أثار قرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الصادر يوم السبت الماضي، 20 من مارس/آذار الحاليّ، والمنشور في الجريدة الرسمية للبلاد، بخصوص الانسحاب من إحدى الاتفاقيات الدولية والمعروفة باسم “اتفاقية إسطنبول” جدلًا واسعًا لا تزال أصداؤه ممتدةً حتى الآن.
فقد خرجت مظاهرات تضم عشرات النساء اعتراضًا على القرار، بالتزامن مع تصريحات رسمية دولية، على رأسها تصريحات الرئيس الأمريكي چو بايدن، تدلي بمواقف ناقدة حيال القرار التركي.
في هذا التقرير، نحاول تسليط الضوء على حيثيات هذا القرار، ومضمون الاتفاقية التي انسحبت منها تركيا رسميًا، وجذور الأزمة، وعلاقتها بالمستوى الثقافي والسياسي، ومستقبل موضوعها كما يراه الخبراء.
حماية النساء ولكن
تعد اتفاقية إسطنبول أول وأبرز إطار أوروبي يهدف إلى توفير الحماية وتقديم الدعم على أساس “النوع الاجتماعي”، أو كما تعرف رسميًا بـ”اتفاقية المجلس الأوروبي للحد من العنف المنزلي والعنف ضد النساء ورفع الحماية عن المعتدين”.
إلى جانب التوسع في الاستثمار بتعليم الفتيات، وإجراء بحوث تحليل بيانات بخصوص طبيعة الجرائم الموجهة ضدهن، وتوفير مظلات دعم للناجيات منهن، فإن الاتفاقية عملت على تضمين شتى أنواع الإساءة إليهن كجرائم بدايةً من الختان وتشويه الأعضاء التناسلية إلى الزواج القسري والاغتصاب الزواجي والعنف الجنسي والنفسي.
وتوفر الاتفاقية التي ظهرت إلى النور رسميًا عام 2011 من مدينة إسطنبول التركية الحماية إلى النساء فيما لا يقل عن 30 دولة أوروبية، إلى جانب حماية النساء اللاتي فررن إلى البلاد الأوروبية الموقعة على الاتفاقية، بغض النظر عن وضعهن القانوني.
وفي الطريق إلى توفير الحماية للنساء، توسعت الاتفاقية فيما يمكن تسميته بالحقوق الليبرالية العالمية، كالحق في العبور الجنسي واختيار الشريك حتى لو كان من نفس النوع الاجتماعي ضمن عدة بنود فضفاضة منها البند الثالث من المادة الرابعة التي تنص على “تأمين تفعيل بنود هذه الاتفاقية من الأطراف الموقعة عليها، وخاصةً من خلال التدابير الهادفة إلى حماية حقوق الضحايا، دون أي تمييز، خاصةً التمييز القائم على الجنس والنوع والعرق واللون والدين والآراء السياسية وغيرها من الآراء”.
من التصديق إلى الانسحاب
وقعت تركيا رسميًا على الاتفاقية التي تحمل اسم أبرز مدنها في الـ11 من مايو/أيار 2011، وصادقت عليها عبر مجلس الوزراء في نفس اليوم من فبراير/شباط 2012، إذ يعد التصديق على الاتفاقية من أحد المجالس النيابية أو ما يدخل في عرفها شرطًا لسريانها.
لكن، رغم أن تركيا انسحبت منها مؤخرًا، فقد نشأ جدلٌ بشأن الاتفاقية ومدى الحاجة إليها خلال الأعوام الأخيرة، وبالأخص العام الماضي، أغسطس/آب 2020، عندما طرح حزب العدالة والتنمية مسألة الجدوى منها، في ظل تقاطعها مع قوانين محلية مشابهة، وإساءة توظيف الاتفاقية لأغراض تضر بتماسك المجتمع والأسرة التركية.
خلال الفترة التي تلت إثارة السؤال عن الجدوى من الاتفاقية ومدى ملاءمتها للأوضاع المحلية في تركيا من عدمه، شكل حزب العدالة والتنمية لجنةً لتقييم الاتفاقية والوضع السياسي العام في البلاد والوضع العام في المجلس الأوروبي
وبحلول الـ17 من مارس/آذار الحاليّ، وبحسب مصادر صحفية برلمانية من الداخل التركي، فقد أفصح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى أعضاء اللجنة المركزية في حزب العدالة والتنمية الحاكم عن رغبته في انسحاب بلاده من الاتفاقية، كما فعلت كرواتيا والمجر وبلغاريا من قبل بسبب إساءة استغلال الاتفاقية من جانب المثليين.
