أثار إعلان الإمارات عن مبادرة للتوسط بين السودان وإثيوبيا لحل خلافاتهما الحدودية وتقريب وجهات النظر بشأن سد النهضة، حالة من الجدل داخل الشارع المصري، لا سيما بعد ترحيب الحكومة السودانية بهذا العرض الذي قُدم بمعزل عن القاهرة رغم كونها طرفًا أصيلًا في أزمة السد.
التحرك الإماراتي الذي كشف غياب التنسيق مع الجانب المصري عكس ما تسعى الآلة الإعلامية هنا وهناك لتصديره للشارع العربي، حمل الكثير من الدلالات السلبية لدى المواطن المصري الذي بدأ يتحسس الخطوات الإماراتية الانفرادية الأخيرة التي باتت مثيرة للشك لا سيما أنها في مجملها تتعارض والأمن القومي للحليف القاهري.
عدم ترتيب تلك الخطوة مع مصر التي تشن حملة دبلوماسية دولية لتضييق الخناق على حكومة آبي أحمد بسبب موقفه المتعنت من مفاوضات السد، فتح الباب أمام حزمة من التساؤلات بشأن الدوافع الحقيقية وراء هذا التحرك المريب، وما إذا كانت أبو ظبي تسعى لدعم حليفها الإثيوبي عبر تخفيف منسوب الضغط عليه بتذويب التوتر الحدودي مع السودان، وما لهذا من إجهاض غير مباشر للجهود المصرية للضغط على أديس أبابا لإعادة النظر في موقفها بشأن السد.
مبادرة جاءت في وقت حساس بالنسبة للمفاوض المصري الذي بات في موقف حرج أمام الداخل والخارج على حد سواء، مع إصرار أديس أبابا على إتمام الملء الثاني للسد في الموعد المحدد له، يوليو/تموز القادم، بصرف النظر عن مسار العملية التفاوضية.
وبينما كان يؤمل النظام المصري على حليفه الإماراتي في دعمه بهذا الملف الشائك، خاصة في ظل ما يقال بشأن استثمارات إماراتية قوية في عملية بناء السد، جاء الرد عكس التوقعات كافة، وهو ما دفع بعض المحللين إلى المطالبة بإعادة تقييم القاهرة لعلاقاتها مع أبو ظبي.. فهل أوشك شهر العسل بين الحليفين على الانتهاء؟
تلاقت المصالح فتوحدت المواقف
مع انطلاق أول رحلة لقطار الربيع العربي من المحطة التونسية في 2011، استشعر النظام الإماراتي الخطر الذي ربما يحدق به حال استمر القطار في طريقه، فكان لا بد من توقيفه بمبدأ ميكافيللي بحت، لذا جيش الإماراتيون نفوذهم المالي والسياسي لفصل عربة القيادة عن بقية عربات القطار.
وحين أُطيح بحسني مبارك في فبراير/شباط من نفس العام عرفت أبو ظبي أن الخطر بات قريبًا، فكان التحرك الفوري والمبكر، مع السعودية، لإجهاض حلم المصريين في بناء دولة مدنية، وكان ذلك من خلال التحالف مع المؤسسة العسكرية ودعم الكيانات التي تزعم ميولها المدنية في مواجهة تيار الإسلام السياسي الذي كان يقود المشهد في ذلك الوقت.
وبعد أكثر من عام ونصف من العمل الدؤوب في مفاصل الدولة المصرية نجحت الإمارات – بأموالها وتدخلاتها المستمرة في الشأن الداخلي المصري – بالإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي في 2013، وتم تقديم وزير الدفاع – آنذاك – عبد الفتاح السيسي، لتصدر المشهد.
الأجواء وقتها كانت ضبابية إلى حد ما، في ظل تحفظ الكثير من القوى الإقليمية على ما جرى في مصر، والحديث عن وصفه “انقلابًا عسكريًا” يستوجب مناهضته، فكانت الإمارات على رأس الدول التي أعلنت دعمها الكامل للسيسي والمؤسسة العسكرية ونظام ما بعد الثالث من يوليو/تموز 2013.
بلغت العلاقات المصرية الإماراتية في ذلك الوقت أوج قوتها وتناغمها، فيما كانت الإمارات العصا التي استند إليها السيسي لعبور المرحلة الحرجة التي تلت الانقلاب، وبدأ محمد بن زايد في قيادة حملة إقليمية ودولية لدعم النظام المصري الجديد الذي نجح في التخلص من حكم الإسلاميين الذي كان بمثابة “البعبع” لأبناء زايد ورفقائه في الخليج.
