يعد الاستقلال العاطفي أو النفسي للإنسان المرتكز الأساسي للحفاظ على شخصية متوازنة قوية قادرة على مواصلة النجاح والإنجاز وتجاوز الأزمات، بل وتحويلها إلى دافع قوي لحياة أفضل.
الاستقلال العاطفي بمفهومه البسيط يعني أن يمتلك الإنسان في نفسه كيانًا مستقلًا يمنحه الشعور بالأمان والرضا، ويكون نابعًا من ذاته وليس من مصدر خارجي مهما بلغ من الأهمية.
ما أهمية الاستقلال العاطفي للمرأة؟
الاستقلال العاطفي أمر إيجابي جدًا ومهم جدًا وتم تشويهه بشكل كبير، فالمرأة عندما تكون معتمدةً عاطفيًا على الشريك مثلًا يسهل كسرها فيما لو قرر أن يقلل دعمه لها، أو لو فتر الحب وقل التعبير، أو لو تم الانفصال بأي شكل من أشكاله كالطلاق والموت والمرض، وتكون أعظم حالات الانكسار الذي يصل أحيانًا إلى فقدان الرغبة في الحياة عند الخيانة.
لهذا فعندما تعتمد المرأة على مصدر واحد للإشباع العاطفي لتشعر بالحب والأهمية منه فإنها تعرض نفسها لأن تكون هشةً وقابلةً للكسر فيما لو تغير هذا المصدر عليها أو غاب عنها.
ينطبق الأمر تمامًا على الأولاد، فأغلب الأمهات يعتمدن عاطفيًا على أولادهن بل ويعتبرن مبادلتهن الحب والعطاء بعد أن يكبروا أمرًا مسلمًا به، ومن هنا تبدأ الصدمات والصدامات، وهذا ما يجب الحذر منه، فنحن لا ندري ما ستكون عليه قلوب أولادنا عندما يكبرون، وما قدمناه لهم لا يعدو أن يكون ماءً وبذورًا لتربة لا نتحكم نحن في مكوناتها ولا سيطرة لنا عليها، ومن هنا تأتي أهمية أن يكون الأهل مستقلين عاطفيًا عن أولادهم، مع الاستمرار في أداء ما يتوجب عليهم طبعًا.
بذات الأهمية أيضًا على الأهل أن يساعدوا الأولاد على الاستقلال العاطفي عنهم كبداية لاستقلالهم بشكل عام، وذلك بدعم ثقتهم بأنفسهم أولًا، ومنحهم الكثير من الفرص والتجارب والخبرات والعلاقات التي تساعدهم وتدعم استقلالهم النفسي والعاطفي.
أين المرأة العربية من الاستقلال العاطفي عن الزوج؟
بشكل عام لا تتمتع أغلب النساء العربيات بالاستقلال العاطفي، ويعود ذلك إلى عدة أسباب منها:
أولًا: الإعداد الخاطئ للأنثى الذي يبدأ بالإيحاء لها منذ نعومة أظفارها أن السعادة تكمن في الزواج والحب وأن هذا ما عليها أن تسعى لأجله أولًا، وذلك عبر:
1. قصص الأميرات التي تصور لنا الحياة على أنها صراع للوصول إلى الزواج وحفل الزفاف، فلا ترى الصغيرات حلمًا آخر لهن عبر الشخصيات القصصية التي من المفترض أن تكون قدوةً لهن.
2. أحاديث النساء والدعوات التي تنالها الفتيات أولًا في كل مناسبة وكل لقاء نسائي بأن تكون عروسًا ولا شيء آخر مهم.
3. جهاز العروس الذي تبدأ الأسر بإعداده منذ ولادة الفتاة، وهو أمر ما زال موجودًا حتى اللحظة في بعض المجتمعات العربية وهي ليست بقليلة كما قد نتخيل، وهو يوحي ويصرف طاقات الفتيات وأحلامهن نحو هذا الجهاز والوقت الذي ستتمكن فيه من استخدام مقتنياته لتحصل على السعادة الموعودة.
4. السخرية من العنوسة وإطلاق الألقاب المؤلمة والصفات الشريرة والقاسية على من فاتها سن الزواج، وبالتالي تخويف الفتيات من هذا المصير.
