المصائب لا تأتي فرادى، فبينما يتابع المصريون واقعة جنوح إحدى السفن العملاقة بقناة السويس، المستمرة لأكثر من يومين، وتداعياتها الكارثية على الشريان الحيوي المصري، الذي بات مهددًا في ظل ما يقال بشأن البحث عن ممرات بديلة لسفن التجارة العالمية، إذ بهم يستفيقون على كارثة أخرى.
ليلة حزينة أطلت بظلالها القاتمة على الشارع المصري، أمس الجمعة 26 من مارس/آذار 2021، إذ فقد 32 شخصًا حياتهم في لمح البصر، بينما أصيب أكثر من 165 آخرين (حسب بيانات وزارة الصحة المصرية) جراء حادث تصادم قطارين في مركز طهطا شمال محافظة سوهاج (جنوب).
الحادث ليس بالجديد في ظل استمرار مسلسل نزيف الدم بقطاع القطارات في مصر على مدار أكثر من ربع قرن، غير أن ما حدث جاء رغم الدعم المالي غير المسبوق الذي قدمته الدولة لهذا المرفق، والتصريحات التطمينية التي كان يطلقها وزير النقل اللواء كامل الوزير بشأن تطوير القطاع وانتهاء عصر الفوضى والتسيب على حد قوله.
وفي الوقت الذي كان يؤمل فيه المصريون أنفسهم بنهاية مرحلة الحوادث الدامية لهذا القطاع المتهالك منذ عقود طويلة، إذ بالأمر يسير عكس الاتجاه، حيث شهدت البلاد العديد من تلك الوقائع في عهد الوزير الذي جاء لهذا المنصب على خلفية حادثة مشابهة، في 27 من فبراير/شباط 2019، التي عرفت إعلاميًا بـ”حادثة محطة مصر” التي راح ضحيتها 21 شخصًا وإصابة 52 آخرين.
ربنا يرحمهم ويصبر أهلهم ويشفي كل المصابين ???#قطار_الصعيد pic.twitter.com/tMeBFFRsMA
— حبيبه حسام (@asmaa1_1_94) March 26, 2021
شهادات مفجعة وتحقيقات عاجلة
المشاهد التي تناقلتها منصات السوشيال ميديا عن الحادث كانت مروعة للغاية، إذ شهدت استغاثات بالجملة لإنقاذ المصابين والجرحى فيما جزم البعض بارتفاع عدد الوفيات إلى أكثر من 490 حالة، وليس العدد الذي أعلنته وزارة الصحة، وهو ما أثار التساؤلات وأحدث حالة من اللغط.
هيئة السكك الحديدية المصرية وقبيل انتظار التحقيقات سارعت لإعفاء نفسها من المسؤولية حين أشارت في بيان لها نشرته على مواقع التواصل الاجتماعي أن “اصطدام القطارين كان نتيجة استخدام مجهولين كوابح الطوارئ بالقرب من مدينة سوهاج”.
وردًا على هذا البيان الذي أجج مشاعر الغضب في نفوس الشارع المصري، طالب النائب العام، حمادة الصاوي، الذي توجه شخصيًا إلى مكان الواقعة، بعدم إصدار بيانات أو تصريحات بشأن الحادث، من أي جهة كانت، حتى انتهاء التحقيقات، التي تتولاها النيابة العامة.
وفي أول تحرك رسمي أمر النائب العام بسرعة اتخاذ الإجراءات لسؤال سائقي القطارين ومساعديْهما ومسؤول برج المراقبة وعامل المزلقان الذي وقع حادث القطار أمامه، كما طالب بالاستماع لشهادة مسؤولين بهيئة سكك حديد مصر، وبالتحفظ على بطاقات ذاكرة وحدة التحكم الرئيسية للقطارين وأجهزة التحكم ببرج المراقبة ووحدات تخزين بيانات الكاميرات في المنطقة والمنشآت المطلة على موقع الحادث لفحصها.
من جانبه وجّه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، كل الأجهزة المعنية بالتوجه إلى موقع الحادث ومتابعته ساعة بساعة، فيما قدم العزاء لأسر الضحايا، متعهدًا بأن “ينال الجزاء الرادع كل من تسبب في هذا الحادث الأليم بإهمال أو بفساد أو بسواه، دون استثناء ولا تلكؤ ولا مماطلة” وفق ما ذكر في بيان له على صفحته الرسمية على فيسبوك.
