لا تزال تجربة جنوب إفريقيا في تفكيك النظام العنصري والعبور إلى التسامح والديمقرطية تمثل حالة من الإلهام لأنصار السلام والراغبين في تفكيك النزاعات وتوطين التسامح في مجتمعات ما بعد الصراع، فهناك دائمًا حل وسط، لكنه يعتمد بشكل أساسي على تحديد لحظة المسؤولية المشتركة لطرفي النزاع، والانخراط في علاقات مسؤولة يمكنها صياغة مستقبل أفضل للجميع.
حكومة البيض
ظهرت أشباح الفصل العنصري وتفوق البيض في السياق العام لدولة جنوب إفريقيا بالشكل الذي عرفه العالم قبل نحو قرن من الزمان، من خلال قانون الأراضي الذي أقر عام 1913 وتم تمريره بعد ثلاث سنوات فقط من حصول البلاد على استقلالها، وبموجبه منّع البيض المواطنين السود من شراء الأراضي، كما أجبروهم على العيش في المحميات بعيدًا عن المناطق الحضرية.
استطاع نظام الفصل العنصري بسط مخالبه في أحشاء المجتمع الجنوب إفريقي بعد تولي الحزب الوطني السلطة عام 1948، كانت الحكومة بالكامل من البيض واتبعت سياسات قمعية أجبرت فيها غير البيض – غالبية السكان – على العيش في مناطق منفصلة وجعلت لهم مرافق عامة وحدهم، ومنعت أي اتصال بين المجموعتين إلا في أضيق الحدود.
من أجل مزيد من الفصل، أقرت الحكومة سلسلة إضافية من القوانين، بموجبها أصبح أكثر من 80% من أراضي البلاد للأقلية البيضاء، وفرضت عقوبات مغلظة على غير البيض حال الوجود دون وثائق في المناطق المحظورة للحد من الاتصال بين الأعراق كما قيدت نشاط النقابات العمالية غير البيضاء.
بعد ذلك لعبت الحكومة على تقسيم السود على أسس قبلية من أجل تقليل سلطتهم السياسية، وزادت من إجراءات عزلهم عام 1950 بحظر الزواج بين البيض والأشخاص من أعراق أخرى.
كما حظرت العلاقات الجنسية بين السود والبيض، وفي نفس العام سنت قانون تسجيل السكان، الذي صنف جميع مواطني جنوب إفريقيا حسب العرق، البانتو أو الأفارقة السود، والملونون من العرق المختلط، والأبيض، وتمت إضافة فئة رابعة، وهي الآسيوية ـ هندي وباكستاني ـ وكان يمكن تصنيف الآباء على أنهم من البيض، بينما يصنف أطفالهم على أنهم ملونون.
توحش الفصل العنصري مع تولي هندريك فيرويرد رئاسة الوزراء عام 1958، وأصبح نظامًا مؤسسيًا في البلاد، بعد سن قانون تعزيز الحكم الذاتي للبانتو عام 1959، وبموجب القانون أصبح للسود 10 أوطان، وهي الحيلة التي مكنّت الحكومة من الادعاء بعدم وجود أغلبية في البلاد للسود، ما يمهد لإزالتهم بشكل عملي من الواقع السياسي لجنوب إفريقيا.
في مطلع الستينيات زادت سلطة الفصل العنصري من اضطهاد السود ونقلتهم قسرًا من المناطق الريفية المصنفة بيضاء إلى مناطق تجمعاتهم الجديدة، وباعت أراضيهم بأسعار منخفضة للمزارعين البيض، واستمر هذا الترحيل حتى عام 1994 وخلف ضحايا التهجير القسري أكثر من 3.5 مليون شخص، طردوا من منازلهم وسقطوا في مستنقعات الفقر واليأس.
المقاومة
لم يستسلم السود لإجراءات الفصل العنصري، وأخذت احتجاجاتهم أشكالًا عدة على مر السنين، من المظاهرات غير العنيفة والاحتجاجات والإضرابات إلى العمل السياسي إلى المقاومة المسلحة في نهاية المطاف، والخيار الأخير جاء بعد سلسلة من الحوادث فتحت فيها مؤسسات القوة – لا سيما الشرطة – النار على مجموعات من السود غير المسلحين بجانب التوسع في عمليات الاعتقال.
