تعمل عدة قوى إقليمية -مع انتخاب السلطة التنفيذية الجديدة في ليبيا- على ضمان حصتها من “الكعكة الليبية” حتى لا تنفرد بها قوة دون أخرى، وهو ما يُفسّر الإنزال الأوروبي في العاصمة طرابلس أيام قليلة بعد حصول حكومة عبد الحميد الدبيبة على ثقة البرلمان.
هذا الإنزال جاء بعد أن سجّل الدور الأوروبي تراجعًا كبيرًا في ليبيا لفائدة قوى إقليمية أخرى على غرار تركيا وروسيا نتيجة أسباب عدة، أبرزها تباين مواقفهم إزاء ما يحصل من صراع هناك، فهل ينجح الأوروبيون في كسب رهان المعركة؟
تسابق نحو طرابلس
لأول مرة منذ سنوات عدة، أجرى وزراء خارجية إيطاليا وفرنسا وألمانيا -أمس الخميس- زيارة للعاصمة الليبية طرابلس، ضمن مهمة أوروبية تهدف إلى فتح قنوات حوار مع حكومة عبد الحميد الدبيبة الجديدة.
في هذه الزيارة قال وزير الخارجية الألماني هايكو ماس إن التقدم الذي شهدته ليبيا هو إحدى النقاط المضيئة القليلة في السياسة الخارجية خلال العام الماضي، وأضاف أن الليبيين عندما يديرون مستقبلهم بأيديهم مرة أخرى، حينها فقط يتحول وقف إطلاق النار إلى سلام ومصالحة حقيقيين.
بدوره، دعا وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إلى إجراء الانتخابات الليبية في موعدها المحدد في ديسمبر/ كانون الأول المقبل، مؤكدًا أن دول الاتحاد الأوروبي تدعم وحدة ليبيا واستقرارها وتعتبر ذلك مهمًا لمنطقة البحر المتوسط والساحل.
تنامي النفوذ التركي الروسي في ليبيا يعتبر رصاص رحمة للأوروبيين الذين يعتمدون كثيرا على الثروات الإفريقية للحفاظ على مكانتهم العالمية
من جهته أكّد وزير الخارجية الايطالي لويجي دي مايو، في منشور على “فيسبوك” بعد ختام زيارته لطرابلس رفقة نظيره الفرنسي والالماني، التأكيد على أن الزيارة تشكل دليلا “على وحدة نوايا الدول الأوروبية الأكثر التزامًا بتحقيق الاستقرار في هذا البلد”.
وقبل ذلك زار دي مايو طرابلس بمفرده في أول زيارة لوزير خارجية في الاتحاد الأوروبي إلى ليبيا، بعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية هناك، وأكد دي مايو حينها أن إيطاليا تدعم ليبيا في كل المجالات، وعزمها المساهمة في توحيد المؤسسات السيادية، فضلا عن زيادة تمثيلها الدبلوماسي في ليبيا.
إلى جانب ذلك، سبق أن أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن بلاده ستعيد فتح سفارتها في العاصمة طرابلس اعتبارًا من الاثنين المقبل، يذكر أن البعثة الدبلوماسية الفرنسية في ليبيا أغلقت مع نشوب القتال في طرابلس في يوليو/تموز 2014، واتخذ سفيرها من تونس مقرًا له.
وحدة أوروبية مفقودة؟
هذا الإجماع الأوروبي على دعم السلطات الليبية الجديدة لم يحصل منذ سنوات، فقبل هذا الإجماع كانت كل دولة تدعم طرفًا معينًا في ليبيا ما زاد من حدّة الأزمة هناك وأطال أمد الصراع بين الأطراف الليبية المتنازعة على السلطة.
لفترة طويلة دعمت فرنسا علنًا اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي سعى في وقت ما لاحتلال العاصمة طرابلس لكن دون جدوى، فيما دعمت إيطاليا حكومة الوفاق، بينما دعت ألمانيا إلى الحياد والوقوف على مسافة واحدة من جميع الأطراف.
ويُفهم من زيارة وزراء خارجية فرنسا وإيطاليا وألمانيا سويةً لطرابلس، وجود اتفاق بين الدول الثلاثة، ووحدة هدف بينهم، ما يعني أننا سنشاهد تحرّكات أوروبية منسجمة في قادم الأيام تنهي حالة الانقسام والتباين بينهم.
بحث عن دور أوروبي أكبر
الهدف من هذا الإنزال الأوروبي في العاصمة طرابلس البحث عن دور أوروبي أكبر في ليبيا، خاصة بعد انتخاب سلطة تنفيذية جديدة، وفي فبراير/شباط الماضي، اختير عبد الحميد دبيبة رئيسًا للوزراء، فيما اختير محمد يونس المنفي لقيادة المجلس الرئاسي في 5 من شباط/فبراير من 75 مسؤولًا ليبيًا من جميع الأطراف اجتمعوا في جنيف تحت رعاية الأمم المتحدة، وحصلت حكومة الدبيبة التي تتألف من نائبي رئيس و26 وزيرًا و6 وزراء دولة، على ثقة البرلمان الليبي في الـ10 من الشهر الحاليّ.
