خرم سلطان
في إحدى ليالي شتاء عام 1510، وبينما كان يعاني أهالي قرية روهاتين (تقع بجمهورية أوكرانيا حاليًّا) من الظلام الدامس والأمطار التي حولت شوارع البلدة إلى ساحات للتزحلق، إذ بكتيبة من المسلحين من تتار القرم يغارون على القرية فيأسرون شبابها، ذكورًا وإناثًا.
كان من بين الصبية السبايا، فتاة لم يتجاوز عمرها الـ10 سنوات، تدعى روكسلانا (وأحيانًا يطلق عليها روسالان أو روكسا أو روزا أو روسا أو روزياك) وكانت تتمتع بقبول كبير لدى كل من يراها، ليس لأنها بارعة الجمال، لكن لما تمتلكه من عيون تنضح بالذكاء ووجه لا تفارق البسمة محياه، فمنحها جاذبية لا تقاوم وسحر أخاذ.
عاد التتار بشحنة الشبان والفتيات إلى مدينة كافا بشبه حزيرة القرم من أجل إعدادهم للانتقال إلى سوق الرقيق الشهير وسط العاصمة العثمانية إسطنبول، آملين في الحصول على مبالغ مالية جيدة نظير بيعهم، وهو ما كان يتحقق في ظل انتشار تلك التجارة في ذلك الوقت، لا سيما الفتيات القادمات من أوروبا.
وبينما كانت روكسلانا ورفيقاتها في السبي يعرضن على ساحة البيع، كانت السلطانة عائشة حفصة سلطان (1479-1534م) زوجة السلطان سليم الأول وأم السلطان سليمان القانوني، تختار بعض المحظيات للانضمام لحرم القصر، إذ تلفت أنظارها بذكائها الواضح، فاستقرت على شرائها بثمن جيد، لتضع أقدامها لأول مرة في حياتها بقصر السلطان، وما لبث أن سماها “خرم سلطان”.
من عادة سلطانات الدولة العثمانية أن يشترين الفتيات وهن صغار ثم يقمن بتربيتهن على أخلاقيات ومبادئ الإمبراطورية
خرم سلطان (1502 – 1558) أو المرأة الباسمة، زوجة السلطان العثماني سليمان القانوني، ووالدة ابنه وخليفته سليم الثاني، واحدة من أقوى السلطانات نفوذًا في الدولة العثمانية، كما أنها أحد أبرز من واجهوا اتهامات تاريخية، وإن لم يثبت صدقها، إلا أنها كانت مثار أبحاث العشرات من الباحثين والمؤرخين.. فمن تلك المرأة الذكية التي خطفت قلب السلطان؟
في القصر العثماني
ما إن وطأت خرم سلطان بأقدامها ثرى القصر السلطاني، وهي لم تتجاوز سنواتها العشرة، حتى استطاعت أن تفرض نفسها على أقرانها من الفتيات، فكانت تتمتع بروح جذابة وحضور قوي، جعلها في مكانة بارزة لدى السلطانة الأم التي قربتها منها بصورة لم تمنحها لغيرها.
كان من عادة سلطانات الدولة العثمانية أن يشترين الفتيات وهن صغار ثم يقمن بتربيتهن على أخلاقيات ومبادئ الإمبراطورية، وكان هذا يحتاج في بعض الأحيان إلى عدة سنوات، تتلقى فيها الفتيات دروس تعليم مكثفة في شتى مجالات العلوم واللغة والمسائل الاجتماعية.
عشر سنوات كاملة قضتها روكسلانا في نهل العلوم والآداب، حتى صار عمرها 20 عامًا، وهنا استقر في يقين السلطانة عائشة أن تهديها لولدها الأمير سليمان، لكنها ارتأت أن تصبر رويدًا حتى يملك زمام الحكم أكثر وأن تكون الفتاة صاحبة البسمة الجذابة قد اكتمل نموها العقلي والمجتمعي فتكون مناسبة لسلطان المستقبل.