5. الإساءة للمطلقات ولسمعة المرأة الوحيدة بشكل عام من المجتمع، دون ضوابط ودون أدلة ودون ورع، ولا أعتقد أن هناك من ينكر ما يحصل وما يقال بحقهن.
ثانيًا: تربية المرأة على التضحية ونكران الذات، ويتطور الأمر عادةً إلى أن تصبح المرأة التي تنسى نفسها هي القدوة والنموذج الذي تقارن به كل من اتخذت غير هذه الوجهة وبشكل سلبي طبعًا، وتبرمج النساء في مجتمعاتنا على أن تنسى أهدافها ومواهبها وشغفها وحتى سعادتها وجمالها وقوامها، لتصبح آلة للخدمة دون روح ودون مشاعر ودون أنثى ودون إنسان بالتأكيد.
فنجد أنه من الشائع في مجتمعاتنا أن توصف المرأة العاملة بالمقصرة، بل ويقر بعضهم ومنهم دعاة إسلاميون على وجوب أن تدفع نصف راتبها كون الرجل يتحمل تقصيرها في العمل المنزلي، وهذا مخالفة صريحة للشريعة الإسلامية التي لا توجب على المرأة الإنفاق مهما كانت غنية، ولا تعتبر العمل المنزلي واجبًا على المرأة بل تفضلًا وكرمًا منها.
المرأة العاملة في أغلب الأحيان تحمل عبء العمل المنزلي وحيدة إضافة لعملها خارج المنزل، بل وتساهم في مصروف المنزل بشكل مباشر في أغلب الأحيان
وهذا ما اعتدت أن أنوه له دائمًا من أن هؤلاء لا يجدون بأسًا في تغيير الأحكام الشرعية الصريحة لتحقيق مصالح ذكورية، ولي رأي عن أسبابها يحتاج لمادة خاصة.
ولو تركنا المجتمع وتوجهنا نحو الواقع لوجدنا أن المرأة العاملة في أغلب الأحيان تحمل عبء العمل المنزلي وحيدة إضافة لعملها خارج المنزل، بل وتساهم في مصروف المنزل بشكل مباشر في أغلب الأحيان، وغير مباشر في بعضها فقط، بينما يستمتع الرجل بهذه المساعدة وهو يردد الاتهامات التي يلقيها له مجتمعه على مسامعها بتقصيرها فيما استوجبوه عليها ظلمًا لتشعر بالذنب وتقدم أموالها طواعية، ما يشكل عبئًا آخر أيضًا.
هذا ما يحصل للمرأة التي تقرر العمل فتخوض كل هذه المعارك، وهي هنا قد لا تعدو أن تكون موظفة، فما الذي من الممكن أن تعانيه امرأة قررت أن تتبع شغفها أو موهبتها أو أن تدخل أوساطًا هي في الغالب من المحرمات عليها بأوامر مجتمعية غير معلنة، كأن تكون سياسية أو كاتبة أو تاجرة أو قبطان سفينة أو طيار مثلًا.
ثالثًا: تخلي معظم النساء عن علاقاتهن وصداقاتهن طوعًا أو بإيحاء أو طلب مباشر من الزوج بادعاء أن له عليها حق الطاعة وأن وقتها ملك له، وهو نوع من العادات التي ما زالت موجودة في بلادنا بقوة، فيتم حجب المرأة عن المجتمع حولها بحجج كثيرة اعتقادًا ممن يفعل أنها بهذا ستكون أكثر تقبلًا ورضا للحياة مهما قلت جودتها، وأنهم بإغلاق النوافذ سيحتفظون بالمرأة بعيدًا عن النكد الذي يجلبه الجدال والمقارنة والاطلاع على ما لدى الآخرين من أفكار ومحاسن، والأهم أن تبقى بعيدة عن التوعية التي من الممكن أن تنالها فيما لو قررت أن تبوح وتشتكي.
رابعًا: صعوبة الطلاق وما بعده، وأقول ما بعده لأن هذا غالبًا ما يخيف المرأة من الطلاق عندما تكون في علاقة سامة ومؤذية، فسوف تتحمل المرأة العبء المادي لحياتها وحياة أطفالها وسط مجتمع وقوانين لا تنصفها، ثم تتحمل ما يجود به الزوج من أذى واتهامات لا تتوقف في معظم الحالات، وتتحمل أيضًا نظرة المجتمع لها وكأنها الأنثى السيئة والفاشلة والمخيفة.
