زوجة سلطان وأم سلطان، عُرفت بجمالها الفائق، وشخصيتها القوية، وقدرتها على التأثير في الآخرين، فكانت تجمع بين القوة والدبلوماسية، بين الحنكة والذكاء، بين العظمة والإيثار، فاستحقت لقب “الجميلة الجورجية” نسبة إلى مولدها الأصلي.
السلطانة مهر شاه سلطان (1789-1805)، زوجة السلطان العثماني مصطفى الثالث (1717-1774) وإحدى أقرب زوجاته الست إلى قلبه، وأم ابنه الأكبر السلطان سليم الثالث (1761-1808)، وشريكته في حكم الإمبراطورية لأكثر من 15عامًا.
كانت تتمتع بنفوذ قوي بين قريناتها من حريم القصر، نظرًا إلى قربها الشديد من قلب السلطان الحاكم، كما كانت أمًّا مثالية لابنها السلطان بعد ولايته العرش، فلم يتوقف دورها عند الأمومة فقط، بل كانت مستشارة سياسية وجنرالًا عسكريًّا وأحد أعلام الدبلوماسية في الدولة العثمانية… فماذا نعرف عن السلطانة مهر شاه؟
من الفقر إلى قصر السلطان
ولدت مهر شاه في بدايات عام 1745، ورغم عدم وجود رواية تاريخية موثقة بنسبة مئة بالمئة، إلا أن التوجه العام يشير إلى أنها ابنة لقس أرثوذكسي كان يعيش في جورجيا، وكان اسمها أغنيسا، وكغيرها من فتيات الإمبراطورية العثمانية واسعة النطاق كانت تحلم بالانضمام إلى القصر.
لم يكن الفقر وحده العامل الأساسي وراء رغبة النساء آنذاك في الاقتراب من السلطان وأمرائه والالتحاق بحريم السلطنة، بل كانت المكانة الاجتماعية وحلم القيادة وإثبات الذات لدى بعضهن على رأس الدوافع الحقيقية وراء المسارعة للفوز بهذا الشرف، الذي كان يداعب خيال معظم فتيات الدولة وقتها، وعليه قد نجد بعض المحظيات بمكانة اقتصادية واجتماعية مرموقة يلتحقن بالقصر رغم كفايتهن المادية.
تزخر الكتب التاريخية بالكثير من الأحداث والمواقف التي أخذ فيها السلطان برأي زوجته، وثبت صوابها بشكل كبير.
حين انتقلت إلى القصر السلطاني لفتت أنظار السلطان مصطفى الثالث، الذي قربها منه وسماها بهذا الاسم الذي يعني بالجورجية “الجميلة”، ومنذ ذاك الوقت بات يطلق عليها مهر شاه بدلًا من أغنيسا، ليتطور الأمر بعد ذلك ليتزوجها السلطان.
لم تكن هي المرأة الوحيدة التي ظفرت بشرف الزواج منه، غير أنها كانت الأقرب إلى قلبه، فهناك أربعة غيرها، حبيبة قادين (Habibe Kadın)، عين الحياة قادين (Aynülhayat Kadın)، مهري شاه قادين (Mihrişah Sultan)، رفعت قادين (Rifat Kadın) وعادل شاه قادين (Adilşah Kadın).
وقد لعبت دورًا كبيرًا في حياة زوجها الاجتماعية والسياسية، فكانت خير معين له رغم شخصيته القوية، وتزخر الكتب التاريخية بالكثير من الأحداث والمواقف التي أخذ فيها السلطان برأي زوجته، وثبت صوابها بشكل كبير، ما عزز من مكانتها ونفوذها داخل القصر.
أمّ السلطان
مع تولي ابنها سليم الثالث مقاليد الحكم في السلطنة بعد وفاة عمه عبد الحميد الأول عام 1789، تعزز نفوذ مهر شاه بوصفها أم السلطان، وقد كان يحبها ابنها بصورة لافتة، فكانت داعمه الأكبر والأول والأبقى على طول الخط، كما كان لها دورًا كبيرًا في رسم مسار حياته منذ الصغر.
