تعيش تونس أزمة متعددة ومختلفة الأبعاد في ظل حالة انسداد قنوات التواصل بين مؤسسات الدولة المتمثلة في الرئاسة والبرلمان والحكومة، إلا أن جوهرها يتمثل في بنية النظام السياسي غير المتوازن والهش الذي أنتج مشهدًا حزبيًا فسيفسائيًا غير متجانس تتحكم فيه قوى تقاطعت مصالحها ظرفيًا.
شهدت تونس بعد الثورة انفجارًا كميًا هائلًا في عدد الأحزاب، وصفه المتابعون بالأمر الصحي والطبيعي وهو نتاج عطالة سياسية تاريخية تسببت فيها الأنظمة الاستبدادية التي حكمت تونس منذ الاستقلال، فالنخب الجديدة حاولت إعادة بناء منظومة فعل سياسي تُشارك في تسيير الحياة العامة، إلا أن غياب التجانس فيما بينها جعل منها حجر عثرة أمام إنجاح المرحلة الانتقالية.
ففي تونس تُصنع الأحزاب على عجل، يصعد أحدها إلى الحكم مدفوعًا بتطورات الساحة السياسية والاجتماعية والاقتصادية (أزمات اغتيالات)، فيما ترتفع أسهم البعض الآخر بدعم من الجماعات الضاغطة من أصحاب المصالح والعائلات المتنفذة، وبالتالي فإن أغلبها تكون بصورة غير طبيعية ولم تكن وليدة حركة وديناميكية فكرية، بينما عجزت القوى الحزبية ذات الرؤى والتاريخ عن تدارك وضعها فتقهقرت إلى الوراء بعد أن فقدت نجاعتها وقدرتها على التطور.
الأحزاب النائمة
آخر الأرقام تُشير إلى أن عدد الأحزاب في تونس وصل إلى حدود 282 حزبًا مرخصًا لم يُعرف لأغلبهم أي نشاط يُذكر، فيما دفع الفشل في الاستحقاقات الانتخابية 2014 و2019 بعض الأحزاب الأخرى رغم امتلاكها لقواعد شعبية، إلى الاندثار والتفكك كالجبهة الشعبية والحزب الديمقراطي التقدمي والتكتل من أجل العمل والحريات والمؤتمر من أجل الجمهورية.
#تونس تحطم رقما عالميا في كيفية ترذيل وتتفيه الديمقراطية : 282 جزبا سياسيا بمعدل حزب واحد لكل أربعين ألف ساكن !!! العار له وجوه عدة !!!
— Mustapha Attia (@MustaphaAttia1) November 3, 2020
بعد سقوط النظام السابق في يناير 2011، فتحت تونس الأبواب على مصرعيها أمام النخب والمواطنين لتكوين أحزاب قصد التحول من النظام الواحد إلى آخر متعدد يضمن انتقالها الديمقراطي ويحافظ على مكتسباتها الثورية، ويمكن حصر الأحزاب بالبلاد في 4 عائلات فكرية وسياسية وهي: الليبرالية واليسارية والقومية العربية والإسلامية.
أغلب هذه الأحزاب لم تصمد طويلًا أمام المطبات والمنعرجات التي عرفتها التجربة التونسية طيلة العشرية الأخيرة المتمثلة في تأسيس الجمهورية الثانية والاغتيالات والحوار الوطني والتوافق والانتخابات التشريعية والرئاسية في 2014 و2019، إذ عانت الأحزاب الصغيرة الحديثة المنشأ والضعيفة التمثيل من عدم قدرتها على المحافظة على موقعها، وبالتالي عرفت سقوطًا سريعًا في حالة الانقسام والتفكك ثم الاندثار.
من جهة أخرى، فإن النظام السياسي وإكراهاته دفعت النواب نحو البحث عن إعادة التمركز من جديد بين المحطات الحزبية والانصهار في الكتل النيابية لتحقيق مآرب شخصية بالأساس والبروز كأحسن ما يكون في المشهد، الأمر الذي ساهم في تفكك أحزابهم الأم كحزب نداء تونس للرئيس الراحل الباجي قائد السبسي الذي تفرع منه أحزاب صغيرة أخرى كتحيا تونس وقلب تونس ومشروع تونس وأمل تونس.
الاستقالات حالت دون تمكن الأحزاب الصغيرة الساعية إلى تشكيل هوية جديدة من استمرارها، وذلك بالإضافة إلى افتقارها لآليات عمل وخطط إستراتيجية واضحة المعالم والأهداف على المدى المتوسط والبعيد، فضلًا عن عدم توافرها على هيكلة ثابتة والتمويل الضروري لاستدامة أنشطتها.
كما تُعاني الأحزاب المجمدة ذاتيًا أو النائمة، من أزمة هيكلية عميقة ومن عقم فكري يحول دون رجوعها إلى الساحة، وذلك لأنها لم تستوعب في خطابها وممارستها التحولات السوسيولوجية للمجتمع والأفراد والمتغيرات السياسية ومتطلبات المرحلة الملحة وهي بالأساس اقتصادية تنموية، كما أنها لم تعمل على إعادة البناء الداخلي وتقويم مواطن الخلل كما أنها لم تقم بقراءات نقدية ذاتية تُعدل من خلالها أخطاء الماضي وتبني إستراتيجية جديدة بطرق وميكانيزمات تساير المتغيرات.
