أكثر من ربع قرن على الإبادة الجماعية في رواندا التي أراقت دماء أكثر من 75% من عرقية التوتسي في البلاد، إرث ثقيل للغاية تحاول رواندا التخلص من ميراثه، إذ يعيش الآن الناجون من الإبادة الجماعية والجناة جنبًا إلى جنب، ويندمج القتلة المدانون مع المجتمع بشرط تقديم اعتذارات علنية عن جرائمهم، بينما يقدم الناجون المغفرة والتسامح لإتمام مصالحة ضمن الأكثر تعقيدًا في المنطقة والعالم، لكن كيف كان الطريق؟ وماذا عن الدروس والعبر التي تركتها القضية للإنسانية؟!
عن قرب
في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 1990، اندلعت حرب أهلية واسعة النطاق في رواندا، دارت بين القوات المسلحة التي كانت موالية لحكومة البلاد والجبهة الوطنية الرواندية المتمردة (RPF)، كانت الحرب انعكاسًا بالأساس لتصارع القوى المجتمعية على الأرض بين قبيلتي الهوتو والتوتسي.
أغلبية الهوتو من المزارعين الفقراء الذين لا يجدون إلا الفتات، يُحصلوّنها من خلال عمل شاق في الأراضي الزراعية التي تعود ملكيتها إلى قبيلة التوتسي وهي الأقل عددًا، لكنها الأقوى سياسيًا واقتصاديًا، الأمر الذي مكنّها من السيطرة على الهوتو ـ الأغلبية ـ.
نحو 85% من الروانديين من الهوتو، ورغم ذلك سيطرت أقلية التوتسي على مقاليد الحكم في البلاد لفترات طويلة، ربما ساهم الزواج المختلط بين أفراد القبيلتين وتأثير تعاقب الزمن ودوران حركة الثقافة على تقليل نزعات الانقسام وطمس الكثير من الخلافات الإثنية والدينية، لكن موازين القوى على الأرض لم تتغير، فأبناء قبيلة التوتسي منهم الحكام وذوو النفوذ، والهوتو هم المحكومون دائمًا.
ساعد على ترسيخ هذه الذهنية حكم الاستعمار البلجيكي الذي احتكر واستعمر البلاد وقرارها السياسي والاجتماعي، وسمح لنفسه بتقسيم المجتمع طبقيًا وعرقيًا أغلب عقود القرن الماضي، وعلى هذا الأساس استحدث بطاقات هوية أعادت تقسيم الروانديين تبعًا لانتمائهم القبلي.
تسبب نظام الحكم الذي أسس أركانه على الأوليغاركية أو حكم الأقلية في تفجير ثورة عرفت باسم “الثورة الاجتماعية الزراعية” نجحت في عزل الملك كيغلي الخامس وإبعاده عن رواندا وإلغاء الملكية عام 1961 وإعلان استقلال شكلي وقيام الجمهورية الأولى للهوتو عام 1962.
لكن الجمهورية الوليدة لم تعرف الاستقرار بعد الثورة، إذ شهدت العديد من التوترات الاجتماعية بعد أن أعادت الممارسات التي تمردت عليها، وحرمت أفراد التوتسي من التعليم العالي والوظائف وممارسة السياسة، وكانت النتيجة تنشئة جيل كامل من الروانديين على ذهنية تعتبر التوتسيين المنفيين درجة ثانية في المواطنة.
ساهم هذا المشهد المحتقن في تشكيل الجبهة الوطنية الرواندية في المنفى بذراع عسكرية تهدف إلى قلب نظام حكم الهوتو، وحصلت المعارضة على دعم قوي من دولة أوغندا المجاورة، لتبدأ المواجهات عام 1990 بعبور المتمردين إلى شمال رواندا.
