تزايدت في الأيام الأخيرة الهجمات المسلحة التي استهدفت عدة مناطق بمالي والنيجر بشكل غير مسبوق، وراح ضحيتها عشرات الأشخاص من عسكريين ومدنيين في كلا البلدين، لتبقى بذلك حالة التردي الأمني بمنطقة الساحل سيدة الوضع هناك، ما يرهن أي مبادرة للحل خاصة ببماكو التي كانت تسعى لفتح حوار مع المتشددين ضمن مشروع المصالحة الوطنية لعلها تكون بداية الحل بالبلاد.
ويزيد هذا الوضع الأمني المتأزم من صعوبة مهمة المبعوث الأمني الجديد إلى مالي الموريتاني القاسم واين الذي استلم مهامه منذ نحو أسبوعين، وينتظر منه الكثير في إعادة الأمن إلى الجارة الجنوبية لبلاده وللجزائر بالنظر إلى درايته بالمنطقة وتعقيداتها، ولعلاقاته المتينة بالاتحاد الإفريقي الذي يتابع الوضع في منطقة الساحل.
قتلى بالعشرات
أعلنت القوات المسلحة المالية قبل أكثر من أسبوع أن 33 جنديًا من أفرادها قتلوا، وأصيب آخرون جراء الهجوم الإرهابي الذي وقع بالقرب من تاسيت الواقعة في إقليم غاو شمال مالي.
وأوضح الجيش المالي أن أكثر من مئة رجل من مجموعات إرهابية مسلحة كانوا على متن شاحنات صغيرة ودراجات نارية نصبوا كمينًا لمجموعة من الجنود الماليين في قرية تاسيت بإقليم غاو، ما أسفر عن مقتل 33 جنديًا ماليًا وإصابة آخرين.
الوضع الأمني المتردي لم يعد ينطبق اليوم فقط على مالي التي تعيش منذ سنوات حالة من عدم الاستقرار السياسي، وآخرها الانقلاب الذي أطاح بالرئيس السابق إبراهيم أبو بكر كايتا شهر أغسطس/آب الماضي، إذ يشهد البلد المجاور النيجر في الأسابيع الأخيرة عددًا من المجازر التي استهدفت مدنيين وعسكريين.
وأعلنت الحكومة النيجرية مساء الإثنين الماضي مقتل 137 شخصًا في هجمات نفذها إرهابيون ضد قرى في منطقة تاهوا القريبة من الحدود مع مالي، لتصل حصيلة ضحايا الهجمات المسلحة بالمنطقة الحدودية مع مالي في أقل من أسبوع إلى 203 قتلى على الأقل.
ولم يجد المتحدّث باسم حكومة النيجر زكريا عبد الرحمن لوصف هذا العنف المتصاعد إلا القول: “هذه العصابات المسلحة التي باتت تستهدف المدنيين بصورة ممنهجة، اجتازت مرحلة جديدة من الرعب والهمجية”.
ويظهر أن المناطق التي عرفت هجمات متتالية تقع كلها في المنطقة الحدودية بين مالي والنيجر وحتى مع بوركينافاسو، وبالأخص قرى إنتازاين وبكواراتي وويستاني المنتمية لمنطقة تاهوا القريبة من تيلابيري غير البعيدة هي الأخرى عن الحدود مع مالي وبوركينافاسو.
يضع الوضع المتردي في منطقة الساحل عدة أطراف في امتحان حقيقي
وقبل شهرين، في 2 من يناير/كانون الثاني الماضي قتل 100 شخص في هجمات على قريتين بمنطقة مانغايزي، في واحدة من أسوأ المذابح التي تعرض لها مدنيون في النيجر.
وتوجه أصابع الاتهام لتنظيم داعش الباحث عن موضع قدم في منطقة الساحل، فقد أعلن تبنيه للاعتداء الذي استهدف الجنود الماليين، إضافة إلى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الذي يبقى أقوى تنظيم إرهابي بالمنطقة، الذي كثيرًا ما تكون خصوماته بشأن مناطق النفوذ مع داعش وراء هذه المجازر التي يكون ضحيتها دومًا المدنيون العزل.
امتحان
يضع الوضع المتردي في منطقة الساحل عدة أطراف في امتحان حقيقي، كونها باشرت مهامها مع هذا الوضع غير الباعث على الاطمئنان في منطقة صارت محل صراع دولي، وذات بعد إستراتيجي للتوسع في القارة الإفريقية.
أول المعنيين بحالة انعدام الأمن هو رئيس النيجر الجديد محمد بازوم الذي أكدت المحكمة الدستورية فوزه بالانتخابات الرئاسية ليخلف محمدو إيسوفو الذي ترك له تركة ثقيلة تتمثل في تصنيف الأمم المتحدة للنيجر كأفقر بلد، بالنظر إلى تهالك الاقتصاد رغم امتلاك البلاد لثروات طبيعية نفيسة في مقدمتها اليورانيوم شمال البلاد الذي تستغل شركات فرنسية مناجمه.
