في صيف 2019، وبينما كان ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، يتجول بسيارة فارهة في الحدائق الاستوائية بجوار القصر الرئاسي الصيفي في إندونيسيا، رفقة الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو، عرض الأمير الخليجي بناء مسجد كبير على أراضي مضيفه.
العرض لاقى استحسان الرئيس الإندونيسي المعروف باسم “جوكوي” الذي وجد في صديقه الإماراتي ضالته لإنعاش خزائن بلاده، والبدء في خطته الاستثمارية الطموح لتطوير البنية التحتية الإندونيسية بقيمة 400 مليار دولار، التي كان على رأسها بناء عاصمة جديدة تقدر تكلفتها بنحو 34 مليار دولار.
وقبل أن يغادر ابن زايد العاصمة جاكرتا كان قد تم توقيع عدد من اتفاقيات التعاون بقيمة 9.7 مليار دولار، كانت في إطار 12 ميثاق تعاون تم إبرامهم في عدد من المجالات الاقتصادية، بدءًا من السياحة وصولًا إلى الغاز، هذا بخلاف الاتفاق على تعزيز هذا التعاون مستقبلًا من خلال هيئة الاستثمار الإندونيسية (الصندوق السيادي الإندونيسي) الذي دُشن مؤخرًا لهذا الغرض تحديدًا.
بالأمس أعلنت الإمارات نيتها استثمار 10 مليارات دولار، مع هيئة الاستثمار الإندونيسية، في قطاعات إستراتيجية بالدولة الآسيوية، تشمل البنية التحتية والطرق والموانئ والسياحة والزراعة، في محاولة لتعزيز التعاون الاقتصادي والاجتماعي بين البلدين.
يتطلع ابن زايد لتعزيز نفوذ بلاده في أعماق آسيا، ليس في إندونيسيا ولا دول جنوب شرق القارة فحسب، بل حتى دول آسيا الوسطى، وهو التوجه الذي بدأ يفرض نفسه على ملامح السياسة الخارجية الإماراتية في إطار أجندة موسعة تستهدف توسيع رقعة نفوذ أبناء زايد في المنطقة، مستندين في ذلك إلى النفوذ المالي واستغلال الأوضاع الاقتصادية الحرجة لبعض الدول في التغلغل داخل مفاصلها.
يتزامن التوغل الإماراتي في إندونيسا مع انسحاب سعودي تدريجي في ظل تراجع نفوذ المملكة هناك في أعقاب توتر العلاقات بين الرياض وجاكرتا على خلفية تباين وجهات النظر حيال بعض الملفات، الأمر الذي دفع بعض المحللين للتساؤل عن احتمالية تقديم الإمارات لنفسها كبديل عن السعودية لدى الإندونيسيين.
أرضية مشتركة
في تحليل نشرته وكالة “بلومبيرغ” الأمريكية في مارس/آذار 2020 كشفت من خلاله أن العلاقات الشخصية بين ابن زايد وجوكوي كانت أحد الأسباب نحو تعزيز التعاون والتقارب بين البلدين، وهو ما ظهر للجميع خلال زيارة الرئيس الإندونيسي لأبو ظبي قبل خمس سنوات، حين أصر الحاكم الفعلي للدولة الخليجية على تناول الغداء مع جوكوي في مكان مفتوح أمام الجميع، وهي العلاقة التي وصفها وزير الاستثمار في حكومة جوكوي، لوهوت بانجيتان، بأن كل منهما يشير إلى الآخر بأنهما “أخوان”.
يجمع كلاهما كذلك معارضة نفوذ الإسلام السياسي في المنطقة، ويسعيا بكل ما أوتيا من قوة لتقليم أظافر هذا التيار الذي يرون فيه تهديدًا لأنظمة حكمهما، هذا بخلاف العزف على وتر التسامح والإنسانية وتصدير صور إيجابية للخارج عن حرية الاعتقاد وقبول الآخر لدى مجتمعي البلدين.
التغيرات الجيوسياسية في جنوب شرق آسيا من جانب والشرق المتوسط من جانب آخر، تعد هي الأخرى أرضيةً يمكنها تعزيز التقارب، فخفض واشنطن حضورها في المنطقة وتنامي النفوذ الصيني، يجعلا جاكرتا في حاجة لدولة غنية قادرة على إحداث التوازن النسبي في خريطة الاقتصاد الإقليمي بعيدًا عن الاعتماد على القوى صاحبة الأجندات الواضحة في تلك البقعة الحيوية من القارة.
وفي هذا الشأن يقول المحلل السياسي المتخصص في الشأن الإندويسي، كيفين أورورك: “العلاقات الإندونيسية الراهنة مع الشرق الأوسط بأسره محفوفة بالمشاكل. يوجد بالتأكيد نطاق لإعادة تحديد العلاقات بين المنطقتين، ووضعها عند مستوى أفضل حالاً”
وفي المقابل ترى الإمارات في إندونيسيا بوابتها الكبرى لتعزيز نفوذها في هذا السوق الكبير الذي من الممكن أن يكون له عائد اقتصادي كبير خلال السنوات المقبلة، بجانب المكاسب السياسية التي تسعى لتحقيقها من خلال تلك العلاقة، نظرًا لما تتمتع به جاكرتا من ثقل سياسي بين جيرانها.