اعتمد التوتسيون أسلوب حرب العصابات منهجًا لهم في تقويض السلطة الحاكمة وإضعاف هيبتها السياسية والاجتماعية، فضلًا عن شل حركتها على الأرض وإضعاف الروح المعنوية لأتباعها، وبحلول عام 1992 تصاعدت حمية المواجهات، دون أن يتمكن أي الطرفين من السيطرة على المشهد العسكري.
مفاوضات السلام
الضربات العسكرية المكثفة والمتتالية للمعارضة تكفلت بدفع الرئيس الرواندي جوفينال هابياريمان للبدء في مفاوضات السلام مع الجبهة الوطنية الرواندية وأحزاب المعارضة المحلية، تخلل ذلك اضطرابات في جبهة الرئيس بعد تصعيد مجموعات على شاكلة ما عرف باسم “Hutu Power” وهي مجموعة من المتطرفين المعارضين ورفضهم لأي تواصل مع التوتس، ومحاولاتهم المستمرة لإفشال الاتفاق بتدبير عمليات اغتيالات وقتل ونهب.
استكملت المفاوضات في أجواء من التوتر الشديد، حتى تم توقيع اتفاقيات أروشا في أغسطس/آب 1993، كمعاهدة سلام انتقالية لإنهاء الحرب الأهلية بعد مباحثات تم التفاوض عليها في مدينة أروشا التنزانية، وعبر وساطة خاصة من الرئيس التنزاني السابق جوليوس نيريري.
استندت الاتفاقات إلى نقاط أساسية لتقاسم السلطة، على رأسها مراعاة الحصص العرقية لكل فريق، وتمثيل جميع الأطراف في بيروقراطية الدولة ووضع قيود دستورية لمنع أي حزب من الانفراد بالحكم والقوة والنفوذ ووضع مسارات لدمج المتمردين السابقين والأقليات في القوات المسلحة وكانت هذه المبادئ ضمن الأطر الأساسية التي قام عليها دستور رواندا لاحقًا.
انقلاب على السلام
رغم توقيع الاتفاق ومحاولة إحلال السلام بين مكونات المجتمع الرواندي، فإنه بقي حبرًا على ورق، ولم يستطع إذابة جراح الماضي فتجددت الصراعات مرة أخرى في وجود البعثة الخاصة بالسلام التي أرسلتها الأمم المتحدة.
كانت المجموعات الأكثر تطرفًا في قبيلة الهوتو قد نجحت في وضع خطة سميت بالحل النهائي لإبادة التوتسي، وطبقتها فور اغتيال الرئيس هابياريمان، الذي قتل في هجوم بصاروخ أصاب طائرته في مطار كيغالي يوم 6 من أبريل/نيسان 1994، وكانت القشة التي أشعلت مئة يوم من الدماء.
قتل نحو 800 ألف شخص، غالبيتهم من أقلية التوتسي، وامتدت عمليات الانتقام لاستهداف الهوتو المعتدلين، وكل الذين رفضوا عمليات الإعدام على الهوية والإبادة الجماعية في رواندا، وبالطبع لم تعط هذه الأحداث خيارًا آخر للجبهة الوطنية الرواندية، التي استسلمت للحرب الأهلية ونجحت في الاستيلاء على الأراضي وحاصرت العاصمة كيغالي واستولت عليها، ما أجبر فلول الحكومة والمحرضين على الإبادة للفرار إلى زائير.
المحاكمة والاعتراف
ليس سهلًا اللجوء إلى المصالحة بعد صراع طويل ترتب عليه دماء وانشقاقات أهلية كبيرة، لهذا ربما تمثل أولى درجات التصالح الاعتراف بالخطأ وجهًا لوجه، وهو ما حدث خلال المحاكمات التي تلت سنوات الإبادة الجماعية واعتقل في ضوئها أكثر من 120 ألف شخص اتهموا بتحمل المسؤولية الجنائية عن مشاركتهم في عمليات القتل.
مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة حاول من ناحيته المساهمة في الحل، وأوصى بإنشاء محكمة جنائية دولية لرواندا في نوفمبر/تشرين الثاني 1994، استمرت حتى ديسمبر/كانون الأول 2015، وبدأت المحاكمة الأولى في يناير/كانون الثاني 1997 وحكمت على 61 شخصًا بالسجن المؤبد لدورهم في المذابح، فيما تمت تبرئة 14 متهمًا وإحالة 10 آخرين إلى المحاكم الوطنية.
5800 يوم من الإجراءات استمعت فيها المحكمة الجنائية الدولية إلى روايات أكثر من 3 آلاف شاهد سردوا الأحداث الأكثر ترويعًا، ومع ذلك لم تتجاوز البلاد الجزء الأكبر من هذه الأزمة إلا عبر الاحتكام إلى تقاليدها من خلال نظام محاكم جاكاكا الذي يسوي المنازعات عبر جلب الجناة وجهًا لوجه مع الضحايا والمجتمع الأوسع للاعتراف وطلب العفو.
سهل هذا النظام الانتهاء من محاكمة الأعداد الهائلة من الجناة المزعومين الذين كانوا في حاجة إلى ما يقرب من 200 عام لإنهاء محاكمة أكثر من 130 ألفًا، لهم كل الحقوق في إثبات براءتهم أو تقليل مستوى إدانتهم أمام قاضيهم الطبيعي، الأمر الذي كان سيؤثر بشدة على الاقتصاد بسبب طول التقاضي، فضلًا عن زرع بذور الاحتقان مرة أخرى .
تراوحت عقوبة محاكمات محاكم جاكاكا من السجن إلى خدمة المجتمع، لكن الأهم من ذلك أنها أعطت الضحايا فرصةً للتحدث علنًا عن حقيقة ما حدث، وكانت المحاكمات أول خطوة في تحقيق المصالحة، إذ قدمت الآلاف من أفراد الهوتو الذين اعترفوا بجرائمهم في حق جيرانهم وأصدقائهم، وهذا في حد ذاته نوعًا من الحساب، خاصة بعد هروب الكثير من القادة والمحرضين على القتل.
رغم مرور نحو ربع قرن على المذبحة، والمحاولات الجادة لإنهائها من الذاكرة عبر إجراءات أكثر عدالةً للجميع، لكن من سلبيات الأزمة القيود الشديدة على حرية التعبير، إذ تعتقد الحكومة أن الهوتو لا يزالون يشكلون تهديدًا.
تبرر السلطة الحاليّة موقفها عبر عدة معطيات، منها الخوف من مئات آلاف الهوتو الذين فروا إلى شرق الكونغو المجاور خوفًا من محاكمات حكومة التوتسي، وضمنهم آلاف المقاتلين الذين استقروا في الغابات ولديهم النية الكاملة لإشعال أعمال العنف مرة أخرى وفق مخططات ميليشيات الهوتو التي يتولاها قادة مخضرمون ما زالوا يبشرون بإيديولوجيا الإبادة الجماعية.
بخلاف ذلك رواندا الآن دولة إفريقية نموذجية، الاقتصاد ينمو والشوارع نظيفة ولا يوجد فساد، صحيح لم تتحقق المصالحة الكاملة، بسبب عبء التاريخ والمخاوف المتبادلة من عقلية الإقصاء، لكن البلد أحرز تقدمًا كبيرًا ما يؤهله لتجاوز محن الماضي وآلامه.
تقول التجربة الرواندية إن أي مصالحة يجب أن يسبقها تجهيز المجتمع للعيش مع الحقائق والاستعداد للتعويض إلى أقصى حد، والسؤال الدائم عما يمكن أن يكون عليه المستقبل للجميع، فالمصالحة هي الباب الأول للاتفاق على رواية واحدة لفصل من التاريخ، ومن ثم إغلاقه والبدء في كتابة فصل جديد، يؤمن أن أشد الأخطار على أي مجتمع، اختزال الناس فيه بذاكرة ورواية وحقيقة واحدة.