وسيجد بازوم أول رئيس من أصول عربية للبلاد نفسه في مواجهة تحد أمني كبير، خاصة بمنطقة الحدود الثلاث المتاخمة لمالي وبوركينافاسو، إذ إن التصعيد الإرهابي الذي تفرضه اليوم داعش وتنظيمات متشددة أخرى يحتم عليه اتخاذ تدابير ميدانية فاعلة، بدايتها بتحسين سلطات نيامي علاقتها بالسكان المحلين في هذه المناطق، فمنطقة تيلابيري التي عرفت في الفترة الأخيرة هجمات متتالية على سبيل المثال تفتقد حاليًّا لمسؤولين محليين، ما جعل غضب السكان تجاه الحكومة المركزية في نيامي يتزايد، فهم يتهمونها بالتخلي عنهم وتركهم في قبضة الإرهابيين.
ورغم صعوبة اتخاذ قرار بشأن هذا الموضوع، فإن بازوم مطالب بالنظر في جدوى وجود قوات أجنبية ببلاده على رأسها القوات الفرنسية، إضافة إلى تقييم مدى فعالية احتضانها لأكبر قاعدة أمريكية لطائرات دون طيار بإفريقيا.
وبدورها تخوض السلطة الانتقالية في مالي بقيادة الرئيس باه أنداو تحديًا حقيقيًا يتمثل أولًا في توفير ظروف إجراء انتخابات نقل السلطة إلى مؤسسة دستورية منتخبة خلال 18 شهرًا، وهو الوضع الذي يتطلب توفير الظروف الأمنية اللازمة، غير أن الوضع الميداني الراهن لا يبعث على كثير من التفاؤل في ظل الضربات الموجعة التي يتلقاها الجيش في المناطق الحدودية، فالأمر لم يعد يقتصر على شمال البلاد فقط، إنما امتد إلى شرقها.
وتجد السلطة الحاليّة في مالي اليوم نفسها بين نارين: الامتعاض الشعبي المطالب برحيل القوات الفرنسية، وضغط باريس التي لا تريد ترك المجال بالمنطقة لأطراف دولية أخرى كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين وتركيا بدرجة أقل، لذلك ستحاول البحث عن توازن يهدئ الغضب الشعبي ويرضي اللاعبين الدوليين بالمنطقة.
ويجد المبعوث الأممي الجديد إلى مالي القاسم واين نفسه في وضع لا يحسد عليه، فبالإضافة إلى المساعدة في إكمال المسار السياسي بالبلاد والحرص على تنفيذ اتفاقية الجزائر للمصالحة الموقعة عام 2015، سيحاول حث المجتمع الدولي على تقديم دعم حقيقي لبماكو لمواجهة التنظيمات المتشددة وإنهاء حالة عدم الاستقرار الممتدة لسنوات بهذا البلد المهم بمنطقة الساحل، وهو طلب قد لا يلقى تجاوبًا من عالم منشغل بمكافحة جائحة كورونا.
الفشل الفرنسي
لا يمثل التصاعد المتواصل للهجمات الإرهابية في منطقة الساحل إخفاقًا للسلطات المحلية في تحقيق الأمن المنشود من مواطنيهم فقط، إنما يمثل في الواقع إخفاقًا للسياسة الفرنسية بإفريقيا والساحل على وجه الخصوص، فباريس التي تدخلت عسكريًا في مالي يناير/كانون الثاني 2013 لم يقدم وجودها هناك بعد مرور 8 سنوات أي خطة نحو عودة الأمن إلى الساحل، بل إن مواصلة دفعها فديات للجماعات الإرهابية مقابل تحرير الرهائن ساهم في تأزيم الوضع بالمنطقة أكثر.
ورفعت التنظيمات الإرهابية في الساحل، خصوصًا في مالي من نشاطها بعد أن جرى في أكتوبر/تشرين الأول الماضي إطلاق سراح الرهينة الفرنسية صوفي بترونين والإيطاليين نيكولا تشياتشيو وبيير لويغي ماكالي، مقابل الإفراج عن 200 متشدد ودفع فدية مالية للجهات الخاطفة، وذلك رغم ادعاء القوات الفرنسية أنها قضت على عناصر قيادية من تنظيم القاعدة في مالي، وفي مقدمتهم أمير فرع القاعدة في بلاد المغرب عبد المالك درودكال.