على رادار السلطان
عام 1520 قررت السلطانة الأم إهداء الفتاة الباسمة لولدها الأمير الذي بويع بنهاية هذا العام سلطانًا على البلاد، وهنا وجدت روكسلانا الفرصة سانحة لإيقاع السلطان في حبها، خاصة أنها كانت تتمتع بحب والدته وكان ذلك داعمًا كبيرًا ورصيدًا عظيمًا يضاف لمكانتها.
وبعد أقل من عام واحد فقط، أصبحت خرم سلطان، كما لقبها سليمان القانوني، الأقرب إلى قلبه والأجمل في عينه والأشبه بروحه، لا سيما بعدما أنجبت له ولدها الأمير محمد، حتى إنها تجاوزت في مكانتها السلطانة ماه دوران، الأعلى مكانة في القصر في تلك الفترة، وأول محظية تمنح السلطان ابنًا ذكرًا، وهو شاه زاد مصطفى.
نجحت خرم سلطان في الظفر بقطعة من قلب السلطان يومًا تلو الآخر، حتى باتت جليسة عرشه الأولى، وهو ما دفعه إلى الزواج منها فيما بعد، ضاربًا بتقاليد الدولة العثمانية عرض الحائط، إذ كان زواج السلاطين محرمًا، وكان الاكتفاء فقط بمعاشرتهن كسبايا لإنجاب الأمراء وخلفاء العرش بعد ذلك.
كشف الأرشيف الرئاسي التركي رسالةً كتبتها خرم سلطان إلى سليمان القانوني عام 1526 حين كان في إحدى معاركه الخارجية
خطوة الزواج من خرم سلطان أثار الغيرة في نفس السلطانة ماهي دوران، ما تسبب في تبادل العداء والمكايدة بين الطرفين بصورة أزعجت السلطان، ما دفع السلطانة عائشة للتدخل ومحاولة تخفيف التوتر بينهما، ونجحت خُرَّم سلطان في ذلك إلى حد ما، حتى وفاتها 1534، لتنفرد خرم سلطان بالمرتبة الأولى بين نساء القصر، وذلك بعد أن تدخلت لإبعاد منافستها على قلب السلطان سليمان عن طريق إرسالها لابنها الأمير شاه مصطفى.
خرم سلطان.. قصة غرام أسطورية
علاقة الغرام التي جمعت بين السلطان وخرم سلطان، لم تكن من وحي خيال الرواة ولا المؤرخين كما يظن البعض، كما أنها ليست من بنات أفكار كتاب المسلسلات التي تناولت تلك العلاقة وأردوا أن يدعموها بقصص لجذب الانتباه وفقط، بل هي واقع فعلي وثقته الكثير من الأدلة.
الأرشيف الرئاسي التركي كشف رسالة كتبتها خرم سلطان إلى سليمان القانوني عام 1526 حين كان في إحدى معاركه الخارجية، كشفت له فيها عن خالص حبها وقلقها عليه في غيابه، وهي الرسالة التي وصفها مراقبون بأنها أحد أفضل الأمثلة على الشعر والنثر التركي في العصر العثماني.
تقول خرم سلطان في تلك الرسالة التي اكتسبت شهرةً واسعةً مخاطبةً زوجها: “لقد ضللت في هذا الكون. عشت أفضل سنوات حياتي تحت حمايتك، مثل اللؤلؤة في صندوق مجوهراتك. الرجاء قبول هذه الرسالة من جاريتك البائسة العاجزة، التي تعاني في غيابك”.
وأضافت: “أجد فقط السلام بجانبك. الكلمات والحبر لا يكفيان للتعبير عن سعادتي وفرحتي عندما أكون بجانبك. ذكريات الأيام التي قضيناها معا، اللحظات التي تشاركناها، تملأ قلب خادمتك”، كما أرفقت قطعة من ملابسها مبللة بدموع الاشتياق وكتبت عليها: “يا عزيزي السلطان، أصلي إلى الله من أجل رؤية وجهك المبتهل مرة أخرى. لا مزيد من البعد من الآن فصاعدا. أتمنى من ربي أن يكون سلطاني، حبيبي، سعيدًا دائمًا في الدنيا والآخرة”.
