“يسقط نظام السابع … رجعي عميل وتابع”، شعار مثّل ذات شتاء ساخن في تونس نقطة تحول محورية في الحراك الاحتجاجي الديسمبري باعتبار أنه كان أول ملامح الجنوح للبعد السياسي لينضاف للبعد الأساسي الذي انطلقت من أجله الثورة التونسية وهو جملة المطالب الاجتماعية من شغل وكرامة وعدالة اجتماعية.
منذ تلك اللحظة التاريخية التي ساهمت في تغيير ملامح المنطقة برمتها، تغيرت مُعطيات المشهد السياسي التونسي لتفرز دستورًا وهيئة انتخابات ستسهر على انتخابات أكتوبر الحالي، ولتفرز أيضًا رؤى سياسية مختلفة بين من كانوا في الأمس القريب يتقاربون في التحليل وفي الاصطفاف أيضًا.
في خضم كل هذا الحراك برزت للسطح بعض المناكفات السياسية التي كانت نتيجة لإحراج سؤال طرحته النخبة السياسية على نفسها لدواع انتخابية أو استراتيجية (كلٌ حسب مدى نظره وحسب تقديره) وهو مدى صحة القول بأن نظام السابع من نوفمبر .. نظام الدكتاتورية الآفلة قد انتهى؟
هل انتهى نظام السابع؟
في البداية، وجب التنويه بأن هذه الفقرة خالية من السياسة وستحاول الإجابة موضوعيًا عن سؤال المرحلة كما فرضه البعض وكما يراه خاط هذه الكلمات.
نظام السابع من نوفمبر هو نظام ديكتاتوري مافيوزي حكم في تونس منذ انقلاب 7 نوفمبر 1987 كغيره من الأنظمة العربية التي حكمت إثر “استقلال” دولنا العربية من الاستعمار الخارجي لتسقط في استعمار العائلات الحاكمة ومتوسلي البلاط، وبالرجوع إلى تاريخ معاناة الإنسانية من هذه الأنظمة الكليانية نجد أنها أنظمة تتواصل رغمًا عن أنوف الأصوات الحرة ولها قدرة عجيبة على التوريث جيلاً بعد جيل .. التحليل السوسيولوجي لهذه الظاهرة معقد أكيد، لكن يكفي التنصيص على أن متلازمة ستوكهولم تتجاوز الاستثناء لتحاذي في انتشارها الأوبئة خاصة في الديمقراطيات الهشة، وتكفي الإشارة الخفيفة للنازيين والفاشيين الجدد في أوروبا الذين لا يتحرجون اليوم من إعلان هويتهم الملطخة بالدماء ولعنة الأبرياء.
في ذات السياق من المهم تذكر معطى هام وهو أن هذه الأنظمة ماكانت لتتواصل لعقود رغم وحشيتها وعدم قسطها لولا احترافها رمي الفتات وأن مُقتاتي هذا الفتات سواء كان ماديًا أو على مستوى الجاه لا يقدرون بسهولة وأحيانًا لا يقدرون أبدًا أن يهضموا انهيار النظام الذي مثل لهم وليًا للنعمة.
بعيدًا عن النثريات، القول بغروب هذه الأنظمة الكليانية يحتاج قرينتين، فأما الأولى فهي إسقاط رؤوسها وهذا ما حققته أغلب دول الربيع العربي وكانت تونس في مُقدمتها بخلع رأس نظام السابع عشية 14 جانفي 2011، أما الثانية فينطق بها الصندوق الانتخابي الذي يعكس بلا مُجاملات طبيعة المشهد السياسي وملامح المزاج الشعبي العام، وهو ما ستنتظره تونس وكل المتابعين للشأن التونسي وعندها فقط سنتحصل على إجابة مُباشرة للسؤال المباشر: هل انتهى نظام السابع؟ صندوق سيُقرر أي النظامين يحظى بأوسع قابلية شعبية، خاصة على مستوى الانتخابات الرئاسية التي ستكون مباراة حاسمة لا مكان للتعادل فيها، بين النظام القديم والنظام الجديد.
