ليس سهلًا أن تجد رواية في النصف الأخير من القرن العشرين بالقارة الإفريقية، أكثر إثارة من قصة سيراليون مع الحكم السيئ والساسة الفسدة الذين أفسدوا الدولة ونهبوا موارد الأمة وخنقوا الديمقراطية في البلاد وأوقعوا الشعب في أسر فقر مدقع وجعلوا المدنيين هدفًا أساسيًا للعنف، ومع ذلك تظل قصتها في بناء المصالحة المجتمعية مصدر إلهام لكل المجتمعات التي دمرها الصراع وقطع أوصالها.
ما قبل الحرب
في 23 من مارس/آذار 1991 اندلعت الحرب الأهلية في سيراليون، الدولة المتشاطئة للساحل الجنوبي الغربي لغرب إفريقيا، عانى آلاف المدنيين الأبرياء، وقتلوا على أيدي الطرفين – الحكومة والمتمردين – ودُمر السياق السياسي والمجتمعي وزادت المظالم بين الناس بسبب الإفساد المتعمد لمؤسسات الدولة في فترة ما قبل الحرب التي برهنت على أن المقدمات دائمًا دليل على النتائج.
حتى نفهم سر إشعال الصراع مباشرة، يجب أولًا الغوص داخل المشاكل المتراكمة لشرائح المجتمع السيراليوني المختلفة، لا سيما الشباب المهمش الذي عانى من تداعيات المجتمع الوراثي، الذي خلّف دولة منهكة ومفككة تمامًا، أسوأ من بقايا الدولة التي ورثها من الاستعمار البريطاني، ما سهل تجنيد الشباب بسهولة في القوات المتمردة التي تشكلت رفضًا للمظالم، وانصهرت داخل الجبهة المتحدة الثورية، لكنها انحرفت كما غيرها في نماذج التاريخ، وأصبحت فيما بعد عصابات تقاتل من أجل المال والسلطة والنفوذ، بعد أن تخلت عن القضايا العادلة للمجتمع.
يمكن القول إن التاريخ الحديث لسيراليون يعود إلى حدود عام 1787، حيث استقرار السود من الجنود السابقين بالجيش البريطاني في الطرف الشمالي لشبه جزيرة سيراليون التي تم استخدامها كقاعدة بحرية رئيسية لسرب بريطاني كان يكافح العبودية انطلاقًا من مياه غرب إفريقيا، لكن طبيعة المكان أثارت الشهية الإنجليزية لإعلان سيراليون محمية بريطانية عام 1896.
لعب الحكم الاستعماري البريطاني على إحداث تنمية منفصلة ومتباينة، وكان أسلوبًا معمولًا به ومُجرب بنجاح للاحتلال في أغلب البلدان التي حط الرحال بها لإثارة نعرات طبقية بين أبنائها، حتى يمكنه السيطرة عليهم جميعًا، ولهذا عمل على صنع فوارق واضحة بين الطبقات الاجتماعية وخاصة في التعليم.
بعد زرع نبتة التمييز، لجأت بريطانيا إلى تقسيم سيراليون إلى عدة مشيخات صغيرة للسيطرة عليها بشكل غير مباشر، بدلًا من إنشاء بيروقراطية مركزية قوية، وتركت على رئاسة المشيخات أهم زعماء القبائل المعروفين، لا سيما الذين لديهم الرغبة في أن يكون منصب الرئاسة قابلًا للتوريث مدى الحياة.
عرف الاحتلال مكامن الضعف في التركيبة الاجتماعية للبلاد، فزكى المنافسة بين الزعماء البارزين حتى أصبحت عنيفة ودموية بين العائلات الحاكمة، وشاع التوتر في المجتمعات الريفية بسبب انتهاكات رؤساء القبائل وضرائبهم المفرطة واتباعم السخرة بشكل منهجي، فضلًا عن استبعاد شرائح مهمة من المجال العام للبلاد، مثل الشباب والنساء والفقراء.
ساعدت هذه السياسة في إرساء أسس دولة فاشلة لاحقًا بعد الاستقلال، إذ أوجدت مواطنين يحملون على جدار أرواحهم كل الغضب والسخط، وجعلتهم إرهابيين محتملين وجاهزين تمامًا لأي عمل عنيف لإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح، وخاصة بعد أن تحول زعماء قبائلهم إلى عبيد للاحتلال وأداة للتسلط على الشعب وترهيب وتخريب المدن والقرى مقابل استمرار نفوذهم وهيمنتهم.
