في الآونة الأخيرة، ظهرت شواهد كثيرة على احتمال كسر الجمود السائد في العلاقات بين مصر وتركيا منذ 8 أعوام، وبالأخص بعد أن طرحت القاهرة مناقصةً للتنقيب عن الثروات الطبيعية في 3 مناطق شمال البلاد على نحو يتسق مع الجرف القاري التركي، فردت أنقرة بسيلٍ من الترحيب والثناءات على هذه الخطوة.
غير أن التطور الأبرز على الإطلاق، والأخطر في نظر البعض، كان الدعوة الموجهة من تركيا لقنوات المعارضة المصرية في إسطنبول بخصوص مراجعة سياستها التحريرية تجاه النظام المصري، خلال الشهور القادمة، بحيث تتجنب التصعيد الكلامي ضده، وسط ترحيب رسمي من النظام.
ما أجادل فيه هنا، أن العلاقات بين البلدين، لأسباب هيكلية وإجرائية، غير مرشحة للنمو والتصالح الكامل، وأن هذه العودة باتت محددة بسقفٍ معين، ويرجع السبب في ذلك إلى أن النظام المصري سعى إلى مأسسة العداء لتركيا الحاليّة منذ 7 أعوام على نحوٍ قد يستحيل معه تطبيع العلاقات بشكل كامل في الأفق القريب.
آلية التعاون الثلاثي
دشنت مصر هذه الآلية إلى جانب اليونان وقبرص منذ نوفمبر/تشرين الثاني عام 2014، إذ تمخض عن اجتماع الدول الثلاثة في مصر لأول مرة ما يسمى “إعلان القاهرة” السياسي الموجه حصرًا ضد تركيا.
أهم ما صدر عن هذا الإعلان منذ 7 أعوام، كان إظهار “التكتل” في وجه السياسات التركية في منطقة شرق المتوسط وإقليم الشرق الأوسط بشكل عام، حيث تبارت الدول الثلاثة بهذا الإعلان التأسيسي في إظهار العداء والتبرم والتكتل ضد السياسات التركية في الخارج، بدايةً جزيرة قبرص، وحتى ليبيا وسوريا.
وأنقل لك فقرات بنصها من القمة الأخيرة لهذا التحالف أكتوبر/تشرين الأول 2019، إذ شددت الدول الثلاثة على ضرورة “اتخاذ مزيد من التدابير الملموسة لمساءلة الفاعلين الإقليميين المنخرطين في تمويل الجماعات الإرهابية وتزويدهم بالأسلحة والمقاتلين والإرهابيين الأجانب وتوفير ملاذ آمن ومنصات إعلامية لهم”.
وعن ليبيا وسوريا: “ورفض التدخل الأجنبي في الشأن الليبي وقيام بعض الأطراف بتصدير الأسلحة والمعدات العسكرية وتسهيل نقل المقاتلين الأجانب..(..) والقلق إيذاء الوضع في إدلب بوجود آلاف من الإرهابيين الذين يتلقون المساعدة من أطراف بعينها فيما يمثل تهديدًا مشتركًا لمنطقة المتوسط”.
وفيما يخص قبرص: “دعوة تركيا لإنهاء الأعمال الاستفزازية وسحب القوات الأجنبية من قبرص وإدانة الإجراءات التركية المنفردة في المنطقة الاقتصادية الخالصة والتنقيب في الجرف القاري لقبرص”.
التحالف الثلاثي الذي شهد منذ تأسيسه أعمال 8 قمم مختلفة بين العواصم الثلاثة، ليس دعوةً للحوار وإنما شيء من استعراض القوة
وقد وجه الرئيس القبرصي الشكر للسيسي في هذه القمة قائلًا: “بالنيابة عن الشعب القبرصي والحكومة، نعبر عن امتناننا العميق على دعم مصر والرئيس عبد الفتاح السيسي للجهود القبرصية لإيقاف الاحتلال وإعادة وحدة قبرص بطريقةٍ تضمن بشكل قاطع استقلال وسيادة وآمال وطننا بعيدًا عن إرث أي قوة خارجية”، وعرض كيرياكوس ميتسوتاكيس رئيس وزراء اليونان بتركيا قائلًا: “تستضيف مصر 5 ملايين لاجئ بأراضيها، وتواجه شبكات التهريب، دون أن تطلب أي مقابل على هذا العمل”.