وقد أنجب السلطان العثماني من خرم سلطان 6 أبناء هم: محمد ومحرمة سلطان وعبد الله وسليم الثاني وبايزيد وجيهانغير، فيما ظلت هي أعظم حب في حياة سليم القانوني، الزوجة والرفيقة، الملهم والداعم، الروح الصافية والقلب النابض، وهو ما كان مادة جيدة لعشرات الأعمال الفنية لتجسيد هذه العلاقة الاستثنائية في تاريخ الدولة العثمانية.
ونجح هذا الحب الكبير في دعم السلطان بفتوحاته، حتى صارت فترة ولايته واحدة من أفضل مراحل نمو الإمبراطورية العثمانية، إذ وصفت بالعصر الذهبي الذي توسعت فيه الدولة بضم أراضٍ جديدة، ورسُخَت فيها مؤسسات الدولة آنذاك، وقد كان للسلطان منفردًا يد طولى في هذا النمو والازدهار الكبير بمساندة زوجته التي وفرت له البيئة المناسبة لتلك الانتصارات المتتالية.
مقتل نجل السلطان
بعض كتب المؤرخين تطرقت لكثير من الاتهامات التي وجهت لخرم سلطان، في ظل النزاع على توريت العرش للأبناء، على رأسها ضلوعها في مقتل الابن الأكبر والوحيد لسليمان من زوجته ماهي دوران وهو شاه مصطفى عام 1553، ومن أبرز المؤلفات التي تناولت هذه الواقعة كتاب “نصرة أهل الإيمان بدولة آل عثمان” للمؤرخ المصري محمد بن أبي السرور البكري الصديقي عام 1676 و”تاريخ بچوي” للمؤرخ العثماني الكبير إبراهيم بچوي عام 1650.
كان التنافس محمومًا بشأن هوية من يخلف العرش بعدما تقدم العمر بالسلطان، وكان مصطفى هو الأقرب والأوفر حظًا مقارنة بأخواته، فهو الأكبر والأكثر اقترابًا من والده، كما كان محبوبًا من رجال الدولة، وهنا انقسم القصر حول هذه المسألة إلى قسمين، الأول: الأمير الشاب ووالدته وأنصاره من كبار رجال السلطنة، أما القسم الثاني فكان خُرَّم سلطان وصهره رستم باشا.
سجل الأعمال الخيرية للسلطانة خرم مليئ بالأيادي البيضاء، فإسهاماتها لا تزال تتحدث عنها حتى اليوم
بعض الروايات تذهب إلى أن السلطانة الباسمة صاحبة المكانة الرفيعة لدى القانوني دبرت مع رستم لخلافة ولدها الأكبر الأمير محمد العرش وإبعاد الأمير مصطفى، وبالفعل نجحت الخطة في البداية، إذ أطيح بنجل ماهي دوران من إمارة ولاية مانيسا (القريبة من إسطنبول) عام 1540 وتعيينه أميرًا على ولاية أماسيا (بعيدة جدًا عن العاصمة) فيما عين الأمير مُحمد بأمر من سليمان كحاكم لمانيسا، وهو ما كان إيذانًا بخلافته للعرش، لكنه بصورة مفاجئة توفي عام 1543 تاركًا الساحة خالية لمنافسة من نوع آخر، بين مصطفى وبايزيد.
لعب رستم دورًا كبيرًا في الوقيعة بين مصطفى ووالده، بحسب بعض الكتابات، حتى أوغروا صدر السلطان تجاهه بدعوى العصيان والانقلاب عليه، وهو ما دفعه للأمر بقتله، وفي ليلة الـ6 من أكتوبر/تشرين الثاني 1553، الـ27 من شوال 960هـ وبينما كان الأمير الشاب في زيارة لوالده لتصحيح ما أثير من لغط عن عصيانه والخروج عليه، كان القدر في انتظاره.