التفكك والانصهار
من الطبيعي أن تنشأ الأزمات داخل الأحزاب السياسية وهي ضرورية من أجل صيرورتها واستدامتها، إذ يُشكل الاختلاف شرطًا لتحقق العملية الديمقراطية في داخلها، إلا أن الصراعات على الزعامة والتحكم من أجل تحقيق المصالح الزبونية والولاءات هي السوس الذي ينخر جسد الأحزاب ويمهد لتفككها.
فأغلب الأحزاب تُعاني من ضعف منسوب الديمقراطية داخلها ومن استئثار قياداتها بالقرارات المصيرية ووضع الخطوط العامة، ما يؤجج الصراعات ويسرع الانشقاقات، وبالتالي فإن الإشكال الحقيقي لا يكمن في اختلاف الرؤى والقراءات بقدر ما هو تنافس على الامتيازات.
هذا الواقع أنتج ما يُسمى بعملية الإفراغ والسياحة الحزبية (ميركاتو سياسي)، إذ تنتقل بعض القيادات من كتلة حزبية إلى أخرى بحثًا عن إعادة التموقع وتحقيق المصالح الذاتية دون النظر للحزب كمنظومة وجبت رعايتها وتمتينها، وأفرز برلمانًا غير متجانس عمق الأزمة الحاليّة ودفع الأحزاب إلى البحث عن الجدوى السياسية من خلال البحث عن طرق لإعادة الانصهار.
وفي ظل حالة الاستقطاب الثنائي التي تعيشها تونس بين حزبي حركة النهضة الأكثر تماسكًا ووريث التجمع الحزب الحر الدستوري بقيادة عبير موسي، فإن عملية انصهار الأحزاب الأخرى أصبحت أكثر تعقيدًا خاصة بالنسبة للأحزاب التي تُقدم نفسها على أنها امتداد لمشروع الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، فالدستوري الحر ابتلع تقريبًا القاعدة الشعبية لنداء تونس وللقوى اليسارية التي غادرت المشهد السياسي بخسارتها الانتخابات الماضية، واستغل الفراغ الكبير في المشهد ليشد عودة بأدوات نداء وشعارات مناهضة لحركة النهضة.
المنظومة الحزبية والشعبوية
تتالي الحكومات والأزمات وتشتت المشهد البرلماني، ينذر بدخول البلاد في حالة من عدم الاستقرار المزمن، وبهبوب رياح الشعبوية وصعود نجمها بقيادة الرئيس قيس سعيد الذي يعمل على استغلال الخواء والصراع لترذيل العملية السياسية تمهيدًا لمشروعه حيث اقترح حوارًا مع الشباب بديلًا لمبادرة اتحاد الشغل للحوار الوطني بين الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني للخروج من الأزمة.
ويبدو أن عجز النخبة التي صعدت إلى الحكم بعد الثورة عن ترتيب الأولويات واقتصار فعلها على الجانب السياسي دون غيره من القطاعات الحيوية والحساسة كالاقتصاد والتنمية، وعدم قدرتها على التفاعل مع الاستحقاقات بجدية، فتح الطريق أمام طرح الشعبوية ما يعني أن المنظومة السياسية باتت تحت خطر الإضعاف وفرضيات النسف.
فالشعبوية التي تعمل على الحد من قدرة الهياكل التنظيمية المنتخبة ديمقراطيًا كالبرلمان والهيئات الدستورية وإضعاف مصداقيتها بضرب ثقة الناس فيها، تستند إلى قدرتها على التواصل المباشر مع الجمهور دون حواجز ودون الحاجة إلى حزب أو وسيلة إعلام رسمية.
وأمام هذا الخطر، فإن الأحزاب التونسية بحاجة إلى إرساء أرضية لتوافقات الحد الأدنى والأهم من ذلك إلى إجراء مراجعة في المنظومة الانتخابية وتعديل قانون الاقتراع والعتبة من أجل الحد من التشتت السياسي، وتعديل قانون الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عدد 23 لسنة 2012 وقانون تقسيم الدوائر الانتخابية ونظام الأحزاب، وكذلك منع السياحة الحزبية لجعل المشهد السياسي أكثر أخلاقية، وإنهاء الظاهرة التي أثرت على استقرار الكتل البرلمانية وتماسك الأحزاب، وساهمت في تشويه صورة النواب الرحالة.
بالنهاية، يبدو أن تحديات الانتقال الديمقراطي والتجارب الضيقة في عهدي بورقيبة وبن علي وضعت الأحزاب السياسية بعد الثورة أمام معضلات فكرية وسياسية وأخلاقية كبيرة، فتعاملت مع الواقع المستجد بعقلية تقليدية، ما جعلها غير قادرة على مواجهة استحقاقات المرحلة ومتطلباتها، لذلك فشلت الكثير من الأحزاب رغم صعودها المدوي في البقاء والتواصل.