كما عقدت اجتماعات تلك الآلية الثلاثية في منتصف فبراير/شباط الماضي على مستوى وزراء الخارجية، أي منذ شهر واحد فقط، بحضور، لأول مرة، وزراء خارجية باقي الدول المعادية لتركيا من خارج الآلية مثل فرنسا والسعودية والإمارات والبحرين تحت شعار “منتدى الصداقة”، وهي نفس الآلية التي خاطب رئيس الوزراء اليوناني السيسي تحت مظلتها كي يقطع الطريق على المحادثات التركية المصرية مؤخرًا.
بكل تأكيد، يحق لكل دولة تكوين ما تشاء من التحالفات، لكن المؤكد أيضًا أن هذا التحالف الثلاثي الذي شهد منذ تأسيسه أعمال 8 قمم مختلفة بين العواصم الثلاثة، ليس دعوةً للحوار وإنما شيء من استعراض القوة والقدرة على التكتل والتباري في النيل من تركيا، من شرق المتوسط إلى سوريا.
وقد سعت الدول الثلاثة إلى مأسسة هذا التحالف إجرائيًا خلال الفترة الأخيرة، من خلال تدشين أمانة عامة دائمة له في نيقوسيا، وإنشاء منتدى غاز المتوسط، وتنويع التحالف في المجالات المختلفة الأخرى كالدفاع والأمن والطاقة والاستثمار والسياحة والتعليم والثقافة وشؤون المواطنين بالخارج، إلى جانب المضي قدمًا في مشروع الربط الكهربائي الثلاثي دون تركيا.
التعاون العسكري
بحسب خلاصات من تسريبات “ويكيلكس” قبل ثورة يناير/كانون الثاني 2011، كان الجيش المصري يواجه انتقادات خارجية كثيرة بسبب حفاظه على بنيته التقليدية: جيش مركزي لا أعداء خارجيين له، إلا من الشرق، وغير منخرط في الحرب على الإرهاب.
بعد وصول السيسي إلى الحكم، لم تتغير البنية التقليدية للجيش المصري، إلا أنه صار – إلى جانب حربه على الإرهاب – له أعداء خارجيون جدد بشكل أكثر وضوحًا، على رأسهم تركيا، دون أدنى مبالغة، وهو ما يتضح في الأنشطة والتدريبات والتسليح التي شهدها الجيش مؤخرًا.
في الـ5 من نوفمبر/تشرين الثاني عام 2019 وفي امتدادٍ لآلية التعاون الثلاثي مع كل من اليونان وقبرص، اجتمع وزراء دفاع الدول الثلاثة، ووقعوا على وثيقةٍ مشتركةٍ تضمنت ما أسموه “إدانة العدوان التركي على المياة القبرصية وعلى سوريا، واستمرار التدريبات العسكرية المشتركة وتعميق التعاون الدفاعي في مجالات أخرى”.
بالإضافة إلى ذلك، فإن إحدى أبرز المناورات العسكرية الثلاثية التي انبثقت عن آلية التعاون الثلاثي تلك، هي مناورة جوية بحرية تستهدف تركيا رمزيًا وتشهد التدريب على أعمال قتالٍ عمليٍ يقال إنه لأغراض دفاعية، تحمل اسم “ميدوزا”.
مع انطلاق النسخة العاشرة لهذه المناورات في المياة الإقليمية المصرية شرق المتوسط ديسمبر/كانون الماضي، التقى السيسي وزير الدفاع اليوناني وأعرب خلال اللقاء عن التطلع لتطوير التعاون العسكري والتدريبات المشتركة، مشيدًا بمستوى التعاون في المرحلة الحاليّة، على المستوى الثنائي، أو في آلية التعاون الثلاثي.
بين مصر واليونان اللائي يجمعهما عداء تاريخي مشترك للدولة العثمانية، تعاونٌ عسكريٌ ثنائيٌ ضخم منفصل
فأجابه وزير الدفاع اليوناني بأن “زيارته لمصر تعكس التنامي المتزايد الذي تشهده العلاقات الإستراتيجية بين البلدين، وتحركه المصالح المشتركة والاحترام المتبادل ورغبة البلدين في العمل على تحقيق الأمن والاستقرار وحرص اليونان على تعزيز علاقات الشراكة القائمة بين البلدين على المستوى العسكري والأمني”.