في كتابه “المرأة العثمانية بين الحقائق والأكاذيب”، يروي المؤرخ أصلي سنجر، مؤلف الكتاب، نقلًا عن رحالة أجانب، طقوس استقبال السلطان لوالدته في القصر، حيث كان في موكبها ما بين 80 و100 عربة، وكيف عكس هذا الاستقبال الذي وصفه بالأسطوري مكانتها لدى السلطان ودورها المستقبلي في إدارة شؤون الدولة.
وقف السلطان منحنيًا أمام والدته، وكان هذا تشريفًا لا ينبغي لغيرها في الإمبراطورية، “كان في المقدمة رؤساء المراسم في الديوان بعمائهم المجدولة، وخلفهم ولاة الحرمين الشريفين، وخلفهم مباشرة محمود بك (كتخدا والدة السلطان) يستند على عصا في يده، مرتديًا فرو السمور ذا الأكمام الواسعة، وخلفه تسير والدة السلطان بعربتها ذات الستائر و6 من الجياد، ويتبعها العبيد وجواري القصر الجديد”.
ويضيف: “دخل موكب والدة السلطان باب السلطان ووصل أمام فرن القصر، واستقبل سليم الثالث والدته وحياها ثلاثًا، مقبّلًا يدها من نافذة العربة، ثم يصطحبها إلى حرم القصر” في مشهد مهيب قلّما يُرى مثله في المجتمعات الأخرى، وهو ما يوثّق مكانة المرأة لدى العثمانيين.
رائدة الإصلاح السياسي والعسكري
حين تولى سليم الثالث مقاليد السلطنة، كانت الجيوش العثمانية تعاني من ضعف شديد في قوتها وعتادها، لا سيما بعد اتحاد روسيا والنمسا وما حققتاه من انتصارات متتالية على حساب الدولة العثمانية، ورغم تدخل بعض القوى الأوروبية مثل بريطانيا وهولندا للصلح بين الطرفين، إلا أن الأجواء كانت متوترة بصورة كبيرة.
نصحت بتقوية الجيش أولًا، لردع أي اضطرابات على المستوى الداخلي ما يعكس صورة إيجابية عن قوة الدولة بالنسبة إلى الخارج، وهو ما يمكن توظيفه لاستعادة النفوذ المفقود.
كانت الدولة تحتاج في ذاك الوقت إلى عدة إصلاحات في شتى المجالات، لا سيما الحربية، وذلك من أجل مواجهة تحديات الداخل قبل الخارج، حيث تمرد بعض الولاة على الدولة واستأثروا بولاياتهم ممتنعين عن دفع الأموال المتفق عليها لخزينة الدولة.
وهنا كان لوالدة السلطان آرائها البنّاءة في تلك المرحلة، حيث نصحت بتقوية الجيش أولًا، لردع أي اضطرابات على المستوى الداخلي ما يعكس صورة إيجابية عن قوة الدولة بالنسبة إلى الخارج، وهو ما يمكن توظيفه لاستعادة النفوذ المفقود، خاصة بعد اندلاع الثورة الفرنسية التي أخذت تشعل أوروبا شيئًا فشيئًا.
وكان من نتائج نصائح مهر شاه أن عيّن السلطان أحد الشبان، ويدعى كوشك حسين باشا، قبطانًا عامًّا، وكان يمتلك خبرة كبيرة من خلال دراسته الملمة لأحوال أوروبا، فعمل على إصلاح مدارس البحرية والمدفعية (الطوبجبة)، كما دشّن مكتبة خاصة بالمدفعية وضع فيها أحدث ما كتب عن الرياضيات وفنون الحرب.
وبالتوازي مع الجانب العسكري، عمل السلطان على وضع خطة جادة لتوسيع رقعة التعليم في الدولة، إيمانًا منه بأهمية التعليم في نشأة وتطوير الأمم والشعوب، فافتتح المدارس والمعاهد والمكتبات، حتى عمَّ التعليم معظم أنحاء الإمبراطورية، وهو ما كان له أثره البالغ فيما بعد.
