يمكننا القول إن الحركة النسوية بدأت بشكل رسمي عام 1848 في مؤتمر سينيكا فولز، لكن على مر السنين تغير شكل هذه الحركة والمبادئ التي تنادي بها من زمن إلى آخر، وإن بقي جوهر الحركة نفسه.
من الشائع الحديث عن أربع مراحل للنسوية الحديثة، مع اختلاف وجهات النظر بشأن كيفية تمييز هذه الموجات الأربعة، ما يجعل التنقل في المشهد أكثر صعوبة. في هذا التقرير نستعرض أهم السمات التي تميزت بها كل من هذه الموجات، وما الإنجازات التي قدمتها، وعلى ماذا نصت أفكارها، وكيف قدمت النساء اللاتي قمن بها أنفسهن.
في البداية لا بد من الإشارة إلى أن كلمة “الموجة” راج استخدامها بعد أن أصبحت طريقة مفيدة لربط الحركات النسائية الحديثة وما تطالب به، بحق المرأة في الاقتراع الذي حصلت عليه في أول تحرك نسوي جماعي لها، وللإشارة إلى أن تمرد النساء على القوانين والنُظم المجحفة لم يكن انحرافًا تاريخيًا غريبًا حدث لمرة واحدة كما ادعى المنتقدون لهن، وإنما هو فصول متعددة في التاريخ الكبير للمرأة المناضلة من أجل حقوقها.
ومع مرور الوقت، أصبحت استعارة كلمة “الموجة” وسيلةً لوصف وتمييز مختلف العصور والأجيال من النسوية.
الموجة الأولى: حق الاقتراع
امتد زمن الموجة الأولى من النسوية بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وكانت بالنظر إلى سماتها تعتبر ثمرة بيئة التصنيع الحضري والسياسة الاشتراكية الليبرالية التي وُجدت آنذاك، كما ارتبطت النسوية في مراحلها الأولى بشكل ما مع حركات حقوقية وتقدمية أخرى مثل حركة إلغاء الرق.
كان الهدف من هذه الموجة فتح باب مختلف الفرص للنساء، مع التركيز على عنوان عريض وهو حق الاقتراع، فبدأت الموجة رسميًا في مؤتمر سينيكا فولز عام 1848، عندما احتشد 300 رجل وامرأة للمناداة بالمساواة بين المرأة والرجل.
من أعلام هذه المرحلة إليزابيث كادي ستانتون التي صاغت إعلان سينيكا فولز الذي يحدد أيديولوجية الحركة وإستراتيجياتها السياسية، بالإضافة إلى ناشطات أخريات مثل سوجورنر تروث التي تنحدر من أصول أمريكية إفريقية، التي اشتهرت بقولها الشهير: “ألست أنا امرأة؟” خلال أحد خطاباتها.
أدت المناقشات بشأن التصويت ومشاركة المرأة في السياسة إلى فحص الاختلافات بين الرجل والمرأة، كما ادعى البعض أن النساء متفوقات أخلاقيًا على الرجال
شهدت أمريكا في تلك الفترة تغيرًا واضحًا في سلوك السيدات، واعتُبرت تصرفاتهن التي شملت التحدث أمام جمهور والتظاهر وقضاء فترات في السجن “غير مهذبة”، وكان في أنشطتهن هذه تحدٍ لموروث تقديس الحياة المنزلية.
أدت المناقشات بشأن التصويت ومشاركة المرأة في السياسة إلى فحص الاختلافات بين الرجل والمرأة، كما ادعى البعض أن النساء متفوقات أخلاقيًا على الرجال، وبالتالي فإن وجودهن في المجال المدني من شأنه أن يحسن السلوك العام والعملية السياسية.
لمعلومات أكثر عن نضال نساء الموجة الأولى للوصول إلى مطالبهن يمكنكم مراجعة الرابط التالي:
noonpost.com/content/39785
الموجة الثانية: الحقوق الجنسية والإنجابية
بدأت الموجة الثانية في الستينيات واستمرت حتى التسعينيات، وارتبطت هذه الموجة من النسوية بالحركات المناهضة للحرب، والمطالبة بالحقوق المدنية وبالوعي الذاتي المتزايد لطيف واسع من مجتمعات الأقليات في جميع أنحاء العالم.
على مستوى الأفكار السياسية والاجتماعية، كان اليسار الجديد يشهد صعودًا متزايدًا، وأصبح صوت الموجة الثانية راديكاليًا بشكل متزايد أيضًا، وفي هذه المرحلة، كان العنوان العريض هو الحقوق الجنسية والإنجابية، وتركز قسم كبير من جهود الحركة على تمرير التعديل القانوني الذي يضمن المساواة الاجتماعية بغض النظر عن الجنس.