ويعد “ميدوزا”، كما يوصف في البيانات العسكرية المشتركة عن هذا التدريب: “أكبر التدريبات البحرية والجوية المشتركة التي تنفذ في نطاق البحر المتوسط، بما يعكس التقارب التام وتوحيد المفاهيم العملياتية بين القوات المسلحة لكل من مصر واليونان وقبرص للتعاون في فرض السيطرة البحرية وتأمين الأهداف الاقتصادية والحيوية والتصدي لأي عدائيات محتملة”.
وللمفارقة، فقد أقيمت نسخة هذا العام، ميدوزا 10، كما ذكرنا في السواحل الشمالية لمصر، شرق المتوسط، لعدة أيام، بمشاركة حاملات المروحيات، وجرى خلالها التدريب على هجمات جوية وتنفيذ رمايات من المدفعية البحرية، فكان إلى جانب مصر وقبرص واليونان، الثنائي الإمارات وفرنسا، أي التحالف الكبير ضد تركيا، ولم يكن ينقصهم إلا السعودية، التي شاركت لاحقًا في مناورات مشتركة في اليونان هذا الشهر.
وبين مصر واليونان اللائي يجمعهما عداء تاريخي مشترك للدولة العثمانية، تعاونٌ عسكريٌ ثنائيٌ ضخم منفصل، بعيدًا عن آلية التعاون الثنائي، تمخض بهذا الشكل إثر صعود السيسي إلى الحكم في مصر، وتبلور تركيا كقوةٍ عسكريةٍ معادية في العقيدة العسكرية المصرية الجديدة.
ربما يمكن تجسيد هذا التعاون في زيارة الفريق أول كونستانتينوس فلوروس رئيس هيئة الأركان العامة اليوناني إلى مصر، التي استمرت 3 أيام، يناير/كانون الثاني الماضي، قابل خلالها وزير الدفاع المصري لبحث ما أسمياه “الشراكة الإستراتيجية التي تربط القوات المسلحة المصرية واليونانية في مختلف المجالات خاصةً الدفاعية والأمنية منها، وأهمية تنسيق الجهود والتعاون العسكري بين القوات المسلحة لكلا البلدين”.
وإلى جانب التدريب الجوي المشترك بين مصر واليونان (حورس)، والتعاون في مجال تبادل المعدات العسكرية الفائضة عن الحاجة على غرار منح أثينا القاهرة نحو 100 من ناقلات الجند المدرعة مؤخرًا، فمن المرتقب أن توقع البلدان اتفاقيةً عسكريةً ثنائية تتضمن، كما سربت المصادر: “إستراتيجية لتبادل الخبرات العسكرية في شؤون التدريب والتسليح، والتصدي للأوضاع المضطربة في شرق المتوسط، ومواجهة التصرفات التركية، وتبادل الخبرات العسكرية والتدريب المشترك”.
ولعل من أبرز الشواهد على حقيقة تحول تركيا إلى قوةٍ عسكرية معادية للعقيدة العسكرية المصرية الجديدة، إلى جانب استعدادات الجيش المصري العملية لمواجهةٍ عسكريةٍ محتملة مع الجيش التركي في ليبيا وشرق المتوسط منذ شهور قليلة، كانت مناورات البحرية المصرية مع نظيرتها الروسية في البحر الأسود، أكتوبر/تشرين الأول الماضي، التي تضمنت عبور القطع البحرية المصرية من مضيق البوسفور التركي وبحر مرمرة إلى محيط انعقاد التدريب حتى نهاية العام.
ترسيم الحدود البحرية ومنتدى غاز شرق المتوسط
من أبرز الدلائل على سعي النظام المصري لمأسسة العداء لتركيا عبر خطوات متراكمة ومتتالية ومتشعبة عابرة للأفراد (القادة) بشكل يصعب أي فرص مستقبلية حقيقية للتقارب ويكرس للتكتلات الإقليمية ضد تركيا، كانت خطواته الأخيرة نهاية العام الماضي، في ترسيم الحدود البحرية مع اليونان وتطوير منتدى غاز شرق المتوسط.