في المقابل لاقت فكرة تشكيل أجنحة عسكرية بين السود رواجًا كبيرًا بعد مذبحة شاربفيل عام 1960 التي قتل فيها 67 شخصًا من السود، وأصيب أكثر من 180 بعد فتح الشرطة النار على حشد من 7000 متظاهر، تجمعوا عند مركز شرطة قرية شاربفيل للاحتجاج على قوانين المرور التمييزية ضدهم، ما أسفر عن مقتل 69 شخصًا بينهم 29 طفلًا وإصابة 180 آخرين، بعضهم أصيب خلال فراره من ضرب الشرطة للمتظاهرين بالرصاص الحي.
شجع الحادث القادة المناهضين للفصل العنصري والمؤمنين بالمواجهة المسلحة على تدعيم قناعاتهم، ودشنت جبهات على شاكلة PAC وANC كأجنحة عسكرية، لكن رغم خطورة ضرباتها لم تشكل تهديدًا عسكريًا خطيرًا للنظام الذي استطاع بعد عام واحد فقط القبض على معظم قادة المقاومة وحكم عليهم بالسجن لفترات طويلة وبعضهم تم إعدامه.
كان نيلسون مانديلا الزعيم التاريخي لجنوب إفريقيا، أحد مؤسسي الجناح العسكري لحزب المؤتمر الوطني، وحكم عليه بالسجن من عام 1963 إلى عام 1990، وأدى سجنه إلى جانب أقرانه إلى جذب الانتباه الدولي والمساعدة في حشد الدعم لقضية مناهضة الفصل العنصري، إلى جانب استمرار غضب كاسح تجسد في مظاهرات حاشدة متكررة من آلاف السود، التي كانت ترد عليها الحكومة العنصرية بعنف شديد، لكن التردي الاقتصادي فضح هذه السياسة وساهم في جلب المزيد من السخط عليها، فالفصل بين البيض والسود لم يجلب لا السلام ولا الازدهار إلى الأمة!
بداية الإصلاح
أثمر الضغط الداخلي والخارجي عن دفع مجلس الأمن للتصويت بالإجماع عام 1977 على فرض حظر إلزامي على بيع الأسلحة إلى جنوب إفريقيا، تبع ذلك تحركات أخرى من بريطانيا والولايات المتحدة لفرض عقوبات اقتصادية على النظام العنصري عام 1985، ما أدى إلى لجوء حكومة الحزب الوطني بقيادة بيتر بوتا إلى إجراء بعض الإصلاحات، وألغت قوانين المرور سيئة السمعة وحظر ممارسة الجنس والزواج بين الأعراق.
لكن هذه الإصلاحات لم ترق إلى مستوى طموحات أبناء الشعب الجنوب إفريقي ولا المجتمع الدولي، بل ساهمت في جلب المزيد من الضغط الذي انتهى بتنحي الرئيس بوتا وجاء بدلًا منه دي كليرك الذي توغل في المساواة أكثر وأكثر، وألغى عدة قيود أخرى على السود أهمها قانون تسجيل السكان، كما ألغى معظم التشريعات التي شكلت الأساس القانوني للفصل العنصري.
أطلق دي كليرك سراح نيلسون مانديلا في 11 من فبراير/شباط 1990، ووافق على سن دستور جديد يمنح السود والجماعات العرقية الأخرى حق الاقتراع، ودخل حيز التنفيذ عام 1994، وأدت الانتخابات في ذلك العام إلى تشكيل حكومة ائتلافية بأغلبية غير بيضاء، ما مثل النهاية الرسمية لنظام الفصل العنصري.
كان السبب الأساسي الذي جعل دي كليرك ينهي السياسة العنصرية في البلاد، إدراكه أن العداء العرقي والعنف المتزايد سيقودان جنوب إفريقيا إلى حرب أهلية عرقية جديدة، لكن هذه المرة لن يكون بمقدور البيض الصمود أمامها، فتفاوض الرئيس مع الرجل الذي استحوذ على قلوب وعقول الجميع ـ مانديلا ـ على تفكيك الفصل العنصري بالكامل وداس عليه بالأقدام.
لجنة الحقيقة والمصالحة
أفرزت المفاوضات إنشاء آلية مبتكرة للمصالحة بتدشين لجنة الحقيقة والمصالحة عام 1995 وتشكلت من 17 مفوضًا، 9 رجال و8 نساء، وترأسها رئيس الأساقفة الأنجليكاني ديزموند توتو، وجرى دعم اللجنة بنحو 300 موظف مقسمين إلى ثلاث لجان، واحدة لانتهاكات حقوق الإنسان والثانية للعفو والأخيرة للتعويضات والتأهيل.