((ارقام المتوفين المعلنة لا تحدث إلا في حوادث الميكروباص .. ٤٩٠ كيس متوفي خلصوا في حادثة #قطار_الصعيد ))
مواطن يكشف كذب وتدليس الإعلام المصري ووزارة الصحة في ارقام المتوفين في حادث #قطار_سوهاج pic.twitter.com/PqdeL5Au3L— المعلم داغر (@officialhta2522) March 27, 2021
مِن المدني للجنرال.. لا تغيير
في صباح 27 من فبراير/شباط 2019، اصطدم جرار القطار (2302) بالحاجز الخرساني لنهاية رصيف رقم 6 بمحطة رمسيس بالقاهرة، الاصطدام أسفر عن حدوث انفجار هائل أودى بحياة 21 شخصًا وإصابة 52 آخرين، وبعد ساعات قليلة من الحادث أعلن مجلس الوزراء قبول استقالة وزير النقل – آنذاك – هشام عرفات.
حينها عزفت الآلة الإعلامية على أوتار ضرورة تعيين وزير بخلفية عسكرية، كونه الأكثر حزمًا على إدارة هذا القطاع الشائك، الذي يعاني من تدهور وتهالك وتسيب على مدار أكثر من ثلاثة عقود كاملة، فيما كان اللواء كامل الوزير، رئيس الإدارة الهندسية بالقوات المسلحة المصرية في هذا الوقت على رادار الإعلام الرسمي والخاص، مطالبين بتعيينه وزيرًا للنقل على خلفية النجاحات التي حققها داخل المؤسسة العسكرية التي في معظمها تتمحور حول بناء الطرق والكباري التي كان يشرف عليها الجيش.
وبعد إلحاح دام عدة أيام، تم تعيين الوزير وزيرًا للنقل، ليتصاعد معه منسوب التفاؤل بشأن إصلاح المنظومة الحديدية، لاسيما أن تصريحات الجنرال تجاوزت سقف المأمول، فالرجل تعهد بالقضاء على كل السلبيات، مقدمًا رؤية جيدة نالت إعجاب الكثيرين في هذا الوقت.
توعد السيسي بمحاسبة المقصرين أيًا كانت مناصبهم، دفع البعض للتساؤل عن احتمالية الإطاحة بصديقه الجنرال من على كرسي الوزارة، خاصة أنه جاء لهذا المنصب للسبب ذاته
وفي المقابل دعمته الدولة بكل سبل الدعم، المالي واللوجستي، الذي لم تقدمه لأي وزير سابق، فتم تخصيص عشرات المليارات لهذا المرفق، فيما أعطيت للوزير الصلاحيات كافة دون منازع، فيما كانت سياسته متشددة في بعض الأحيان، وهو الذي كرم يومًا محصلًا بأحد القطارات لأنه حصل تذكرة من طفل بدعوى التزامه بتطبيق القانون رغم استغاثة الطفل لعدم ملكيته لثمن التذكرة.
ورغم كل هذا الدعم والأموال التي أنفقها الجنرال الوزير على شراء عربات جديدة من الخارج، فإن المرفق لا سيما في مساراته الخاصة بمحدودي ومتوسطي الدخل لا يزال يعاني من الوضع ذاته، دون تغيير، إهمال وفساد وجرائم تلو الأخرى.
ولاية الوزير المقرب من السيسي، شهدت عشرات الحوادث، أغلبها قطارات الغلابة، هذا بجانب جرائم أخرى لا تقل عن اصطدام قطارين أو خروج أحدهما عن القضبان، لعل أبرزها تلك الجريمة التي أثارت الرأي العام، في أكتوبر/تشرين الأول 2019، حين أجبر محصل التذاكر “كمسري” راكبين على إلقاء أنفسهم خارج القطار بسبب عدم دفع التذاكر، ما أسفر عن وفاة أحدهما وبتر قدم الآخر.