لا يمثل التصاعد المتواصل للهجمات الإرهابية في منطقة الساحل إخفاقًا للسلطات المحلية في تحقيق الأمن المنشود من مواطنيهم فقط، إنما يمثل في الواقع إخفاقًا للسياسة الفرنسية بإفريقيا والساحل على وجه الخصوص
ورغم وجود قوة برخان التي تضم 5100 جندي، وهي أكبر كتيبة للجيش الفرنسي خارج البلاد، فإنها لم تستطع تحقيق ما وعدت به عند تدخلها عسكريًا منذ ثماني سنوات، بالنظر إلى أن الهم الفرنسي لا يتعلق باستتباب الأمن في الساحل، إنما في المحافظة على نفوذ المستعمر القديم بالمنطقة، بل إن التوتر المتواصل يمثل حجةً لباريس لعدم مغادرة مالي وباقي دول المنطقة.
ويظهر الإخفاق الفرنسي أيضًا من خلال تجمع دول الساحل الذي أنشأته ويضم بوركينافاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر، حيث لم يستطع هذا التكتل الإقليمي تقديم الإضافة الميدانية، بالنظر إلى أن كل تحركاته لم تكن خارج حيز الحل الفرنسي للمنطقة، الأمر الذي طرح تساؤلات عن جدوى تأسيسه.
حوار
ترفع الهجمات الإرهابية المتزايدة في الساحل من دائرة النقاش الدائر في المنطقة، خاصة في مالي التي تعيش حالة من عدم الاستقرار منذ سنة 2012 بشأن إن كان الحل لأزمة البلاد في الدخول في حوار مع الجماعات المسلحة، وهو الموقف الذي أعلنته السلطات في بماكو منذ أشهر.
ورغم أن هذا الطرح والذهاب إلى مصالحة وطنية حتى مع الإرهابيين لتجنب سقوط مزيد من الماليين لم يكن مقبولًا منذ سنوات، فقد أصبح في الأشهر الأخيرة محل اقتناع عند كثير من الأطراف المحلية، بالنظر إلى ترحيب كثير من السكان به، وكذا قبول بعض القوى السياسية والعشائرية به.
وبدأ الحوار مع المتشددين في عهد الرئيس السابق المنقلب عليه إبراهيم أبو بكر كايتا الذي أكد بداية العام الماضي الدخول في مفاوضات معهم إن كان ذلك سيفضي إلى إيجاد تهدئة للتوتر الذي تعيشه البلاد، وهو التوجه الذي تتمسك به السلطة الانتقالية الحاليّة في البلاد، فقد أكد رئيس الوزراء مختار أوان أن طاقمه متمسك بالحوار الوطني الشامل الذي انطلق في أواخر عام 2019 في مالي، مبينًا أنه يجب أن يشمل هذا الحوار التفاوض مع التنظيمات الإرهابية المسلحة.
وإن لم تعلن بماكو حتى الآن إن كان هذا التصعيد الإرهابي سيزيد من التسريع في الحوار مع المتشددين أم أنه سيصب في كفة الرافضين له، فإن مواصلة هذا النهج يبقى مرتبطًا بتحركات الوساطة الدولية في المنطقة.
وإن كانت فرنسا ترفض الحوار مع الجهاديين بمالي كما تقول، فإن السلطات المالية ترى أن ذلك هو الحل بالنظر لفشل الحل الأمني.
القوى الدولية المتصارعة نقلت خلافاتها اليوم من جديد إلى منطقة الساحل، وذلك بتوكيل الجماعات الإرهابية للعبث نيابة عنها في المنطقة التي ازدادت أهميتها الإستراتيجية اليوم أكثر من أي وقت مضى
وتدعم الجزائر هذا الطرح الذي لا يتناقض مع اتفاقية السلم والمصالحة الموقعة في 2015 بين الأطراف المالية المختلفة، خاصة أنها تريد نقل تجربتها في هذا المجال – التي سمحت لها بإنهاء فترة العنف التي عاشتها في تسعينيات القرن الماضي – إلى جارتها الجنوبية بما أن مشروع المصالحة الوطنية أثبت نجاعته في الجزائر وقبلها في جنوب إفريقيا.
وأكد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون خلال الزيارة التي أدها الرئيس المالي باه أنداو إلى بلاده وقوف الجزائر إلى جانب الشعب المالي، وستكون دومًا رهن إشارة جارتها الجنوبية.
ومع ظهور بوادر حل الأزمة الليبية، يظهر أن القوى الدولية المتصارعة نقلت خلافاتها اليوم من جديد إلى منطقة الساحل، وذلك بتوكيل الجماعات الإرهابية للعبث نيابة عنها في المنطقة التي ازدادت أهميتها الإستراتيجية اليوم أكثر من أي وقت مضى، بعدما أصبحت اتفاقية منطقة التبادل الإفريقية الحر سارية المفعول منذ بداية العام الحاليّ، بالنظر إلى أن دول الساحل هي نقطة الوصل بين الشمال الإفريقي وجنوب القارة السمراء.