السلطانة مهرماه
سلطانة وأخت سلطان وابنة سلطان، تربت في بيت كان علامة فاصلة في مسيرة الإمبراطورية العثمانية، وكان له دور في توسيع رقعة نفوذها حتى وصل إلى أقصى اتساع له، من وسط آسيا إلى عمق أوروبا مرورًا بشمال إفريقيا، هذا بجانب السيطرة شبه الكاملة على البحر المتوسط من شرقه إلى أقاصي غربه.
مهرماه، محرمة، مريم.. أسماء وألقاب عرفت بها السلطانة مهرماه ابنة السلطان سليمان القانوني، عاشر سلاطين الدولة العثمانية ((1494-1566) والسلطانة خُرَّم سلطان، التي لم تنل من الأضواء ما تستحقه رغم ما كانت تتمتع به من شخصية قوية تضاهي كبار رجالات الدولة في كثير من المواقف، هذا بجانب أعمالها الخيرية التي ظلت حاضرة حتى يومنا هذا رغم مرور قرابة 450 عامًا على رحيلها.
عاشت السلطانة مهرماه جل حياتها في كنف والدها، فكانت ساعده الأيمن، والقريبة إلى قلبه وعقله معًا، واستمر خيال أبيها السلطان يظلل حياتها حتى وفاتها، فأبت أن تدفن في أي من المساجد التي دشنتها رغم ما تتمتع به من طراز معماري فريد، وآثرت أن ترافق والدها حتى في قبره، لتدفن بجواره.. فمن هي السلطانة مهرماه؟
عائلة سلطانية من الطراز الأول
تنحدر السلطانة مهرماه المولودة عام 1522 لأسرة سلطانية أبًا عن جد، وبعيدًا عن كونها ابنة السلطان الأعظم سليمان القانوني، فهي أخت الأمراء شاه مصطفى وراضية سلطان من ناحية الأب (أمهما ماه دوران)، وشقيقة محمد وسليم وبايزيد وجهانكير من الأب والأم معًا، وعليه فقد ترعرت في بيئة كان لها تأثير كبير في بناء شخصيتها.
ذكرت العديد من الروايات أن السلطانة الشابة كانت تتمتع بجمال غير مسبوق، لافت لأنظار الجميع في ذلك الوقت، داخل القصر وخارجه، وكانت تلقب “ذات الشعر الذهبي” لأن شعرها كان قريبًا للون الذهبي، فضلًا عن قوامها المتناسق رغم صغر سنها، وهو ما جعلها مطمع للكثير من كبار رجالات الدولة آنذاك.
تعرضت السلطانة مهرماه لعدة صدمات في حياتها، حيث توفي شقيقها الأكبر محمد في مقتبل شبابه عام 1543، وهو الذي كان مرشحًا لخلافة والده رغم التنافس الشديد مع شقيقه من الأب، الأمير مصطفى، هذا بجانب أخيها بايزيد الذي أعدمه شقيقها سليم هو وأبناءه الخمس، ثم أخيها الأصغر، جيهانكير، الذي كان يعاني من إعاقة في ظهره، وتوفي متأثرًا بإعدام شقيقه الأكبر وأبنائه.
ساعدت تلك البيئة السياسية السلطانة الصغيرة في أن تلم مبكرًا بمبادئ إدارة الدولة
لم تكن مريم سلطانة فقط، بل كانت السلطانة الأم في عهد شقيقها الأصغر السلطان سليم الثاني (1524-1574)، الذي تولى السلطنة بعد والده، وهو ما سمح لها أن تنخرط في دهاليز الحكم مبكرًا، فكانت العقل المدبر في كثير من المواقف، وشعلة الدفع القوية لوالدها وشقيقها في عدة أحداث كان لها صداها في مسيرة الإمبراطورية.
ساعدت تلك البيئة السياسية السلطانة مهرماه في أن تلم مبكرًا بمبادئ إدارة الدولة، خاصة أنها كانت تحتل مكانةً كبيرةً في قلب والدتها السلطانة خُرَّم سلطان التي أهلتها لأن تكون ذا شأن بين أخواتها في ظل المنافسة القوية التي كانت بينها وبين زوجة أبيها الأولى “ماه دوران” على تعزيز نفوذ أبنائهما والظفر بثقة وقلب السلطان الأعظم.
في كنف أبيها
دفع حرص السلطانة خُرَّم بابنتها أن تزوجها في سن صغيرة (17 عامًا) من أحد المقربين من والدها ممن لهم شأن كبير في إدارة شؤون الدولة، فوقع الاختيار على الصدر الأعظم، رستم باشا (1500-1561) الذي تشير بعض الروايات أنه كان عين السلطانة الأم داخل القصر، لذا كان تزويجه من ابنتها من أجل تقوية مركزه ومن ثم مركز السلطانة الشابة.