وتنص المادة 80 من الاتفاقية على أن أي دولة موقعة على الاتفاقية، يحق لها الانسحاب منها من خلال إخطار المجلس الأوروبي الذي يرعى الاتفاقية، وإلى جانب هذا الحق، فقد قررت دول أوروبية أخرى عدم التوقيع عليها من البداية مثل أذربيجان وروسيا، وأوصت هيئات قضائية محلية لبعض الدول مثل بولندا بالانسحاب منها.
خلال الفترة التي تلت إثارة السؤال عن الجدوى من الاتفاقية ومدى ملاءمتها للأوضاع المحلية في تركيا من عدمه، شكل حزب العدالة والتنمية لجنةً لتقييم الاتفاقية والوضع السياسي العام في البلاد والوضع العام في المجلس الأوروبي، وقد خلصت اللجنة كما يبدو من قرار الانسحاب الأخير، مع وجود إرادة سياسية عليا لذلك، إلى ضرورة الخروج من الاتفاقية في الوقت الحاليّ، إذ صرحت فاطمة بيتول سايان كايا نائبة رئيس الحزب بأنه: “لم تعد هناك حاجة إلى الاتفاقية، الحزب لا يتسامح مع العنف”.
رافضو الانسحاب
انتفض التيار الليبرالي وخصوم العدالة والتنمية، في تركيا ضد الانسحاب من الاتفاقية، وتنوعت أسبابهم بين من يرى أن البلاد تعيش منذ مدة أزمةً حقيقية في العنف ضد النساء وأن الخروج من هذه الاتفاقية سيمنح المعتدين رسالةً ضمنيةً برفع الحماية عنهن.
فيما رأى آخرون أنه إلى جانب حماية النساء من العنف، فإن أنماط العلاقات التي تجيزها الاتفاقية ضمنًا، كالعلاقات الجنسية المثلية والعبور الجنسي من ذكر إلى أنثى والعكس، تدخل ضمن مساحة الحريات الشخصية والمكتسبات التي يجب الحفاظ عليها بالعدول عن قرار الانسحاب.
وفسر تيارٌ ثالث بنود الاتفاقية بأنها تقتصر على حماية النساء ولا تركز على العلاقات المثلية، وأنه ليس من المنطق أن تحرم النساء من شتى أنواع الدعم والحماية التي حصلت عليها بموجب الاتفاقية من أجل بعض التأويلات والتجاوزات التي تنتج عن الثغرات القانونية الموجودة في أي نص.
فقال المتحدث باسم الأمين العام لمجلس أوروبا – الجهة الأوروبية المنوطة بالاتفاقية – دانيال هولتغين: “لقد شرحنا دومًا أن لهذا الاتفاق مهمة واحدة، هي الحد من العنف ضد المرأة والعنف الأسري وليس له أي أجندة أخرى، والقول بأن هذا الاتفاق يروج لزواج المثليين كما تقول الحكومات ليس صحيحًا”.
وقد خرجت مظاهرات يغلب عليها الحضور النسوي الليبرالي تقدر أعدادها بالمئات في منطقة كاديكوي في إسطنبول تندد بالخروج وتطالب بالعودة إلى الاتفاقية، وقال حزب الشعب الجمهوري إنه ينوي تقديم طعن على قرار الانسحاب أمام المحكمة العليا بسبب مخالفة القرار للمادة 90 من الدستور، التي تنص على أن حقوق الإنسان في تركيا محميةٌ بمجموعة من القوانين الدولية لها الأسبقية على التشريعات المحلية.
ودعا رئيس حزب الشعب الجمهوري المجلسَ التنفيذي للحزب إلى اجتماع عاجل بعد القرار، وأبرز أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول مثالب القرار، فقال إن صدور قرار كهذا، بينما نبلغ كل يوم باعتداء جديد على النساء، أمرٌ مرير يتجاهل نضال سنوات كثيرة مضت، وهو نفس المضمون الذي صرحت به جوكوتشي كوكجن نائبة رئيس حزب الشعب، عندما قالت إن الانسحاب يعني إبقاء النساء مواطنات من الدرجة الثانية والتسامح إيذاء قتلهن.