عندما نحوصل ما سبق، نخلص إلى أنه من المُبكر القول بأن نظام السابع انتهى، فلا تاريخ الأمم يسمح ولا واقع الأمور.
بين الرؤية السياسية .. وتقدير الموقف السياسي
ضمن هذا الإطار، صرح رئيس حركة النهضة التونسية، بأن من دخل تحت مظلة الدستور فهو من أبناء الثورة، كما أورد فيما معناه أنه لا يجب تقسيم التونسيين تحت أي عنوان … إنه في هذه المرحلة لا مجال للحديث عن تصارع جبهوي بين مختلف الرؤى السياسية والمُقاربات المُجتمعية ودرج على هذه الرسالة السياسية ثُلة من قيادات الحزب الفائز في الانتخابات الماضية.
رسالة سياسية أتت لتنسجم مع خيار استراتيجي ما فتئت الحركة الإسلامية في تونس تكرره وتُذكر به وهو أن التوافق هو الحل الوحيد لإدارة البلاد وأن الأخيرة لن تقوى على تحمل منسوب عال من التجاذبات كالذي مر بها إبان الانتخابات الماضية، رسالة منحت للحركة الإسلامية شرف التقدم بأشواط عن باقي الحركات الإسلامية في العالم على مستوى الوعي؛ فهي اليوم تطرح نفسها كمظلة تجميع وتوفيق بين أجزاء المجتمع المختلفة على عكس أغلب التجارب الأخرى التي سقطت بسهولة في فخ العجب أو فخاخ الاستفزاز الطائفي لتكون رديفًا للتحارب وسفك الدماء ونعرات الفرقة والتشظية المجتمعية.
رسالة سياسبة لا تعني – في تقديري – أن قيادة الحركة الإسلامية عاجزة عن التحليل والتقدير لتخلُص إلى ما خلُص إليه العنصر الأول من هذا المقال، خاصّة إن كان لدينا مستوى أدنى من إدراك المفاهيم لنفرق بين الرؤية السياسية وتقدير الموقف السياسي، فالأول لا يجب أن يعكس الثاني بالضرورة خاصة عند من يحاول أن ينظر إلى ما أبعد من أنفه.
بالرجوع إلى تفاعل بعض الأطراف مع هذه التصريحات، خاصة ممن يُحسبون على النظام الجديد، أُفضّل ألّا أسيل كثيرًا من الحبر لأنه يندرج ضمن أحد اثنين:
إما قصورًا معرفيًا لا يُمايز بين الرؤية السياسية، والتي يحق لأي كان أن يتبنى ما أراد وفق مُستوى تحمل المسئولية ومدى قدرته على قراءة المشهد السياسي للبلاد ومصلحتها في الحُسبان، وبين تقدير الموقف السياسي والذي لا تختلف أغلب الأطراف السياسية في تفاصيله ولا يحتاج أي منها لدروس، وإما في إطار الإفلاس الانتخابي على مُستوى البرامج فيكون العوض كل العوض في المزايدات الثورية على شركاء الأمس وفي الاستئثار بصفة الثورية وفي محاولة إعفاء من كان له الفضل في حماية المسار برُمته من هذه الفضيلة.
يجب أن تعي كل القوى المكونة لحلم النظام الجديد أنه لا طائل يُرجى من النيران الصديقة، وأن المستفيد الوحيد هو النظام القديم الذي يبذل الغالي والرخيص لوأد ثورة بات مكنونها ملخصا في المحافظة على جمهورية الدولة وديمقراطية الممارسة والمضي قدمًا نحو البحث عن إجابات لعناوين الانتفاض الديسمبري في جانبه الاجتماعي بعد تحقيق مكاسب سياسية تظل هشة ومحتاجة للتثبيت.