رغم ما تضمنه الاتفاق التركي الليبي لترسيم الحدود البحرية المشتركة نوفمبر/تشرين الثاني عام 2019 من مكاسب لمصر، سواء في إعاقة مشروع نقل الغاز الإسرائيلي والقبرصي إلى أوروبا (إيست ميد) أم في توسيع مساحة الحدود البحرية المصرية بما يعطي مزيدًا من الفرص للاكتشافات الطاقوية المستقبلية، فإن النظام المصري قرر نهاية العام الماضي، أغسطس/آب تحديدًا، ترسيم الحدود البحرية مع اليونان، لأهداف من بينها إعاقة الترسيم التركي الليبي.
الرغبة المضمرة في إظهار التكتل وتقنين العداء ضد تركيا من خلال هذه الخطوة، بدت واضحةً في تصريحات نيكوس دندياس وزير الخارجية اليوناني، عندما قال نصًا: “بهذا الاتفاق، فإن أي اتفاق بين الأتراك والليبيين محله صندوق المهملات“، إذ أضر الترسيم التركي الليبي باليونان عندما تجاوز جزيرة “كريت”، وهو ما أثار الغضب التركي رسميًا، فقد اعتبر الأتراك هذا الترسيم المصري اليوناني ينتهك الجرف القاري لهم.
كما عبر الجانب المصري عن إضمار فكرة تقنين التكتل وعزل تركيا بهذا الاتفاق مع اليونان بعيدًا عن أي استفادة من الموارد، عندما قال على لسان وزير الخارجية سامح شكري: “هذا الاتفاق يتيح لكل من مصر واليونان المضي قدمًا في تعزيز وتعظيم الاستفادة من الثروات المتاحة في المنطقة الاقتصادية لكلٍ منهما، خاصةً احتياطات النفط والغاز الواعدة، ويفتح آفاقًا جديدةً من التعاون الإقليمي بمجال الطاقة في ظل عضوية البلدين منتدى غاز شرق المتوسط”.
ظهرت أنياب التحالف بالتزامن مع محاولة تركيا مد جسور التواصل إلى النظام المصري، بمناورةٍ بحريةٍ واسعة في شرق المتوسط
أما هذا المنتدى، منتدى غاز شرق المتوسط، فمع الاحترام لكل ما كتب في ميثاق تأسيسه يناير/كانون الثاني 2019 عن إنشاء سوق إقليميةٍ للغاز وتنسيق السياسات الخاصة لاستغلاله وتسريع الاستفادة من احتياطاته، فإن الغرض الرئيس لتأسيسه، بتركيبته الحاليّة، ثم إعلانه مؤسسةً إقليميةً سبتمبر/أيلول، بعد ترسيم الحدود البحرية مع اليونان بشهر واحد، هي الرغبة في عزل تركيا عن ثروات شرق المتوسط، بكل السبل الممكنة، قانونًا وإعلامًا وسياسةً، والتوسع في إظهار الاتحاد ضدها.
يضم المنتدى إلى جانب أعضائه السبع، مصر وقبرص واليونان والأردن وإيطاليا وفلسطين و”إسرائيل”، كياناتٍ ذات صفة دولية مثل ممثل المفوضية الأوروبية لشؤون الطاقة وممثل عن البنك الدولي، مع رغبة كل من فرنسا في الانضمام كعضوٍ كامل، والولايات المتحدة والإمارات كمراقبين، وهو ما لا يعني، بهذه الصورة، إلا أمرًا واحد: تكريس عزل تركيا وحصارها إقليميًا، ومحاولة خنقها لكسر إرادتها ورؤيتها الخاصة بجرفها القاري.
“إسرائيل”
قد يبدو لك الزج بـ”إسرائيل” في هذا المقام، حيث التحدث عن آفاق التقارب المصري التركي، أمرًا مستغربََا، لكن الحقيقة أن لـ”إسرائيل” دورًا في تكريس القطيعة والعداء بين مصر وتركيا من أكثر من جهة.
فـ”إسرائيل” تربطها علاقات وثيقة مع كل من اليونان وقبرص في شرق المتوسط، إذ يخطط ثلاثي أضواء المتوسط هذا إلى الربط الكهربائي من الخضيرة في الأراضي المحتلة شمالًا إلى جزيرة كريت اليونانية برعاية الاتحاد الأوروبي.