وظل منسوب التفاهم والتنسيق بين البلدين يرتفع بوتيرة متصاعدة حتى أواخر 2015، حين استدعت أبو ظبي، وزير الدولة الإماراتي، سلطان أحمد الجابر، المكلف بتنفيذ خطة الإصلاح الاقتصادي لمصر، على خلفية خلافات بشأن كعكة الاستثمار في المحروسة، وعلى الفور تم تعليق مجموعة من الخطط الاستثمارية الإماراتية في مصر.
ترامب.. إعادة البوصلة
التوتر المؤقت في العلاقات بين القاهرة وأبو ظبي بسبب التوجهات الاستثمارية لم ينعكس بالشكل المؤثر على عمق العلاقات السياسية بين البلدين، إذ ظلت الإمارات الداعم الأكبر للقاهرة ولم تدر ظهرها بالشكل الذي خُيل للبعض وقتها، واستمر هذا التأرجح حتى مجيئ الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
مع قدوم ترامب للبيت الأبيض في 2017 كانت مصر في إطار إجراء تغيرات نسبية في خريطة تحالفاتها الخارجية، تزامن ذلك مع تصاعد الغضب الشعبي الداخلي بسبب التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية على أمل إبقاء المملكة في سياسة الغدق المالي المستمر للقاهرة وهو مالم يحدث.
السياسة الخارجية الجديدة لترامب دفعت الإمارات ومصر إلى تنسيق أجندة مشتركة مرة أخرى، تنطلق من قاعدة مناهضة انتشار الإسلام السياسي، وإبرام صفقة القرن بدعوى حل القضية الفلسطينية، هذا بجانب التصدي لإيران من خلال تحالف تقوده “إسرائيل”.
وعلى مدار سنوات ترامب الأربعة، شهدت الأجندة المصرية الإماراتية تنسيقًا غير مسبوق على أكثر من مسار، الحصار الذي فُرض على قطر ومخطط عزلها إقليميًا، ثم الهرولة لإتمام صفقة القرن بأي ثمن، مرورًا بدعم ميليشيات اللواء متقاعد خليفة حفتر في ليبيا ضد الحكومة المعترف بها دوليًا في طرابلس، وصولًا إلى إعادة الاتصال مع رئيس النظام السوري بشار الأسد.
في العام الأخير من ولاية ترامب بدأت الميكافيللية الإماراتية تطغي على اعتبارات التحالف والمصالح المشتركة للحليف المصري، كذلك السعودي، فبدأ التحرك الانفرادي في أكثر من ملف بما يتعارض مع الأمن القومي للحلفاء، الأمر الذي ألقى بظلاله القاتمة على أجواء العلاقات التي بدأ ينتابها التوتر المتصاعد يومًا تلو الآخر.
الهوة تتسع
جنوح الإمارات في بعض الملفات عن الخط المتفق عليه من حلفائها، سواء الرياض أم القاهرة، كان له أثره السيئ على جدار العلاقات المشتركة، فالبلدان الحليفان كانا ينظران لأبو ظبي على أنها شريك حقيقي في مختلف الملفات البينية، وعليه لا يمكن أن يكون التحرك بمعزل عنهما، بل على العكس من ذلك، عمل أبناء زايد على تعريض مصالح حلفائهم للخطر.
البداية كانت مع الملف الليبي، حيث سعت الإمارات لتقديم كل أشكال الدعم لقوات حفتر، وراهنت عليه بصورة كبيرة، رغم الأخطاء الكارثية التي وقع فيها وكان لها تبعاتها السلبية، هذا بخلاف تفوق حكومة الوفاق التي اضطرت أمام هذا الدعم الإماراتي المصري أن تطلب الدعم التركي الذي أحدث التوازن النسبي في المعادلة هناك.
الضربات التي تلقاها حفتر وميليشياته على أيدي الحكومة المعترف بها دوليًا دفعته لتجاوز الخطوط الحمراء في التعامل، وهو ما كان له صداه الدولي العكسي على الحلف الداعم له، ما وضع القاهرة في موقف حرج، خاصة بعدما بات أمنها القومي مهددًا بفعل الأهواء الصبيانية الإماراتية.
وبعد مشوار طويل من التنسيق بين البلدين، ارتأت القاهرة أن تعيد تقييم موقفها في ليبيا، فكان الخيار الدبلوماسي والتفاهم مع الجانب التركي في هذا الملف والتراجع عن فكرة رفض التحاور مع حكومة الغرب، هو الحل العملي لتخفيف التوتر وحلحلة الأزمة في هذا الملف الشائك، وهو ما لم يرق للإماراتيين.
الوضع كذلك في الملف الإفريقي، إذ سعت أبو ظبي لتعميق نفوذها في منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر من خلال بناء موانئ وتأجير أخرى، بجانب التوغل في شؤون بعض الدول، وهو ما حمل تهديدًا كبيرًا للأمن القومي المصري من الناحية الجنوبية، ورغم تحفظات القاهرة، فإن البرغماتية الإماراتية وميكافيللية أبناء زايد كانت الرد الذي أزعج المصريين بصورة كبيرة.