دولة الظل
أدت مستويات التعليم المنخفضة وتضاؤل دخل الفرد والمظالم التي لا تنتهي إلى تعاظم رغبة وطنية في الإطاحة بالنظام الحاكم من أجل تحقيق المزيد من العدالة، فسيراليون ذات احتياطي هائل من الألماس والنفط ولا مبرر للفقر مطلقًا، لذا كان المعدن النفيس والنفط أحد أسباب تحور مسارات الحرب الأهلية في وقت لاحق بين المتمردين والحكومة.
تجردت سيراليون من مواصفات الديمقراطية الدستورية – الصفة التي نالت على أساسها الاستقلال – وتحولت في نحو 17 عامًا إلى دولة الحزب الواحد
رحل الاحتلال في 27 من أبريل/نيسان 1961 على يد ميلتون مارجاي الذي أسس حزب سيراليون الشعبي، لكنه توفي في منصبه وترك حبًا جارفًا بين الناس وأزمة كبرى، وهي دولة الظل التي ورثتها السلطة المحلية عن الاحتلال، تدهور كامل في كل مؤسسات الدولة الرسمية والطبقة الفاسدة من الساسة وزعماء القبائل الذين وثبوا على السلطة بعد رحيل مؤسس الدولة الحديثة، فحافظوا على استمرار أنشطة التعدين غير المشروعة لإدارة قطاع الماس بعيدًا عن أعين الشعب ومؤسسات المراقبة الشرعية.
كانت النتيحة الطبيعية توزيع تراخيص التعدين على كبار رجال الأعمال الموالين للسلطة، لتتوحش دولة الظل بشكل مخيف من نهاية الستينيات وحتى بداية التسعينيات، بفضل المزايا التي قدمت لضباط الجيش وخاصة كبار القادة، وشراء ولاءاتهم بدلًا من تقوية الجيش وتحسين قدراته القتالية، ليتم تحويل الجيش في النهاية إلى مؤسسة سياسية، إذ دُفع بمنصب رئيس أركان القوات المسلحة إلى الترشح لعضوية البرلمان لضمان توريطه في اللعبة السياسية وحرقه إن لزم الأمر.
هذه الإرهاصات كانت مقدمةً لحرب أهلية مدمرة، بعد أن امتهن الساسة الفساد والعنف ما أضعف المجتمع المدني، وكان ذلك بمثابة إعلان ولادة للتمرد، إذ تجردت سيراليون من مواصفات الديمقراطية الدستورية – الصفة التي نالت على أساسها الاستقلال – وتحولت في نحو 17 عامًا إلى دولة الحزب الواحد.
قوّض البرلمان وارتشى القضاة وأفلست الخزينة العامة للدولة، وبدلًا من الحوار مع المعارضة واحتوائها كان يتم إعدام أعضائها الفاعلين أو على الأقل نفيهم خارج البلاد، وهكذا أصبحت المناصب أداةً للمنفعة الشخصية وتعظيم الذات، ليظهر على الساحة فوداي سنكوح المتمرد السيراليوني الشهير، ويؤسس الجبهة الثورية المتحدة لتندلع الحرب الأهلية عام 1991 لتستمر حتى عام 2002، ويقتل فيها أكثر من 50 ألف شخص، ويشُرد أكثر من نصف السكان، ويتورّط الغالبية في أعمال عنف وقتل وسرقة.
الغريب أن الجبهة الثورية التي تأسست لمعالجة أسباب الظلم في المجتمع، ضُبطت في ممارسات وحشية، بل إن سنكوح شخصيًا اخترع مكافأة تشجيعية لأنصاره سميت بعملية “كافئ نفسك” دعاهم فيها لنهب أي شيء يجدونه، كما خرق وعود عدة لوقف القتال بما في ذلك اتفاق سلام أبيدجان واتفاق لومي للسلام عام 1999.