وإذا كنتم تتساءلون عن ماهية الحقوق الإنجابية والجنسية، فهي حقوق الأفراد في تقرير الإنجاب والحصول على الصحة الإنجابية، وقد يشمل ذلك حق الفرد في التخطيط لعائلة أو إنهاء الحمل أو استخدام موانع الحمل، بالإضافة إلى ضرورة وجود التثقيف الجنسي في المدارس العامة وإمكانية الحصول على خدمات الصحة الجنسية والإنجابية.
أما عن كيفية انتهاك هذه الحقوق التي حاولت النسويات الدفاع عنها عادة، فالأمر كالتالي:
على الرغم من وجود الالتزامات التي ذكرت سابقًا، فإن انتهاكات حقوق الصحة الجنسية والإنجابية للمرأة متكررة، وتتخذ أشكالًا عديدةً، بما في ذلك رداءة أو عدم وجود الخدمات التي تتطلبها النساء فقط وإجبار المرأة على الحصول على إذن من طرف ثالث حتى تتمكن من الحصول على هذه الخدمات إن وُجدت.
من جهة أخرى توجد الانتهاكات التي تتعلق بأداء الإجراءات المتعلقة بالصحة الإنجابية والجنسية للمرأة دون موافقتها في بعض الظروف والأماكن، مثل عملية التعقيم القسري أو فحوصات البكارة القسرية أو الإجهاض القسري.
تتعرض حقوق الصحة الجنسية والإنجابية للمرأة أيضًا للخطر عندما تتعرض لتشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية أو بالزواج المبكر، وغالبًا ما تكون انتهاكات حقوق الصحة الجنسية والإنجابية للمرأة متأصلة بعمق في القيم المجتمعية السائدة.
وفي نفس سياق الحديث عن الحقوق الإنجابية، يُذكر أن المفاهيم الأبوية لدور المرأة داخل الأسرة تعني أن المرأة غالبًا ما يتم تقييمها بناءً على قدرتها على الإنجاب، وأن الزواج المبكر والحمل أو حالات الحمل المتكررة المتقاربة جدًا، التي هي في الغالب نتيجة الجهود المبذولة لإنجاب الذكور، لها تأثير مدمر على صحة المرأة، مع احتمالية وجود عواقب وخيمة في بعض الأحيان، وغالبًا ما تُلام النساء أيضًا على العقم، ويعانين من النبذ ويتعرضن لانتهاكات مختلفة لحقوق الإنسان نتيجة لذلك.
تحدث النسويون عن النساء كطبقة اجتماعية وصاغوا مصطلحات مثل سياسة الهوية في محاولة لإثبات أن العرق والطبقة والقمع الجنساني كلها مرتبطة ببعضها البعض
وبالعودة للحديث عن الموجة الثانية من النسوية، شملت هذه المرحلة أيضًا احتجاجات ضد مسابقة ملكة جمال أمريكا، وسخر النسويون والنسويات مما اعتبروه “موكب ماشية” مهينًا اختزل النساء في أشياء جميلة يهيمن عليها النظام الأبوي الذي يسعى إلى إبقائهن في المنزل أو في وظائف مملة منخفضة الأجر.
في حين أن الموجة الأولى من النسوية كانت تتشكل عمومًا من نساء من الطبقة الوسطى البيض تحديدًا، اجتذبت المرحلة الثانية النساء ذوات البشرة الملونة ونساء الدول النامية، بدعوى أن “نضال النساء هو صراع طبقي”.
تحدث النسويون عن النساء كطبقة اجتماعية وصاغوا مصطلحات مثل “سياسة الهوية” في محاولة لإثبات أن العرق والطبقة والقمع الجنساني كلها مرتبطة ببعضها البعض، بالمختصر، حاولوا بذل جهود مركزة لتخليص المجتمع من التمييز الجنسي بجميع أبعاده، من الرسوم المتحركة للأطفال إلى أعلى مستويات الحكومة.
الموجة الثالثة
بدأت الموجة الثالثة من الحركة النسوية في منتصف التسعينيات، قادها من يُطلق عليهم جيل إكسرز الذين ولدوا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي في العالم المتقدم، نشأت في بيئة مشبعة بالوسائط المتعددة للإعلام، ومتنوعة ثقافيًا واقتصاديًا. ورغم أنهم استفادوا بشكل كبير من الحقوق القانونية التي حصلت عليها النسويات من الموجة الأولى والثانية، فقد انتقدوا بعض المواقف التي شعروا أنها عمل غير مكتمل للنسوية من الموجة الثانية.
تأثرت أفكارها بالجو العام الموجود ما بعد حقبة الاستعمار وما بعد الحداثة، وفي هذه المرحلة، حاولت النسويات إعادة تعريف العديد من المفاهيم، ومنها مفهوم الأنوثة العالمية والجسد والجنس.