ومع مرور الوقت تبخرت أحلام المصريين بقدرة الجنرال على تقديم ما لم يقدمه المدني، ليتكشف الستار عن أن الأمر يحتاج إلى أهل الكفاءة والخبرة وليس أهل الثقة، فالقطاعات المتعلقة بحياة الناس وخدماتهم اليومية تحتاج إلى عقليات من طراز فريد، وليس على شاكلة “كله تمام يا فندم بالأمر المباشر”.
#كامل_الوزير في موقع الحادث..
والجماهير: ارحلمتداول
وزير النقل #سوهاج #تكرار_حوادث_القطار
شهداء القطار pic.twitter.com/6CfjoK0kDs— خمسة بالمصري (@egy_five) March 26, 2021
هل يضحي السيسي بصديقه الجنرال؟
توعد السيسي بمحاسبة المقصرين أيًا كانت مناصبهم، دفع البعض للتساؤل عن احتمالية الإطاحة بصديقه الجنرال من على كرسي الوزارة، خاصة أنه جاء لهذا المنصب للسبب ذاته، إلا أنه في المقابل شن الإعلاميون المدعومون من النظام والداعمون له، حملة لدعم الوزير، لافتين إلى أنه لا يتحمل مسؤولية ما حدث.
المصريون استعادوا تصريحات عدد من الإعلاميين إبان حادث دهس قطار لحافلة طلاب معهد أزهري بأسيوط في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، الذي راح ضحيته 47 طفلًا، في عهد الرئيس الراحل محمد مرسي، حين شن عمرو أديب وزوجته لميس الحديدي ومعهما بعض المحسوبين حينها على الثورة المضادة هجومًا حادًا ضد الرئيس قائلين: “لو مش قد الشيلة يا دكتور مرسي ما تشيلش” “لو مش قدر المسؤولية يادكتور هشام (هشام قنديل رئيس الوزراء حينها) سيبها وامشي” “مصر كبيرة عليك يا دكتور مرسي”.
الصمت الذي خيم على نفس الوجوه الإعلامية التي ملأت الفضاء الإعلامي عويلًا وصراخًا على ضحايا المعهد الأزهري بأسيوط أثار حالة من السخرية لدى الشارع الذي طالب بتحمل كامل الوزير مسؤوليته وتقديم استقالته من منصبه، وهي الخطوة التي يستبعدها البعض في ظل العلاقة القوية التي تربط الرئيس بالجنرال من جانب، وتطاوس السيسي الذي يحول دون استجابته لرأي الشارع من جانب آخر.
رغم اعتبار مصر من أوائل الدول التي عرفت السكك الحديدية، الثانية عالميًا بعد بريطانيا، ففي الوقت ذاته تعد في المراتب الأولى من حيث عدد الحوادث
العقدان الماضيان دفع 3 وزراء نقل و3 رؤساء لهيئة السكك الحديدية حصيلة كشف الحساب الذي قدمته الحكومة لإخماد النيران المشتعلة بصدور المصريين جراء حوادث القطارات الممتدة لأكثر من ربع قرن تقريبًا، أشهرهم وزير النقل الأسبق إبراهيم الدميري الذي أقيل على خلفية حادث قطار الصعيد في 2002، ومحمد لطفي منصور الذي تمت إقالته على خلفية حادث تصادم قطارين بمدينة العياط في 2009.
هذا بجانب محمد رشاد المتيني وزير النقل السابق، الذي تولى الوزارة لمدة 4 أشهر فقط، وخلالها وقعت أكثر من 15 حادثة بقطارات السكة الحديد، ما أجبره على الاستقالة في 2012، وفي عام 2019 حين أجبر هشام عرفات على تقديم استقالته في أعقاب حادثة محطة مصر، ليأتي بعدها كامل الوزير.
#ادعم_كامل_الوزير
?️الرجل الفولاذي اللي استلم السكه الحديد وهي خربانه من كل حاجه حتي النظافه ورجع ليها مظهرها الحضاري ومليارات الجنيهات للدوله
ورجع ليها الانضباط والسلوك الحضاري المحترم
احنا معاك احنا وراك وورا اي مسئول بيخدم مصر بكل إخلاص ومحبه تحيه لكامل الوزير?️ pic.twitter.com/AMFIYfyuZk— أمل الغد (@amlalghad7) March 26, 2021
16 ألف حادث في 14 عامًا
كشفت إحصائية رسمية للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي) في 17 من ديسمبر/كانون الأول 2018، عن وقوع نحو 16 ألفًا و174 حادث قطار في المحروسة خلال الـ14 عامًا الأخيرة، فيما جاء عام 2017 الأعلى من حيث عدد الحوادث بإجمالي 1657 حادثًا بينما كان 2012 الذي شهد 447 حادثًا هو الأقل.