تكتلٌ مضاد
في المقابل من الاتفاق الذي ساد صفوف المعارضة، وبالأخص حزب الشعب الجمهوري، ضد قرار الرئيس التركي بالانسحاب من الاتفاقية الأوروبية، بدا أن إجماعًا مضادًا تشكل داخل أروقة حزب العدالة والتنمية خلف قرار الرئيس أردوغان.
من المقرر أن تطرح الحكومة التركية اتفاقية جديدة تسمى اتفاقية أنقرة بدلًا من اتفاقية إسطنبول تضم نصوصًا جديدةً غير فضفاضة وإجراءات تعزيزية لحماية المرأة
وعلى نفس النسق الذي بات معهودًا عن العدالة والتنمية من الإقرار بأن هناك قرارات وأمور كانت مفروضةً عليهم في سياق ما ثم تهيأت الظروف لتغييرها، قال نعمان قرتولمش نائب رئيس حزب الحزب إن التوقيع على الاتفاقية كان خطأً منذ البداية.
والسبب بحسب قرتولمش، هو أن الاتفاقية تتعارض مع معايير الدولة التركية من جهة، ولقضية الميول الجنسية من جهة أخرى، إذ “توجد مشكلات أخرى في الاتفاقية، لكن النصين الخاصين بالنوع الاجتماعي والميول الجنسية يعطيان مساحة من الحرية للتلاعب بهما من قبل “مجتمع الميم”” على حد قوله.
وعلى نفس النحو، قالت دائرة الاتصال بالرئاسة التركية ما معناه إن الاتفاقية جرى تجريب تطبيقها لمدة طويلة تناهز العقد، وقد تم خلال هذه المدة التلاعب بالاتفاقية التي يفترض أن تحمي المرأة من بعض الشرائح لتطبيع المثلية، وهو ما لا ينسجم مع القيم التركية.
ووفقًا لبيان دائرة الاتصال ومحللين وصحفيين مقربين من العدالة والتنمية، فإن القرار الذي اتخذ بالخروج من اتفاقية إسطنبول لا رجعةَ فيه، لكن الدولة، كما قال الرئيس التركي ووزير الداخلية، مقبلةٌ على إصلاحات دستورية وقضائية ومالية، ستمتد إلى مزيد من الإجراءات لحماية المرأة والحفاظ على معايير الانضمام للاتحاد الأوروبي، دون الإضرار بالنسيج الاجتماعي للبلاد.
فؤاد أقطاي نائب الرئيس التركي، لخص هذا الموقف في تغريدة له على موقع “تويتر” قال فيها إن الحفاظ على النسيج الاجتماعي التقليدي في تركيا هو من سيحمي المرأة التركية، ولهذا الأمر فإنه ليس هناك حاجةٌ إلى البحث عن العلاج في الخارج أو تقليد الآخرين، وهو نفس المضمون الذي عكسته زهرة زمرد وزيرة الأسرة والشؤون الاجتماعية عندما قالت إن القواعد الحاليّة في الأنظمة الداخلية تضمن حقوق المرأة، والنظام القضائي المحلي قوي ومرن بما فيه الكفاية للاضطلاع بذلك.
ويأتي الشروع في إعادة النظر بقرارات انفتاحية وإجراءات سابقة، وإحلالها بإجراءات بديلة أكثر ميلًا للمحافظة من جانب حزب العدالة والتنمية في الوقت الحاليّ، ضمن السباق الانتخابي على استقطاب الأصوات المتدينة بمدة كافية قبل الانتخابات العامة والرئاسية المقررة بعد أقل من عامين، حيث تستغرق مراجعة أي قرار، على نحو الانسحاب من الاتفاقية الأوروبية مدةً طويلة، كما يؤكد مراسلون حزبيون.
ومن المقرر أن تطرح الحكومة التركية اتفاقية جديدة تسمى “اتفاقية أنقرة” بدلًا من “اتفاقية إسطنبول” تضم نصوصًا جديدة غير فضفاضة وإجراءات تعزيزية لحماية المرأة، إلى جانب ما حققته البلاد بالفعل من تسهيل الوصول إلى الدعم القانوني والحمائي عبر تطبيقات إلكترونية حققت مئات الآلآف من التحميلات مثل تطبيق “KADES” الذي جرى تحميله أكثر من مليوني ونصف المليون مرة، على حد توثيق سليمان صويلو وزير الداخلية.