كانت إحدى سمات الحركة النسوية الثالثة التي حيرت أمهات الحركة النسوية السابقة، هي إعادة اختيار النسويات الشابات لأحمر الشفاة والكعب العالي والملابس التي تكشف أجزاءً واسعةً من الجسم، بعد أن تم اعتبار هذا النمط من اللباس في الحركات النسوية السابقة، شكل من أشكال تشييء المرأة واعتبارها متعةً للنظر لا أكثر، كما تم اعتباره شكلًا من أشكال الذكورية واضطهاد المرأة، لكن في هذه الموجة، رفضت النسويات اعتبار جمالهن متعةً للآخرين، بل اعتبروه شيئًا يملكونه ويقررونه ويتحكمون به بإرادتهن.
في هذه الحقبة، صعدت نساء الموجة الثالثة إلى مسرح الأحداث كفتيات قويات وذات سلطة، ورفضن الحديث عن أنفسهن كضحايا، كما طورن الخطاب النسوي التقليدي وأدخلن به مصطلحات مثل “الفاسقة” و”العاهرة” لكن بمعانٍ جديدة مثل القوة أو الثقة بالنفس، وأطلقن هذه المصطلحات على أنفسهن أحيانًا، واعتبرنها وصوفًا إيجابيةً بهدف تقويض ثقافة التمييز الجنسانية وحرمانها من الأسلحة اللفظية.
الموجة الرابعة
يزعم الكثيرون أن الموجة الرابعة من النسوية بدأت عام 2012، مع عدم وجود إجماع على ذلك، كان التركيز في هذه الموجة على موضوعات التحرش الجنسي وعار الجسد وثقافة الاغتصاب وغيرها من القضايا. من المكونات الرئيسية لهذه المرحلة هو استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتسليط الضوء على هذه الإشكاليات ومعالجتها.
لطالما احتوت هذه الحركة على العديد من وجهات النظر، بدلًا من أن تكون مجرد أيديولوجية موحدة
على هذه الخلفية جاءت هزيمة دونالد ترامب لهيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، وكان ترامب قد أدلى بعدد من التصريحات المسيئة بحق النساء، وفي اليوم التالي للانتخابات، توجهت إحدى السيدات على فيسبوك لاقتراح مسيرة في واشنطن العاصمة، اكتسبت زخمًا سريعًا وأصبحت دعوة للتغيير الاجتماعي، لا سيما فيما يتعلق بالمساواة بين الجنسين، عُرفت هذه المسيرة لاحقًا باسم مسيرة المرأة، وامتد تأثيرها لتشمل مظاهرات عديدة في جميع أنحاء الولايات المتحدة وحول العالم.
انطلقت هذه الاحتجاجات في 21 من يناير/كانون الثاني 2017، بعد يوم من تنصيب ترامب، وحضرها ما يصل إلى 4.6 مليون شخص، ما جعلها ربما أكبر مظاهرة ليوم واحد في تاريخ أمريكا.
أما الحدث الأكثر أهمية ضمن هذه الموجة، يمكننا القول إنه كان حركة Me Too التي تم إطلاقها عام 2006 في الولايات المتحدة لمساعدة الناجين من العنف الجنسي، وخاصة إناث الأقليات في الولايات المتحدة، أي الإناث من غير الأكثرية الأمريكية المتمثلة بالبيض.
اكتسبت الحملة اهتمامًا واسعًا بداية من عام 2017، بعد أن تم الكشف عن أن الممثل الشهير هارفي واينستين تحرش واعتدى جنسيا لسنوات على النساء في مجال السينما والفن، دون عقاب.
من بعدها بدأت ضحايا التحرش والاعتداء الجنسي في جميع أنحاء العالم – ومن جميع الأعراق – بمشاركة تجاربهن على وسائل التواصل الاجتماعي، مع استخدام هاشتاغ #MeToo، نمت الحركة لتفضح عشرات الرجال الأقوياء والنافذين في مجالات السياسة والأعمال والترفيه ووسائل الإعلام.
في هذه المرحلة التي نعيشها الآن، ما زلنا غير متأكدين من كيفية تحول الحركة النسوية هذه المرة، كيف ستتجسد الموجة الرابعة بالكامل؟ وفي أي اتجاه ستسير في الفترة القادمة؟ لكن لطالما احتوت هذه الحركة على العديد من وجهات النظر، بدلًا من أن تكون مجرد أيديولوجية موحدة، وعلى الدوام كانت هناك مناظرات ونقاط التقاء ونقاط اختلاف، فلطالما كانت الحركات النسوية السياسية والاجتماعية والفكرية فوضوية ومتعددة القيم والاتجاهات، وبرأي الكثيرين هذه علامة من علامات الازدهار والسعي للتقدم.