الهرولة نحو التطبيع مع الكيان المحتل، رغم عدم معارضة القاهرة من حيث المبدأ، كان أحد ملفات التوتر بين البلدين أيضًا، إذ بات يقينيًا أن أبو ظبي تتحرك بشكل مبالغ فيه في هذا الملف، لا سيما أنها تتحرك بشكل انفرادي دون مشاورة الحلفاء، وهو ما يهدد ثقل مصر الإقليمي ويهمش دورها لحساب الإماراتيين، بجانب ما يدار بشأن دعم إماراتي لمشروعات نقل بحري وبري مع الجانب الإسرائيلي، تهدد قناة السويس، أحد أبرز موارد الدخل الأجنبي لمصر.
حرصت الإمارات دومًا على تغذية العداء بين مصر من جانب وتركيا وقطر من جانب آخر، حفاظًا على أجندتها التي لا يمكن لها أن تنفذ إلا في تلك الأجواء الملبدة بغيوم الشقاق والخلاف والتصدع، ومع تعاطي القاهرة مع المصالحة الخليجية التي فرضتها السعودية خلال قمة العلا الأخيرة، وما يدار بشأن التقارب مع الجانب التركي وفق تفاهمات فرضتها التحديات الإقليمية والمصالح المشتركة، كان ذلك بمثابة صدمة للإماراتيين.
حتى في ملف العلاقات مع إثيوبيا، فبينما تعاني القاهرة من صلف وعناد حكومة آبي أحمد حيال مفاوضات سد النهضة، تعزز الإمارات العلاقات معها بصورة أثارت الكثير من التساؤلات، فبعيدًا عما يثار بشأن ضخ رجال أعمال إماراتيين استثمارات مليارية في عملية السد فإن الموقف الرسمي للدولة كان هو الآخر مثار شك وريبة.
وفي الوقت الذي كان يترقب فيه المصريون اهتزاز حكومة أديس أبابا جراء أحداث العنف مع جبهة تحرير تيغراي الشعبية، وما يمكن لذلك أن يقوض من موقف آبي أحمد بما يسمح للقاهرة استخدام هذه الورقة للضغط من أجل انتزاع حقوقها المائية، خرج وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد في 6 من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي ليؤكد “تقف الإمارات مع الدول الصديقة في حربها ضد الإرهاب والتطرُّف”، في إشارةٍ إلى دعم الإمارات للحكومة الإثيوبية ضد جبهة تحرير تيغراي، وذلك خلال اتصال هاتفي مع جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للأمم المتحدة للشؤون الخارجية.
علاوة على ذلك كانت أبو ظبي الضامن المالي الأكثر حضورًا لحكومة آبي أحمد في مواجهة الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها خلال السنوات الماضية، فبجانب إنعاش الخزانة الإثيوبية بـ3 مليارات دولار قبل عامين، عززت الإمارات من مشروعاتها الاستثمارية في إثيوبيا لتصل إلى 92 مشروعًا في قطاعات الزراعة والصناعة والعقارات والصحة والتعدين، وهو ما قوى موقف آبي أحمد وخفف من وتيرة الاحتقان الشعبي ضده، كما جاء في التقرير الذي نشره موقع “مونيتور” وجاء تحت عنوان: “هل يؤثِّر دعم الإمارات لإثيوبيا في صراعها في تيغراي على علاقتها بمصر؟”.
تجاهل الإمارات لمصالح حلفائها من أجل أجندتها التوسعية لم يقتصر على مصر فقط، فالموقف ذاته مع السعودية أيضًا، حيث الحسابات الشخصية التي سيطرت على التحركات في اليمن، كذلك فتح قنوات اتصال مع نظام الأسد، ومقاومة الضغط السعودي في واشنطن وفي باريس للإطاحة السريعة بالرئيس السوري.
كما وقفت الإمارات حجر عثرة أمام محاولات الرياض لتأسيس تحالف سني إسلامي في اليمن لتولي زمام الأمور في أعقاب الإطاحة بالرئيس علي عبد الله صالح في الأشهر الأولى من الربيع العربي، فيما كانت تعربد هي بمفردها على الساحل الغربي في محاولة للسيطرة على الموانئ والممرات المائية، ضاربة بأهداف التحالف المشاركة به ضرب الحائط.
وفي الأخير فإن تغريد القاهرة بعيدًا عن السرب الإماراتي الذي ثبت أنه يعمل لحسابات شخصية لا تراعي مصالح الحلفاء، وربما يعرضها للخطر، قد يكون ضربة موجعة للأجندة التوسعية الإماراتية في المنطقة، الأمر الذي قد يحمل معه ردود فعل مستقبلية لإحياء النفوذ الذي بدأ يتقلص شيئًا فشيئًا.