اتهمت منظمة العفو الدولية الأمن اللبناني بارتكاب جرائم مروعة بحق اللاجئين السوريين الذين احتجزتهم تعسفيا في السنوات الأخيرة، بدعوى مكافحة الإرهاب، مستخدمًا في ذلك أساليب التعذيب المروعة التي تفوق في وحشيتها الانتهاكات المستخدمة في أسوأ السجون سمعة لدى نظام بشار الأسد.
وتحت عنوان “كم تمنيت أن أموت: لاجئون سوريون احتجزوا تعسفيًا بتهم تتعلق بالإرهاب وتعرضوا للتعذيب في لبنان” نشرت المنظمة تقريرها أمس الثلاثاء 23 من مارس/آذار 2021، الذي وثق بالشهادات والأدلة الانتهاكات التي تعرض لها 26 لاجئًا سوريًا، بينهم 4 أطفال، جرى توقيفهم بين عامي 2014 و2021، وكان على رأسها التعذيب بالعصي، والكابلات الكهربائية، وحرمانهم من المحاكمة العادلة.
التقرير وإن لم يقدم جديدًا إلا أنه يسلط الضوء مجددًا على ملف الأوضاع القاسية التي يحياها اللاجئون السوريون في لبنان منذ 2011 وحتى اليوم، وهي المعاناة التي وثقتها عشرات التقارير السابقة دون أن يتحرك أحد، ليدفع ما يقرب من مليون سوري في لبنان (وفق الأمم المتحدة) أو مليون ونصف (وفق تقديرات الحكومة اللبنانية) الثمن مرتين، ثمن الغربة وهجرة الوطن هربًا من الحرب، وثمن المعاملة القاسية من الجيران.
اللاجئون السوريون في لبنان.. مآسٍ وآلام
الباحثة المعنية بحقوق اللاجئين والمهاجرين في منظمة العفو الدولية، ماري فورستيي، تقول في تعليقها على التقرير: “يقدم لمحة سريعة عن المعاملة القاسية والمسيئة والقائمة على التمييز المجحف التي تمارسها السلطات اللبنانية ضد اللاجئين السوريين المحتجزين للاشتباه بهم بشأن تهم تتعلق بالإرهاب، وفي حالات عديدة، فإن اللاجئين الذين فروا من الحرب والقمع القاسي والتعذيب واسع الانتشار في سوريا، وجدوا أنفسهم معتقلين تعسفيًا، ومحتجزين بمعزل عن العالم الخارجي في لبنان، حيث يواجهون العديد من الأهوال نفسها التي تحدث في السجون السورية”.
وأفاد التقرير الذي استند إلى مقابلات أجريت مع محتجزين سابقين وحاليّين ومحامين، واطلع على وثائق القانونية، أن 25 حالةً من الحالات الـ26 التي تضمنها أقرت بتعرضها للتعذيب “إما خلال الاستجواب وإما في الحجز وفي معظم الأحيان كان التعذيب يستمر ويتكرر في مركز مخابرات الجيش في أبلح أو في مكتب الأمن العام في بيروت أو في وزارة الدفاع”.
“ضربونا بأنابيب بلاستيكية من الحمّام على الظهر، وانتشرت على ظهري جروح فاغرة، وراحت تسوء جدًا، وفي النهاية ظهرت ديدان بداخلها”.. لاجئ سوري عن تعرضه للتعذيب في لبنان
وهناك اثنان من ضحايا التعذيب تم اعتقالهم في سن 15 و16 سنة فقط، فيما كشف أربعة رجال على الأقل إنهم تعرضوا لضرب مبّرح لدرجة أفقدتهم الوعي، وكُسرت أسنان اثنين منهم، هذا بخلاف استعراض بعضهم لأبرز سبل التعذيب التي كانوا يسمعون عنها داخل سجون نظام الأسد ومنها: “بساط الريح” (حيث يُربَط المرء بلوح قابل للطي) أو “الشَّبْح” (عندما يُعلّق الشخص من معصميه ويتعرض للضرب) أو طريقة “البلانكو” التي تتضمن تعليق الشخص طوال ساعات مع تكبيل معصميه خلف ظهره.
باسل، وهو أحد اللاجئين السوريين في لبنان، في حديثه للمنظمة الحقوقية قال إنه تعرض للضرب ليل نهار، معظم الفترات، منذ انتقاله للسجن، وتابع: “ضربونا بأنابيب بلاستيكية من الحمّام على الظهر، وانتشرت على ظهري جروح فاغرة، وراحت تسوء جدًا، وفي النهاية ظهرت ديدان بداخلها”.
أما أحمد الذي كان معتقلًا في مركز مخابرات الجيش في أبلح فقال إنه ضُرب على أعضائه التناسلية إلى أن أُغمى عليه، فيما كشف لاجئ آخر تعرضه لإصابة بليغة إثر ضربه على أعضائه التناسلية لدرجة أنه ظل يتبول دمًا لعدة أيام، فيما كان جلاده يهمس بأذنه في أثناء ضربه قائلًا: “إنني أضربك هنا حتى لا تستطيع الإتيان بمزيد من الأطفال إلى هذا العالم، كي لا يلوّثوا هذا المجتمع”.