وتخطط مع نفس الثنائي إلى مد خط ينقل الغاز منها ومن قبرص مرورًا باليونان إلى الاتحاد الأوروبي، بدلًا من الغاز الروسي، إذ يخطط الأوروبيون إلى الخروج من هيمنة موسكو في ملف الطاقة، ضمن مشروع “إيست ميد”.
أي أن “إسرائيل” دشنت تحالفًا ثلاثيًا مشابهًا للتحالف المصري مع كل من اليونان وقبرص، ضد تركيا، وقد ظهرت أنياب هذا التحالف بالتزامن مع محاولة تركيا مد جسور التواصل إلى النظام المصري، بمناورةٍ بحريةٍ واسعة في شرق المتوسط، ضمت الثلاثي “إسرائيل” واليونان وقبرص، وقالت الصحافة الإسرائيلية إنها ليست موجهة ضد أحد، إلا تركيا.
هذا، بخلاف العداء الإسرائيلي لتركيا في ملفاتٍ كثيرة، من ضمنها الموقف التركي الإيجابي من إيران، والنفوذ التركي في القدس، والموقف التركي المعادي للأكراد في سوريا والعراق، والموقف التركي الإيجابي من حماس، إذ تنظر تحليلات استخباريةٌ داخلية في الاحتلال إلى أن تركيا أخطر إجمالًا من إيران.
المهم، أنه رغم الخطر الإسرائيلي على مصر، خاصة في المشروعات التي تدخل ضمن حقل “الجغرافيا الاقتصادية” فإن النظام في مصر يصر على رعاية مصالح الاحتلال بشكل واضح، ظهر في صفقة استيراد الغاز ودخوله إلى منتدى غاز المتوسط والتغاضي عن إثارة الحديث عن مشروع “إيست ميد”، وزيارة وزير البترول المصري الأخيرة إلى حقل غاز “لفياثان”.
ما يسيطر على عقل القيادة السياسية في مصر، أن التودد للاحتلال ضروري من أجل الاستمرار في خنق خصومه الإسلاميين، في الداخل والخارج، وإيجاد نافذة مستدامة لدى الأمريكيين، ولو كان هذا التودد على حساب مصر والمصريين.
في ظل الوضع الحاليّ من العلاقة بين النظام في مصر ودولة الاحتلال، سيكون من الصعب تخيل تطبيع العلاقات بين مصر وتركيا
يجسد تصريح وزير البترول المصري طارق الملا عن سبب استيراد شركة مصرية شبه حكومية الغاز الإسرائيلي بقيمة 15 مليار دولار لمدة 15 عامًا، رغم الاكتفاء الذاتي من الغاز، هذه العلاقة المضطربة، حيث قال نصًا: “نستورد الغاز الطبيعي من “إسرائيل” للحفاظ عليه من الهدر، لأن عدد السكان في “إسرائيل” قليل ولديها فائض كبير، وسيمرر هذا الغاز على محطات الإسالة لإعادة تصديره للأردن”.
في ظل الوضع الحاليّ من العلاقة بين النظام في مصر ودولة الاحتلال، سيكون من الصعب تخيل تطبيع العلاقات بين مصر وتركيا، فما يبحث عنه النظام المصري والإسرائيليون على المستوى السياسي الصرف والچيوسياسي هو إقليمٌ بمواصفاتٍ معينة، يصعب أن يحوي بداخله تركيا، التي تمتلك مشروعًا حضاريًا وثقافيًا مختلفًا تمامًا.
الشام الجديد
“الشام الجديد” بهذا المركب الوصفي هو أحد مشروعات الجغرافيا الاقتصادية والسياسية النوعية، التي تستهدف تغيير شكل المنطقة، من حكامها الحاليّين، وتكمن علاقة تركيا بالمشروع في أنها كانت ضلعًا رئيسيًا فيه، من خلال نسخته التي طرحها البنك الدولي لأول مرة عام 2006، إذ كان المشروع يضم تركيا والعراق معًا، إلى جانب الأردن ومصر.
لكن النسخة التي طرحتها رسميًا الحكومات العربية، أغسطس/آب الماضي، وهو الشهر الذي وقعت مصر خلاله على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع اليونان، تضمنت إبعاد تركيا خارج المشروع، ليقتصر المشروع على الثلاثي: العراق والأردن ومصر.