وضعت اللجنة هدفًا رئيسيًا لها بإنشاء سجل عام لسنوات الفصل العنصري وتدوين تجارب كل من الضحايا والجناة، وأحاطت جلساتها بتغطية جادة وشفافة من وسائل الإعلام، كما جلبت الصحف العالمية والراديو والتليفزيون خلال تحركاتها في منازل الضحايا والأماكن العامة لإثبات جدية الدولة في تصحيح الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، التي ارتكبت في ظل نظام الفصل العنصري البغيض.
اللافت في أداء لجنة المصالحة في نسختها الجنوب إفريقية تركيزها على كشف ما حدث في البلاد بين عامي 1960 و1994 بما في ذلك الجرائم السياسية ذات العنف الجماعي التي ارتكبها السود أيضًا، جنبًا إلى جنب مع الانتهاكات التي ارتكبها البيض نيابة عن الدولة.
بمحاسبة الجميع حققت اللجنة مصالحة مقبولة أخلاقيًا للكل، إذ يمثل الاعتراف بشكل كامل ودون تحفظ وبالهوية الحقيقية للمخططين والجناة من كل الأطراف إعادة الكرامة الإنسانية للضحايا، وهي البداية المطلوبة في التحول إلى المسار الصحيح للدولة.
عرضت لجنة الحقيقة والمصالحة عفوًا رسميًا عن الأفراد لكن بشروط محددة، أهمها مطالبة الجناة بالإدلاء باعترافات كاملة بجرائمهم والتأكيد على دوافعها السياسية وليس الشخصية، وبهذا أفلتت اللجنة من مسار محاكمات نورمبرغ التي انعقدت بعد الحرب العالمية الثانية.
كانت محاكمات نورمبرغ قد استهدفت الأعضاء البارزين في القيادة السياسية والعسكرية والقضائية والاقتصادية لألمانيا النازية وتوسعت لتشمل الذين خططوا أو نفذوا أو شاركوا بطريقة أخرى في الهولوكوست وجرائم الحرب الأخرى، ما وضع العالم أمام إشكاليات لم تنته بعد المحكمة، منها التشكيك في عدالة المنتصر، لهذا اقترحت لجنة جنوب إفريقيا مسارًا بديلًا يركز على قول الحقيقة وسماعها بدلًا من العقاب أو الانتقام.
كان طبيعيًا بعد هذه الإجراءات أن يفوز نيلسون مانديلا برئاسة البلاد، ليصبح أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا في أول انتخابات متعددة وممثلة لكل الأعراق، وتفوق مانديلا على الجميع بخطابه التسامحي الذي ركز على تفكيك إرث نظام الفصل العنصري بأسلوب علمي من خلال التصدي للعنصرية المؤسساتية والفقر وعدم المساواة.
عزز مانديلا المصالحة في بلاده بتقليص درجة المواجهة لأقصى درجة ممكنة، لدرجة أنه وعلى خلاف الكثير من النماذج العالمية التي توجهت مباشرة فور الثورات أو إجراءات ما بعد العنف والصدام لإقصاء النظام القديم والتنكيل برموزه، أشرك ممثلي الحكومة القديمة في الحكومة الجديدة، ليتوافق الجميع على أهمية سن برامج تعليمية للشباب لتوطين فلسفة التسامح ونبذ العنف والتمييز وعدم قبول الآخر.
ما قام به مانديلا ومن قبله لجنة الحقيقة والمصالحة، قدم للعالم تجربة مهمة لمجتمعات ما بعد الصراع، صحيح أنه من الصعب للغاية إنكار حقيقة الماضي، لكن إنشاء تاريخ جديد مشترك للجميع، يتطلب وضع الماضي القاسي جانبًا على منضدة المفاوضات.
والسعي إلى تحقيق مصالحة حقيقية على أسس شفافة وتسامحية تمهد للانتقال إلى دولة العدالة والديمقراطية كالتي صنعتها جنوب إفريقيا بعد عقود مريرة من البؤس العرقي، لكنها أصبحت فيما بعد مثال للتندر والحسد من شعوب القارة والعالم، حتى لو تخللها بعض الأخطاء والعثرات.