفوذها وسيطرتها.
تمثّل الصين نظاما استبداديا، لكنها ليست قوة عظمى منهارة ومرهقة عسكريا مثل الاتحاد السوفييتي في الثمانينيات. في الواقع، يناسب هذا الوصف الولايات المتحدة بشكل أفضل، فهي البلد الذي تجمد فيه سكان تكساس حتى الموت بسبب فشل نظام الطاقة الذي تمّت خصخصته، كما توفي أكثر من نصف مليون شخص بسبب كوفيد-19.
مع ذلك، فإن افتراض نهاية الإمبراطورية الأمريكية قد لا يكون توقعا دقيقا، إذ أننا نعيش حاليا ذروة المواجهة بين النموذجين الأمريكي والصيني، وقلة هم الذين توقعوا سقوط الإمبراطورية السوفييتية، وقد جاء ذلك التوقّع مع تعافي الولايات المتحدّة من كارثة فيتنام، بينما خشي المحللون آنذاك من أن تخسر أمريكا مكانتها لفائدة اليابان.
يوجّه بيمبروك كتابه بالأساس لجيل الألفية، وربما يظهر ذلك من خلال الاعتراف المبطن بأن القادة الأمريكيّين المسنين ومتوسطي العمر ليسوا مستعدين بعد للتخلي عن فكرة التفوق التي تمثّل جوهر العقيدة الإمبراطورية الأمريكية. ربما يلجأ قادة المستقبل من جديد إلى تحذيرات أيزنهاور ويغيرون المسار، لكن لا ينبغي أن ننتظر أن يحصل ذلك قريبا.
المصدر: ميدل إيست آي