ابن زايد.. بوابة جاكرتا للعالمية
ومع تدشين الصندوق السيادي الإندونيسي الشهر الماضي، كانت الإمارات من أوائل الجهات التي أنعشت خزائنه، هذا بجانب ضخها لحزمة من الاستثمارات المليارية في قطاعات عدة، منها ضخ 22.8 مليار دولار إلى صندوق إندونيسيا المتعلق بمشروعات البنية التحتية، بما في ذلك اتفاقات الطاقة بين شركة بترول أبو ظبي الوطنية وشركتي برتامينا وشاندرا آسري الإندونيسيتين، في 12 من يناير/كانون الثاني 2020.
وبعد يوم واحد فقط من هذه الخطوة أعلنت جاكرتا تعيين ابن زايد رئيسًا للجنة التي ستوجه عملية تطوير العاصمة الإندونيسية الجديدة، وهو المشروع الذي يعتبره البعض الأكثر طموحًا حول العالم، والمقرر تكلفته بـ34 مليار دولار كما تم ذكره سابقًا.
بعض المحللين فسروا تعيين ولي عهد أبو ظبي على رأس لجنة الإشراف على هذا المشروع بأنه محاولة لجذب الاستثمارات الأجنبية، لما يمتلكه من شبكة علاقات قوية مع العديد من الجهات والمنظمات المالية والاقتصادية التي ربما تفكر في المشاركة في هذا المشروع العملاق.
ويهدف الرئيس الإندونيسي إلى وضع بلاده على قوائم الاهتمام العالمي من خلال عاصمة تسع لـ7 ملايين شخص، من المقرر أن تبنى في أدغال جزيرة بورنيو (1200 كيلومتر من العاصمة جاكرتا)، وعليه يسعى لتوسيع دائرة علاقاته الخارجية لخدمة حلمه القومي، مع الوضع في الاعتبار أن اللجنة المكلفة بإدارة المشروع تضم بجانب ابن زايد، المؤسس والرئيس التنفيذي لمجموعة سوفت بنك، ماسايوشي سون، ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير.
وفي الأسبوع الأول من الشهر الحاليّ وقّعت مجموعة موانئ دبي الإماراتية اتفاقية مع مجموعة “ماسبيون جروب” الإندونيسية، بهدف إنشاء ميناء حاويات دولي ومنطقة لوجستية صناعية في منطقة جريسيك، باستثمارات تصل إلى 1.2 مليار دولار أمريكي، كخطوة أولى لاتفاقيات مستقبلية في مجال النقل البحري.
بديل للسعودية
كان يفترض أن تكون السعودية على قائمة الدول المرشحة للمشاركة في هذا المشروع بحكم العلاقات القوية التي تجمع بين جاكرتا والرياض، وهو ما توثقه الأرقام الرسمية عن حجم الشراكة الاقتصادية بين البلدين، إذ تأتي المملكة في المركز الـ13 من بين أكبر الشركاء التجاريين لإندونيسيا.
كما صُنفت السعودية في المركز الـ40، عام 2018، من حيث الاستثمارات الأجنبية، هذا بخلاف الروابط السياسية والثقافية والتاريخية التي تجمع بين البلدين، التي كانت تعد في السابق نموذجًا يحتذى به في عمق العلاقات بين الدول في قارة آسيا.
لكن منذ عام 2017 توترت العلاقات لحزمة من الأسباب أبرزها منح الرياض حزم استثمارية قوية في الصين بدلًا من إندونيسيا، خلال جولة العاهل السعودي لآسيا في هذا العام، وهو ما اعتبره الرئيس الإندونيسي أمرًا محبطًا، هذا بخلاف أزمة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في إسطنبول أكتوبر/تشرين أول 2018.
جاكرتا كانت من أوائل الدول التي أعربت عن قلقها من الجريمة، وطالبت بتحقيق شفاف وعادل، وذلك خلال اللقاء الذي جمع الرئيس الإندونيسي ووزير الخارجية السعودي السابق عادل الجبير، في إندونيسيا، وهو ما أثار غضب الرياض وقتها، وكان من نتائج هذا الموقف أن ألغى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، زيارة لإندونيسيا خلال جولته الإقليمية الآسيوية التي قام بها في 2019.
وفي هذه الظروف وجدت جاكرتا في أبو ظبي البديل الجاهز، خاصة في ظل استعداد الأخيرة لأداء هذا الدور بصرف النظر عن اعتبارات الأخوة مع الشقيقة الخليجية الكبرى، وهو ما أكدته خبيرة الاقتصاد السياسي في مؤسسة Asian Scenarios الفكرية، أسمياتي مالك، حين قالت: “حاول جوكوي تكوين شراكة قوية مع الإمارات بدلًا من السعودية”.