جميع المعتقلين الذين جرت معهم المقابلة حرموا من حقهم في التقاضي العادل، إذ منعوا من وجود محام معهم في أثناء الاستجواب، وهو ما يخالف القانون اللبناني فضلًا عن القانون الدولي، هذا بخلاف منعهم من الدفاع عن أنفسهم، وعدم وجود أدلة تثبت الاتهامات الموجهة لهم فيما كان الاعتماد الأساسي على تحريات وتقارير الشرطة، وهو مشكوك في أمرها بحسب المنظمة.
وقد خلص التقرير إلى أنه “لا ريب في أن أفراد الجماعات المسلحة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان يجب أن يخضعوا للمساءلة عن أفعالهم، لكن الانتهاك الصارخ من جانب السلطات اللبنانية بحق اللاجئين السوريين في الإجراءات القانونية الواجبة قد شكّل استهزاءً بالعدالة، ففي كل مرحلة بدءًا من التوقيف، ومرورًا بالاستجواب والحجز، وانتهاءً بالمقاضاة في محاكمات جائرة، ضربت السلطات اللبنانية عرض الحائط تمامًا بالقانون الدولي لحقوق الإنسان”.
عرسال.. حين تفقد الحياة إنسانيتها
في يناير/كانون الثاني الماضي، كشفت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في تقرير لها، حجم المعاناة التي يعانيها اللاجئون السوريون في بلدة عرسال اللبنانية الحدودية مع سوريا، لافتة إلى فقدان الأماكن التي يعيشون فيها للحد الأدنى من مقومات البنية التحتية التي تعينهم على مواجهة الشتاء القارس.
التقرير فضح حالة التردي الإنساني التي يحياها أكثر من 15 ألف لاجئ سوري في تلك المنطقة الحدودية منذ قرار تفكيك البنى التي تأوي اللاجئين في عرسال، والصادر عن “مجلس الدفاع الأعلى”، الذي يترأسه رئيس الجمهورية عام 2019، الذي كان بمثابة الصدمة للآلاف الأسر السورية.
المنسقة الأولى لحقوق اللاجئين والمهاجرين في المنظمة الحقوقية، ميشال رندهاوا، قالت في شهادتها: “لا تزال ظروف عيش اللاجئين السوريين في عرسال الذين أُرغموا على تفكيك ملاجئهم في 2019 قاسية أوضاعهم، بالإضافة إلى قيود الحركة للحدّ من تفشي فيروس كورونا، تهدد سلامتهم وحياتهم”.
شريحة قليلة من اللاجئين في لبنان يحيون على 4 دولارات يوميًا يتقاضونها من مفوضية اللاجئين، أما ما يزيد على نصف عائلات اللاجئين السوريين يعيشون على أقل من 3 دولارات في اليوم
المنظمة في تقريرها حثت الحكومة اللبنانية على توفير الحياة الكريمة لللاجئين السوريين، كما طالبت الحكومات المانحة بأن تضمن الحماية الكاملة لخلق مناطق إيواء ملائمة لهم، بما في ذلك تأهيل منازل السوريين استعدادًا للشتاء وتقلباته، وهي المعاناة السنوية التي يواجهها آلاف اللاجئين بصفة دورية.
وقد وصل المستوى المعيشي المتدني للاجئين السوريين أن تفشى العفن بينهم، ما تسبب في مشاكل صحية خطيرة لا سيما الأطفال، أسفرت عن حدوث حالات عدة من الوفاة بجانب إصابة العشرات بالربو وأمراض الصدر، ففي شهادة إحدى اللاجئات من حمص قالت: “أعطتنا منظمة غير حكومية شادرًا واحدًا لتغطية السقف، واشترينا الباقي بأنفسنا. ليس لدينا إلا 5 أحجار باطون للحماية، وما تبقى وهو خشب. تتسرّب المياه من تحت الجدران، وتفوح رائحة نتنة من العفن”.
وخلال السنوات الماضية نشبت العديد من جرائم الاعتداء على اللاجئين السوريين من متطرفين لبنانيين، ورغم الوعود المتكررة بالتدخل الرسمي لحل تلك المعضلة لكن ميدانيًا الأمر لم يفارق حاجز التصريحات الرنانة التي في أغلبها للاستهلاك المحلي، لتتزايد معاناة السوريين مع زيادة فترة إقامتهم في الدولة الشقيقة المجاورة.
التقرير الصادر عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان عام 2017 كشف أن إجراءات السلطة اللبنانية بحق السوريين هناك على مدار الأعوام الماضية، أفقدتهم صفتهم القانونية في الوجود بالبلد، وهو ما كان له أثره البالغ في تهميشهم في المجتمع، واستغلالهم بشكل سلبي، في الوقت الذي لا يستطيعون فيه الدفاع عن أنفسهم أمام ساحات التقاضي والشرطة نظرًا لوضعهم القانوني المخالف.