فلم يمهله الجلادون وقتًا للاعتذار، فانقضوا عليه وخنقوه حتى فارقت روحه الجسد، لينتشر خبر الوفاة سريعًا، محدثًا حالة من الغضب والسخط، كونها النقطة السوداء ربما تكون الوحيدة في تاريخ السلطان القانوني، الذي اضطر لتخفيف حالة الغضب الشعبي بعزل رستم وتعيين قارا أحمد پاشا بدلًا منه.
ومن باب الأمانة العلمية فإن ما أثير بشأن تورط خرم سلطان في هذه الواقعة كلها شهادات غير موثقة، ولا تحمل التأكيد على هذا الاتهام، حتى تلك التي أوردها سفراء الدولة العثمانية في البندقية أو العكس، إلا أنها ذُكرت أكثر من مرة في مراجع عربية وأوروبية وفارسية وغيرها، وهو ما يشير إلى علاقة ما، لكن ليس بالضرورة أن تكون بالشكل الذي تم تصديره، إذ إن الأمر لا يعدو كونه نزاعًا داخل الحرملك على خلافة العرش.
أعمال خيرية
سجل الأعمال الخيرية خرم سلطان مليئ بالأيادي البيضاء، فإسهاماتها لا تزال تتحدث عنها حتى اليوم، منها المسجد الذي أقامته عام 1536، مرفق به مطبخ لإطعام الفقراء ومدرسة ابتدائية وأخرى لتعليم القرآن، هذا بجانب مستشفى كبير بنته في منطقة أقسراي بإسطنبول، وهو أول بناء ينجزه المهندس المعماري الشهير معمار سنان.
تظل سيرتها ساحة للتعاطي بين المؤيد والمعارض، المحب والكاره
كما أقامت العديد من المشروعات الخيرية لخدمة الفقراء والمحتاجين في أدرنة وأنقرة، منها إحضار الماء إلى أدرنة، ومطاعم في إسطنبول، ومشفى في القدس وآخر في مكة، ويشير بعض المؤرخين إلى أن السلطانة أوقفت 14 ألف فدان و754 من أراضي الصعيد في مصر وبعض الأراضي بمحافظة الغربية بالدلتا للحرم المكي.
الباحث التاريخي المصري ضياء العنقاوي في تصريحات له لصحيفة “الأهرام” المصرية أشار إلى أن تلك الأوراق موثقة بشكل رسمي بدار الوثائق المصرية المسجلة برقم 3280، مضيفًا “بعض الأراضي المصرية التي أوقفتها هيام (خرم) زوجة سليمان على الحرم المكي مسجلة كذلك في دار الوثائق المصرية برقم 631، أما ما تركته من مشروعات خيرية في الحرم المكي فهو مسجل في سجلات محكمة مكة المكرمة ومعروفة بأوقاف الخاصكية القديم”.
وخلال إحدى رحلات السلطان إلى أدرنة عام 1558 مرضت خرم سلطان، التي كانت ترافقه، مرضًا شديدًا، قيل عنه إنه الملاريا بجانب آلام حادة في الكتف، ما أجبرها على العودة إلى إسطنبول مرة أخرى، لكنها لم تمكث بها طويلًا، إذ وافتها المنية في أبريل/نيسان من نفس العام، لتشيع جنازتها من مسجد بايزيد فيما تم دفنها بمسجد السلميانية، وقد صلى عليها كبار علماء العثمانيين على رأسهم شيخ الإسلام أبو السعود أفندي.
وهكذا أسدل الستار على حياة واحدة من أكثر نساء الدولة العثمانية قيمةً ومكانةً وأعلاها قدرًا لدى أكثر سلاطين الإمبراطورية العثمانية نفوذًا (سليمان القانوني)، وفي الوقت ذاته أكثر حريم السلطنة جدلًا، لتظل سيرتها ساحة للتعاطي بين المؤيد والمعارض، المحب والكاره، لكنها – بصرف النظر عن تباين الآراء – تركت بصمة كبيرة في مسيرة الدولة العثمانية وزيادة رقعتها في وقت لا يساوي في حساب الزمن لحظات.