الطرح النظري للمشروع جيدٌ ومبشر للغاية، حيث لخص في عبارة “النفط مقابل الإعمار”، إذ يفترض أن يفيض النفط العراقي من حقل الرميلة وغيره بالبصرة جنوب العراق، إلى ميناء العقبة الأردني ثم إلى مصر، إذ ستحصل القاهرة على البرميل بـ16 دولارًا فقط، مقابل أن تساعد في إعمار العراق وتشارك في الربط الكهربائي بين الدول الثلاثة من خلال فوائض الطاقة الموجودة لديها، وقد وقع العراق بالفعل عقدًا ضخمًا مع إحدى الشركات الأمريكية لتمويل تأسيس البنية التحتية اللازمة للربط الكهربائي مع الأردن.
لكن الطريقة التي طرح بها المشروع، من استبعاد تركيا من جهة، مع اقتصاره على الأردن التي تتخذ مواقف معادية لتركيا بوضوح، سواء في ملف النفوذ الناعم في القدس أم في التنسيق السياسي مع قبرص واليونان أم في الدعم العسكري لحفتر أم في الدعم السياسي لأرمينيا، إلى جانب مصر التي تطمع في منافسة تركيا على تركة إعادة الإعمار في العراق من خلال جبهة عربية سنية جديدة لا تعادي “إسرائيل” من جهة أخرى، يجعل المشروع التنموي جزءًا من “آلية تحالف ثلاثي” جديدة، على غرار التحالف المصري مع اليونان وقبرص والتحالف الإسرائيلي مع نفس الدولتين، وكلها أحلافٌ موجهة إلى تركيا، ستعقد من إمكانية تطبيع العلاقات معها مستقبلًا.
موطن خصوم تركيا
كما أن تركيا باتت خلال الأعوام الأخيرة موطنًا لخصوم النظام المصري السياسيين ومنصة لمعارضته، فإن النظام المصري سعى إلى أداء نفس الدور، إلى حدٍ كبير، عن قصد، خلال نفس الفترة، صحيحٌ أنه لم ينجح في ذلك بنفس القدر الذي حدث مع تركيا لأسباب كثيرة، لكنه حصل.
من أبرز الأمثلة على ذلك، استقبال وفد من الإدارة الذاتية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي (أكراد سوريا) مايو/آيار 2018، يضم شخصيات سياسية معروفة في المجتمع المحلي هناك مثل ألدار خليل وحسين عزام وإليزابيث كورية.
في هذا التوقيت وتعليقًا على هذه الزيارة، قال محمود ماضي نائب رئيس التحالف الوطني لقوى الثورة السورية: “الإدارة الذاتية تبحث اليوم عمن يقف معها ويحميها من التهديدات التي تواجهها من تركيا والجيش الحر، لا سيما أن مصر بعد الانقلاب العسكري وتسلم السيسي السلطة راحت تحاول إزعاج تركيا بشتى الطرق”.
وفي وقتٍ سابق إثر تراشقٍ بين النظام في مصر وتركيا في الأمم المتحدة قال فيه الأول: “تركيا استهدفت الأكراد بالقمع والقتل والإبادة، وهو ما يدخل في مصاف الجرائم ضد الإنسانية التي تستوجب المحاسبة التي لا تسقط بمرور الوقت”، أصدر الحزب الجمهوري الكردستاني في سوريا بيانًا ثمن فيه موقف القاهرة “المتقدم” وعده “استمرارًا للعلاقات الإيجابية والتاريخية الراهنة بين الجانبين”.
بادرت مصر بطرح مناطق للتنقيب الطاقوي في البحر المتوسط بما أثار ترحاب الإدارة التركية وبادرت أيضًا بطلب التهدئة الإعلامية من قنواتها عند تناول الشأن التركي
وفي سبتمبر/أيلول 2019 استضافت إحدى القنوات الفضائية المصرية الداعمة للنظام فتح الله غولن المتهم بالتورط في دعم الانقلاب العسكري في تركيا عام 2016، أثنى خلاله غولن على النظام المصري قائلًا: “القيادة المصرية بما تتمتع به من نضوج قادرة على خلق طاقة جماعية تؤدي إلى تحقيق تكامل وتساند بين هذه الدول كافة، إذا واصلت سيرها على هذا الدرب”.