مؤسسة السلك الدبلوماسي
لم تكن مهر شاه، والدة السلطان، أمًّا له فحسب، بل أيضًا مربية ومعلمة ومؤتمنة على أسراره، وأكبر حليف له، وحصنه ونائبته إذا اقتضى الأمر، فكان استمرار الأمير مع والدته عندما يصبح سلطانًا طبيعيًّا جدًّا، وفي الواقع أن كثيرًا من والدات السلاطين كان لهن تأثير قوي في رسم خارطة تحالفات البلاد وسياستها الخارجية، وفي المقدمة منهن الجميلة الجورجية.
بجانب اهتمامها بوضع نظام عسكري جديد وتطوير المدارس الحربية في السلطنة، أولت مهر شاه أهمية كبرى لعلاقات الدولة العثمانية بجيرانها والقوى الأخرى، سواء في أوروبا أو آسيا، فكانت من الأوائل الذين وضعوا اللبنة الأولى لتأسيس السلك الدبلوماسي في الإمبراطورية.
أثارت أعمال أم السلطان الخيرية اهتمام الكثير من الباحثين، منهم من أعد فيها رسائل علمية، بجانب أوراق بحثية استعرضت أبرز تلك الأعمال وجدواها الأهلية ودورها في دعم الفقراء والمحتاجين من أبناء الدولة.
ففي حقبة ولدها السلطان، توسعت رقعة التحالفات بين إسطنبول والقوى الأوروبية بشكل لافت، أسفر ذلك عن إبرام العديد من المعاهدات والاتفاقيات التي أنهى بها العثمانيون سنوات طوال من الحروب الدامية مع جيوش العالم، وهو ما أرجع فضله الكثير من المؤرخين إلى السلطانة الأم.
أثارت إصلاحات السلطان حفيظة الإنكشارية في البلاد، فنظموا تمردًا أكثر من مرة، دافعين مفتي السلطنة (الذي عُيّن في نهاية عهده، واتحد مع مجموعة من العلماء والجهّال والمنتفعين من رجال الدولة) إلى إصدار فتوى بعزل السلطان، بدعوى أن الإصلاحات التي قام بها سواء داخل الجيش أو خارجه مخالفة لتعاليم الإسلام وفيها تشبّه بالنصارى، ما سهّل الطريق نحو خلع السلطان وحبسه، ليستبدلوه بابن عمه مصطفى الذي كان يلقب بمصطفى الرابع (1807-1808).
وعلى المستوى المجتمعي والأهلي، فلها بصمات واضحة المعالم في الأعمال الإنسانية والخيرية، حيث أسست العديد من المدارس والمساجد في العقد الأخير من القرن الثامن عشر، منها مدرسة حملت اسمها في منطقة أيوب بالأستانة، كما أمرت بإنشاء سبيل حمل اسمها في منطقة يني كوي.
أثارت أعمال أم السلطان الخيرية اهتمام الكثير من الباحثين، منهم من أعد فيها رسائل علمية، بجانب أوراق بحثية استعرضت أبرز تلك الأعمال وجدواها الأهلية ودورها في دعم الفقراء والمحتاجين من أبناء الدولة، ومن بين تلك الرسائل “وقف السلطانة الوالدة مهر شاه (مؤسساته، خدماته الخيرية وعقاراته)”، وهي رسالة ماجستير أعدها الباحث إدريس آقار جشمه، لنيل درجة الماجستير من جامعة مرمرة.
وفي السادس عشر من أكتوبر/ تشرين الأول 1805 توفيت السلطانة مهر شاه، بعدما شاركت ولدها الحكم قرابة 16 عامًا، نجحت خلالها في أن تكون الحارس الأمين على مقدرات الدولة من خلال آرائها المستندة إلى روية وبصيرة، ودعمها المطلق للسلطان على كافة المستويات، متجاوزة بذلك دورها التقليدي كسيدة لقصر الحريم ومديرة شؤونه الإدارية.