النصف الأول من عام 2017 شهد 793 حادثًا بما يزيد على 4 حوادث يوميًا، مقابل 590 حادثًا في الفترة نفسها عام 2016، بزيادة بلغت 34.4%، فيما كانت 1235 حادثًا في 2015، بحسب التقرير الذي أشار إلى أن متوسط معدل حوادث القطارات بالنسبة لعدد السكان بلغ 0.1% لكل 1000 من السكان “بحسب عدد السكان في كل عام من الفترة المذكورة”، عدا الفترة من 2006 – 2009 التي بلغ معدل الحوادث بها 0.2% لكل ألف من السكان.
ورغم اعتبار مصر من أوائل الدول التي عرفت السكك الحديدية، الثانية عالميًا بعد بريطانيا، ففي الوقت ذاته تعد في المراتب الأولى من حيث عدد الحوادث، في ظل ما يعاني منه هذا المرفق الحيوي الذي يستخدمه الملايين من فساد وتهالك وتدهور على المستويات كافة.
لم تكن حادثة قطاري سوهاج هي الأولى، ولن تكون الأخيرة، فالاستمرار بذات الإستراتيجيات حتمًا سيقود إلى النتائج نفسها، والاعتماد على أهل الثقة دون الكفاءة سيدفع الشعب ثمنه غاليًا جدًا
خلال السنوات الخمسة الأخيرة تحديدًا شهد هذا القطاع طفرة هائلة في أسعار التذاكر والخدمات التي قفزت بنسب تجاوز بعضها الـ1000%، بحجة التطوير وسد العجز المتفاقم على مدار عقود طويلة مضت، ومع ذلك لم يلتمس المواطن العادي أي مظاهر التطوير إلا في القطارات التي تخدم القلة من المستثمرين ورجال الأعمال والخاصة بمسارات المناطق الساحلية والعاصمة الإدارية الجديدة.
عشرات المليارات أرهق بها النظام خزانة البلاد في صورة قروض خارجية لتطوير قطاع السكة الحديد، هذا بجانب اتفاقيات التوأمة التي عقدتها الحكومة مع وزارات النقل في بعض الدول الأخرى، ومع ذلك فالوضع لم يتغير، وهو ما توثقه الحوادث المتتالية ومستوى القطارات المتدني رغم المناشدات المستمرة للتحذير من خطورتها على حياة المواطنين.
ومما أجج منسوب الاحتقان الشعبي حالة الازدواجية التي تتعامل بها السلطات المصرية مع قطاع القطارات، على حسب الفئة المستهدفة، فحين يتعلق الأمر بقطارات الغلابة ومحدودي الدخل يكون وضع 100 مليار جنيه في البنك وتحصيل فوائدها أفضل من الضخ بهم في هذا المرفق (الدولة فقيرة وممعهاش)، أما عند الحديث عن قطارات العاصمة الإدارية الجديدة التي تخدم النخبة فإنفاق 360 مليار جنيه ككلفة أولية للمشروع، فالأمر سهل وميسور، ومبلغ كهذا زهيد لا يتناسب وضخامة المشروع الذي ينقل مصر نقلة نوعية نحو جمهورية جديدة على حد قول الرئيس.
لم تكن حادثة قطاري سوهاج هي الأولى، ولن تكون الأخيرة، فالاستمرار بذات الإستراتيجيات حتمًا سيقود إلى النتائج نفسها، والاعتماد على أهل الثقة دون الكفاءة سيدفع الشعب ثمنه غاليًا جدًا، وغياب فقه الأولويات في ترتيب هرم الاحتياجات لدى الشعب الذي يقبع أكثر من ثلثه تحت مستوى خط الفقر سيقود إلى المجهول، وصم الأذان عن الاستماع للخبراء والمتخصصين بزعم احتكار الرأي الصائب ستكون عواقبه كارثية.. فهل تعي السلطات المصرية الدرس أم ستطوي تلك الصفحة لحين كارثة جديدة؟