قيل إن السلطانة مهرماه لم تكن سعيدة في هذا الزواج، لأسباب عدة أبرزها انشغال رستم المستمر مع السلطان وملاصقته له في معظم أوقاته، بجانب فارق السن الكبير بينهما (22 عامًا) وهو ما حصر العلاقة في إطارها الرسمي حيث الشكل الاجتماعي العام الذي يعزز من ثقل كليهما سياسيًا.
وفي ظل تلك الوضعية لم تجد السلطانة مهرماه سبيلًا إلا مرافقة أبيها والتقوقع داخل كنفه، فكانت عينه وذراعه، قلبه وعقله، رافقته في معظم فتوحاته وتحركاته، داخل البلاد وخارجها، فكان الأب والمعلم، القدوة والأستاذ، وهو ما ساعدها في تقوية بنيانها السياسي داخل القصر، وأصبحت أبرز قوى النفوذ بالدولة العثمانية.
أسفر هذا الزاوج عن أربعة أبناء (عائشة هوماشاه سلطان وعثمان باي ومراد باي ومحمد باي) ولم يثنها ذلك عن الاستمرار في دربها، فبقيت ظل أبيها في تنقلاته وحروبه، حتى إن البعض لم يشهد أن رأى السلطان القانوني في أي من تحركاته دون مرافقة ابنته مهرماه.
ويمكن الوقوف على حجم الخبرة السياسية التي اكتسبتها السلطانة الصغيرة من خلال مطالعة الانتصارات التي تحققت على أيدي أبيها (صاحب أطول فترة حكم من 6 من نوفمبر/تشرين الثاني 1520 حتى وفاته في 7 من سبتمبر/أيلول سنة 1566) وهو الذي حمل لقب “أمير المؤمنين” من آل عثمان، إذ بلغت الدولة الإسلامية في عهده أقصى اتساع لها.
تعاظمت ثروة السلطانة بشكل جعلها إحدى أغنى سيدات الدولة العثمانية في هذا الوقت، وهو ما سمح لها بتوجيه جزء كبير من تلك الثروة للأعمال الخيرية
ففي عهده غزت الجيوش العثمانية معاقل أوروبا في القرن السادس عشر، ففتح بلغراد ورودوس وأغلب أراضي مملكة المجر ذات الصيت والمكانة الكبيرة في ذلك الوقت، كما نجح في ضم الجزء الأكبر من مناطق الشرق الأوسط خلال صراعه الطويل مع الصفويين بجانب مناطق شاسعة من شمال إفريقيا حتى الجزائر.
أيادٍ بيضاء
بعد وفاة زوجها رستم باشا عام 1561، تعاظمت ثروة السلطانة مهرماه بشكل جعلها إحدى أغنى سيدات الدولة العثمانية في ذاك الوقت، وهو ما سمح لها بتوجيه جزء كبير من تلك الثروة للأعمال الخيرية التي كان لها الفضل الأكبر في تخليد اسمها حتى اليوم، فأسست مهرماه مجمعات إسطنبول الخيرية التي كانت تكفل الفقراء والمحتاجين في العاصمة وخارجها.
ومن أبرز الأنشطة الخيرية التي قامت بها بناء مسجدين يحملان اسمها، الأول يقع في أوسكدار بالشق الآسيوي من إسطنبول، وتم بناؤه بين 1547 و1548، أما الثاني في إديرنا كابي، داخل أسوار القسطنطينية بالشق الأوروبي من العاصمة وقد بُني بين 1562 و1565.
علاوة على عدد من دور تحفيظ القرآن والمستوصفات الصحية التي تخدم غير القادرين، بجانب مناطق إيواء كاملة المرافق والخدمات، للمغتربين والزائرين من أبناء الدولة العثمانية، التي لا يزال بعضها باقيًا حتى الساعة، وإن كان مدرجًا تحت إطار المناطق التراثية والأثرية غير المأهولة.
وفاة السلطانة مهرماه
وفي مساء الـ25 من يناير/كانون الثاني 1578 وعن عمر ناهز الـ56 عامًا غادرت مهرماه الحياة، لكن بحسب وصيتها وفق ما ذكر بعض المؤرخين، دفنت بجوار السلطان سليمان القانوني بمسجده “جامع السليمانية” في إسطنبول، في قبر عن يمين قبر والدها، تاركة خلفها إرثًا من الأعمال البيضاء.