أثناء زيارة وزراء خارجية فرنسا-إيطاليا-ألمانيا #ليبيا تؤكد على أن:استقرار البلاد ينعكس بشكل إيجابي على استقرار المنطقة ودول الجوار و أوروبا، مبدأ السيادة الوطنية أساس غير قابل للتفاوض، ضرورة خروج كل المرتزقة من الأراضي الليبية فوراً، العمل على عودة البعثات الدبلوماسية إلى ليبيا pic.twitter.com/PgqAlZcUn6
— Taher EL-Sonni طاهر السني (@TaherSonni) March 25, 2021
يأمل الأوروبيون تدارك أمرهم، خاصة وأن حضورهم في ليبيا كان محتشما في الفترة الأخيرة، وقد اكتفى الأوروبيون لفترة بالانتظار ومشاهدة الأحداث المتسارعة في ليبيا فلم يكن لديهم القدرة على التحكم في مجريات الأوضاع هناك.
وغالبًا ما كانت البعثات الدبلوماسية الأوروبية التي انتقلت من طرابلس إلى تونس بعد تفجُر الاشتباكات في ليبيا أوائل 2019 في وضع لا تحسد عليه، وقد اكتفى الأوروبيون بإصدار مواقف تعبر عن القلق والاستنكار فقط، دون أن يكون لها رؤية واضحة لما يحدث في ليبيا ولا حل للأزمات التي يشهدها هذا البلد العربي المطل على جنوب البحر الأبيض المتوسط.
يسعى الأوروبيون في الحفاظ على مصالحهم في ليبيا، فهذه الدول عرفت مؤخرًا أن مصالحها في المنطقة بدأت تهددها أطراف أخرى، ولا سيما أن ليبيا تحتوي على ثروات هائلة من النفط حيث تقدر احتياطاتها بنحو 46.6 مليار برميل، وهي الأكبر في إفريقيا، كما تتميز بموقعها الاستراتيجي المهم الرابط بين أوروبا ودول الساحل والصحراء الإفريقية.
الخشية من النفوذ الروسي التركي
يأمل الأوروبيون حاليا، أن يكون لهم السبق في تحديد مجريات الأحداث في ليبيا وأن يتغلّبوا على الجمود الذي اتسموا به سابقًا والدفاع عن مصالحهم على أعتاب المتوسط، خاصة وأنهم يعلمون أنه إذا تواصل هذا الجمود سيفقدون كل الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها في هذا البلد لفائدة دول جديدة هم في خلاف معها.
هذه الدول التي يخشون منها، هي تركيا وروسيا، فكلا البلدين تمكن في ظرف وجيز من تدعيم مكانتهما في ليبيا، وتحديد مجريات الأحداث هناك، وهو ما أجبر الدول الأوروبية على أن يكون الملف الليبي في أولى أولوياتها.
من المنتظر أن يعود التباين في المواقف الأوروبية مجددا على الساحة، ما يضعف حظوظهم في الظفر بامتيازات جديدة في ليبيا ويمكن أن يفقدهم أيضا امتيازاتهم القديمة
هل يكسبون الرهان؟
صحيح أن الأوروبيين يعملون حاليًا وفق موقف موحّد وذلك لكسب رهان المعركة في ليبيا، لكن هذا لن يدوم كثيرا، لأن كلّ دولة لها أهداف وأجندات معينة من الصعب جدا أن تتخلى عنها.
أوروبا تريد التواجد فى ليبيا عبر قوة الاشراف عن وقف اطلاق النار وتركيا عبر الاتفاقيات الأمنية وروسيا عبر تواجد غير رسمى (فاغنر) !!!
لاحل لليبيا الا الحياد بمعنى تصبح (دولة محايدة )
والا احتلال متعدد الرؤوس!!!
— حسين السويعدى (@WNDTa2HjwWlji7G) March 20, 2021
من المنتظر أن يعود التباين في المواقف الأوروبية مجددا على الساحة، ما يضعف حظوظهم في الظفر بامتيازات جديدة في ليبيا ويمكن أن يفقدهم أيضا امتيازاتهم القديمة، خاصة إذا علمنا أن الأتراك والروس والأمريكان أيضا يتحركون بقوة هذه الفترة لفرض توجهاتهم التي تخدم مصالحهم في ليبيا والمنطقة ككل.
تعتبر المسارات الأممية الجديدة فرصة للأوروبيين لإعادة الإمساك بخيوط الأزمة الليبية، بعد أن فقدتها وفقدت أيضًا القدرة على التحكم في مجريات الأوضاع هناك لفائدة دولة أخرى لم تكن لها مكانة كبيرة في ليبيا إلى وقت قريب، لكن ذلك لن يكون بالسهولة المتوقعة.