شريحة قليلة من اللاجئين في لبنان يحيون على 4 دولارات يوميًا يتقاضونها من مفوضية اللاجئين، أما ما يزيد على نصف عائلات اللاجئين السوريين يعيشون على أقل من 3 دولارات في اليوم، و88% يغرقون بالديون، هذا بخلاف التضييق الذي يتعرضون له على أيدي بعض اللبنانيين لأسباب سياسية أكثر منها اقتصادية.
العنصرية ضد السوريين.. مسؤولية من؟
منذ أن آثر السوريون خيار النزوح (المؤقت) من بطش الأسد وميليشياته، والنأي بالنفس والجسد عن جحيم الحرب التي شنها رئيس النظام ضد شعبه في 2011، واستقبلوا البلد الشقيق، لبنان، الذي تجمعه وسوريا العديد من العوامل المشتركة، التاريخ والجغرافيا واللغة والدين، انقسم المجتمع اللبناني بشأن اللاجئين السوريين إلى مرحب ورافض.
وسيطرت الخلفيات السياسية والطائفية على أدوات التعامل مع السوريين، فيما غابت المنطلقات الإنسانية في كثير من الأحيان لا سيما مع المتطرفين من أبناء الدولة اللبنانية، وظل اللاجئون طيلة السنوات التسعة الماضية عرضة لكثير من موجات الظلم والانتهاكات.
عشرات التقارير وصفت ما تعرض له السوريون في لبنان بـ”العنصرية الممنهجة”، واللافت للنظر أن الأمر لم يعد يتعلق بفئة قليلة من اللبنانيين، لكن اتسع ليشمل العديد من التيارات السياسية والمجتمعية، ليتحول من تطرف التيار الوطني الحر وحده (حزب رئيس الجمهورية الحاليّ) وهو الحزب المعروف بموقفه العدائي ضد اللاجئين، إلى نسبة كبيرة من المجتمع.
يتم استخدام السوريين في الصراع السياسي بين الأحزاب وفي محاولة كل فريق شد عصب جمهوره
الفترة الماضية شهدت العديد من الأحداث التي تفضح تلك العنصرية منها إشعال النار في ثلاث خيام بمخيم للاجئين في بلدة دير الأحمر (شرق) على أيدي حراس محليين، ما أدى إلى وقوع اشتباكات بين السوريين وبعض رجال الإطفاء هناك، ما أسفر عن إصابة أحدهم، لتصدر البلدية أمرًا بإخلاء 400 سوري خيامهم والانتقال إلى مكان جديد.
ولم يمر وقت طويل على هذه الواقعة حتى أجُبرت قرابة 270 عائلةً سوريةً على الهرب من بلدة بشري (شمال)، خوفًا من عمليات انتقام قد يتعرضوا لها على خلفية خلاف وقع بين مواطن لبناني ولاجئ أدى إلى مقتل الأول، ما أشاع أجواء التوتر الملبدة بغيوم الاحتقان الشديد.
وهنا سؤال يفرض نفسه.. على من تقع المسؤولية حيال ما يتعرض له اللاجئون السوريون في لبنان؟ الكاتبة السورية عالية منصور، ترى أن “المسؤولية الأولى بعد مسؤولية (بشار) الأسد بتهجيرهم تقع على عاتق السلطة اللبنانية التي رفضت تنظيم اللجوء بشكل يحفظ سيادة لبنان وكرامة اللاجئ في الوقت نفسه”.
كما حملت غياب المحاسبة جزءًا من المسؤولية، مضيفة “إذ بإمكان أي كان الاعتداء على اللاجئ من دون الخوف من المحاسبة ورأينا هذا الأمر بفيديوهات ضرب وإهانة سوريين وشتمهم في مناطق عدة، بل شاركت قوى أمنية في الكثير من الأحيان بهذه الاعتداءات، “أنت سوري فأنت مدان حتى لو ثبت العكس”، بحسب تصريحاتها لموقع “الحرة“.
وتذهب الناشطة السورية إلى بعد آخر في معاناة اللاجئين في لبنان “يتم استخدام السوريين في الصراع السياسي بين الأحزاب وفي محاولة كل فريق شد عصب جمهوره، فعدا عن تحريض (جبران) باسيل في كل المحافل الدولية ضد السوريين وتحميله وتياره مسؤولية الوضع الاقتصادي للسوريين، لا نسمع من خصومه إدانة لكلامه بل إدانة للأسلوب بأفضل الأحوال وموافقة على فحوى الكلام، متجاهلين عن عمد حقيقة أن الكثير من الأموال التي تدخل إلى البلد تدخل عن طريق دول داعمة ومنظمات عاملة مع السوريين، وهذه هي الأموال التي تصرف بالبلد”.
ومع تفاقم الأوضاع الاقتصادية اللبنانية من المتوقع أن ينعكس ذلك على أوضاع اللاجئين السوريين، الأمر الذي ربما يقوض الاستقرار المجتمعي في البلاد، مع ترجيح احتمالات نشوب صدامات خلال الفترة المقبلة، فيما تقف السلطات عاجزة عن إيجاد حلول سريعة وحاسمة لهذه المعضلة.