لم يرتدع سنكوح إلا من بريطانيا التي تدخلت عسكريًا وسحقت الجبهة المتحدة الثورية، واعتقل وسلم إليها وحوكم في محكمة مدعومة من الأمم المتحدة ووجهت إليه 17 تهمة في مختلف جرائم الحرب، بما فيها الجرائم ضد الإنسانية والاغتصاب والاسترقاق الجنسي وأعمال الإبادة الجماعية، لكن القدر كان رحيمًا بسنكوح وتوفي خلال المحاكمة من مضاعفات سكتة دماغية، ووصفت الأمم المتحدة نهايته في بيان رسمي صادر عنها مؤكده أنه رحل بطريقة سلمية كان دائمًا ينكرها على الآخرين.
المصالحة والحل
للتخلص من ويلات الحرب الأهلية، لم يكن أمام البلاد إلا لجان الحقيقة والمصالحة، التي كانت ولا تزال أحد الخيارات الأساسية لتجسيد العدالة الانتقالية، عبر المساءلة عن الجرائم المرتكبة في الماضي والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتأسست بالفعل في شهر يوليو/تموز 2002.
قدمت اللجان تقريرها النهائي إلى الرئيس أحمد تيجان كبة ـ الرئيس المسلم الوحيد في تاريخ البلاد ـ بعد أن عقدت لقاءات خاصة وعامة مع الضحايا والجناة، وجلسات استماع بشأن القضايا الموضوعية، وتحقيقات وتحريات أخرى دامت نحو ثمانية أشهر، كما عرض التقرير سردًا مفصلًا عن تاريخ البلاد، وركز على سياقات الحرب الأهلية الوحشية، وحلل مختلف الأبعاد للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بهدف فهم أسباب الصراع، ليورد في النهاية سلسلة من النتائج والتوصيات.
وضعت البلاد آليتين للعدالة الانتقالية أهمها إنشاء محكمة خاصة للفصل في قضايا المتهمين بتحمل أكبر قدر من المسؤولية عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وكانت الوسيلة المؤسسية الأساسية للتصدي للإفلات من العقاب، أعقب ذلك إنشاء سجل تاريخي محايد للنزاع والاستجابة لاحتياجات الضحايا وتعزيز الشفاء والمصالحة، ووضع الكل الضمانات الممكنة لمنع تكرار الانتهاكات والتجاوزات.
كانت لجنة الحقيقة والمصالحة تواجه صعوبات كبرى منها شبح الانتكاسة والعودة للحرب مثلما حدث مع اتفاق لومي للسلام الذي وقع عام 1999 بين حكومة سيراليون والجبهة المتحدة الثورية، وانهارت العملية بسرعة واسُتئنفت الحرب، ولهذا بذلت اللجنة الجديدة جهودًا جادةً على الصعيدين الوطني والدولي، على رأسها إنشاء الأمانة المؤقتة للجنة الحقيقة والمصالحة في مارس 2002 تلاها افتتاح مقر لجنة الحقيقة والمصالحة في 5 من يوليو/تموز 2002 وتعزيز الجهود مع المفوضية السامية لحقوق الإنسان من إجل إيجاد كوادر مؤهلة للوصول إلى نتائج أكثر مهنية وشفافية وبناء شراكة حقيقة مع مؤسسات المجتمع المدني العالمية والمحلية على حد سواء للمساهمة في الحل.
كان من نتائج ذلك تأسيس منظمة سيراليون غير الحكومية عام 2007 لمعالجة المظالم في زمن الحرب وتسهيل المصالحة على المستوى المحلي في المجتمعات الريفية لمواصلة التعافي المجتمعي، وزُرعت شجرة سلام رمزية في كل قرية، وفي بعض المناطق التي شهدت صراعات أهلية دموية، كما ساعدت في إنشاء مجموعة أمهات السلام لتعزيز الأنشطة الاقتصادية للمرأة ومناقشة الفظائع التي تستهدف النوع الاجتماعي التي ارتكبت خلال الحرب.
يمكن القول إن برنامج المصالحة ـ رغم استمرار بعض العثرات ـ حقق قدرًا أكبر من العفو للجناة وعزز رأس المال الاجتماعي وقلل المشاعر السلبية تجاه مرتكبي الجرائم وأحدث تحولات كبيرة في مواقف المقاتلين السابقين وقلل احتمالية مشاركتهم في أعمال عنف بالمستقبل، كما عزز المشاركة الجماعية، ما انعكس على تعزيز السلام في المجتمع من خلال التنفيس والتسامح، لتبقى التجربة بكل ما فيها ساحة للبحث والدراسة والوعي.