وبحسب موقع نورديك مونيتور السويدي الممول خليجيًا، فإن النظام المصري استثمر في مأسسة العداء لتركيا سياسيًا من خلال استضافة صنوف متعددة من خصوم الإدارة التركية تشكل حاليًّا في مصر مجتمعًا من التربويين والجمعيات المحلية والشركات التجارية ورجال الأعمال والمدارس الدولية ومراكز تعليم اللغة التركية والصحف المعارضة، وتقدر أعدادهم بالعشرات من المقربين من جماعة الخدمة التركية.
وفي فبراير/شباط 2019 عرض السيسي في مؤتمر ميونخ للأمن بملف الأرمن قائلًا: “مصر استضافت الأرمن منذ 100 سنة بعد المذابح التي تعرضوا لها، فوجدوا الأمن والاستقرار لدينا”، في إشارة إلى سردية الاضطهاد الأرمنية قبل سقوط الدولة العثمانية التي تنفيها تركيا.
كما استقبل النظام في مصر وزير الخارجية الأرمينية زوهراب مناتساكاينان سبتمبر/أيلول الماضي، الذي عرف فيما يبدو سياق استضافته جيدًا إلى الحد الذي دفعه للتصريح بأن “هناك تضامنًا مع اليونان وقبرص في حقوقهم بمنطقة شرق المتوسط، هذه الحقوق لا يمكن التنازل عنها، تركيا كانت الدولة الوحيدة التي سارعت بنقل الإرهابيين إلى الإقليم المتنازع عليه ودعمت الموقف الأذربيجاني”، وقد هرول الرئيس الأرميني، أرمين سرخيسيان، إلى الاستنجاد بالسيسي بعد اشتداد المعارك ضد جيشه في قره باغ اتساقًا مع هذا الموقف المصري الذي يتربص العداء بتركيا في الأبوب الخلفية.
الخلاصة
بادرت مصر بطرح مناطق للتنقيب الطاقوي في البحر المتوسط بما أثار ترحاب الإدارة التركية وبادرت أيضًا بطلب التهدئة الإعلامية من قنواتها عند تناول الشأن التركي، لكنه تقاربٌ يغلب عليه الدافع الخارجي أكثر من العوامل الذاتية، إذ تقف خلف هذا التقارب السياسات الأمريكية الجديدة الرامية إلى احتواء الأزمات الكبرى في المنطقة، بما في ذلك أزمة شرق المتوسط والصراع في ليبيا.
رغم أن النظام المصري يقول إن سياساته الرامية إلى مأسسة العداء لتركيا تستهدف حفظ التوازن الإستراتيجي في المنطقة والحد من المخاطر الخارجية، وأنه لا يسعى إلى التدخلات الخارجية في المنطقة، فإنه لا يملك أي رؤية سياسية جادة لفهم أبعاد الموقف التركي أو احتوائه، وهو ما قد يتسبب في أحداث غير متوقعة أو خارجة عن السيطرة، حال فشلت جهود التهدئة في وقت ما مستقبلًا، فسياسة خنق تركيا لن تؤدي بالضرورة إلى تراجع الأتراك.
بالإضافة إلى أشكال مأسسة العداء مع تركيا التي رعاها النظام المصري وتحول بين توطيد العلاقة بين الطرفين، فإن هناك موانع لدى تركيا تعيق التطبيع الكامل للعلاقات، مثل القطيعة الجزئية مع الأنظمة القادمة من خلفية انقلابات عسكرية، فتركيا تسعى إلى صياغة دستور مدني جديد بدلًا من الدساتير التي صيغت بعد انقلابات عسكرية، وعارضت في الفترة الأخيرة انقلابين على أنظمة ليست على وفاق معها، مثل الانقلاب الأخير في ميانمار والانقلاب الفاشل في أرمينيا.
بالنظر إلى أشكال مأسسة العداء مع تركيا، وبعض القيود الأخلاقية والسياسية في نفس الوقت من جانب تركيا، فإن هناك سقفًا يحد من فرص التقارب بين مصر وتركيا، هو أن تقوم البلدان في ذروة الانفتاح “التكتيكي” على بعضهما البعض بتوقيع اتفاقية ترسيم بحرية جزئية، وهي صلب المطالب التركية من مصر، مقابل تسوية ملف الإعلام المصري المعارض في إسطنبول الذي يؤرق السيسي ويعد أهم الملفات التي تعنيه مع أنقرة.