وهذا الأمر تحديدًا يجعلنا نرى ارتفاعًا في أرقام الإحصاءات التي تخبرنا عن ارتفاع نسبة الفتيات الرافضات للزواج والارتباط بشكل نهائي، وهو ما لا تتوقف الأوساط المهتمة بالأسرة عن التحذير منه دون أن تجد له حلًا شافيًا.
متى يتحقق الاستقلال العاطفي إذن؟
يتحقق الاستقلال العاطفي عندما يمتلك الإنسان رؤية واضحة وصحيحة لحياته ووعي كامل لما يريد تحقيقه فيها على كل المستويات والأصعدة.
ويتحقق عندما لا يعتمد الإنسان في إشباع عاطفته على مصدر واحد (الزوج أو الزوجة أو الأولاد وحتى الأهل والأصدقاء) بل تنويع المصادر التي يستمد منها قوته وثقته بنفسه وقدراته ويستمد منها شعوره بالأهمية والقبول والحب.
وعندما يدرك أن له أدوارًا كثيرة في هذه الحياة لا يجب أن يتناساها، فهو عبد لله أولًا وعليه واجبات تحددها هذه العبودية، وهو أخ أيضًا وابن وزوج وصديق وقريب وزميل ومبدع في مجال ما وموهوب في مجال آخر، وهو فرد من مجتمع له عليه حقوق لا يمكن التغافل عنها.
فإن أحسن المرء التصور والتخطيط ورأى الطريق امتلك مرونةً عظيمةً وقدرةً كبيرةً على تجاوز الأزمات والصعوبات، وصمودًا ومثابرةً لتحقيق وإنجاز الأهداف والعيش بسعادة مهما عاندته الحياة.
ما الخطوات نحو استقلال عاطفي واعٍ وحقيقي للمرأة؟
بداية علينا إدراك أن الوصول إلى الاستقلال العاطفي أمر ممكن لكنه يحتاج منا إلى بذل الوقت للتعلم والوعي أولًا، ومن ثم التدريب وتطوير أنفسنا، وعلاج ما ترسب في مشاعرنا من أمراض سببتها التربية والمجتمع المحيط، وأن ندرك أن السلام النفسي والصلابة والسعادة الناتجة عنه تستحق الكثير.
لا يكفي أن نعتمد على أنفسنا في تأمين الاحتياجات وأداء المهام لنمتلك الصلابة والسعادة، بل أن نعتمد عليها أيضًا في منحنا الثقة والشعور بالأهمية
من هذه الخطوات:
– الوعي أولًا والوعي على الأصعدة كافة ومنه أن تعي المرأة جيدًا حقوقها وواجباتها ودورها الحقيقي من مصادر غير منحازة وموضوعية.
– أن تدرك جيدًا أن لها حياة مستقلة يجب أن تعيشها بشكل مستقل فلا تشرك المحيطين بها، بل تعتبرهم إضافة لهذه الحياة التي تعيش لها أولًا، وتحقق من خلالها ذاتها وأحلامها، وتترك بها بصمتها لهذا العالم، وأن تعي أن هذا ليس أنانية أو تقصيرًا أبدًا كما يوحي لنا مجتمع التقاليد.
– أن تعرف أن الاستقلال العاطفي ليس خللًا في علاقتها بالشريك أو الأولاد أو الأسرة، بل الأمر الطبيعي الذي تم تحريفه، وأننا عندما نكون مستقلات عاطفيًا فهذا لا يعني البرود في المشاعر والاستغناء بل يعني أننا نعرف أولويات حياتنا جيدًا، وأننا نستطيع أن نقدم ونعطي دون أن ننتظر المقابل، لأننا لم ننس أنفسنا ولم نضح بها من أجل مقابل من الآخرين، بل كنا واعين عادلين في كل وقت ونحن مشبعات تمامًا.
– أن تتوقف المرأة عن العناية بالآخرين والقيام عنهم بمسؤولياتهم لتشعر بأهميتها وحاجتهم لها، وهذا هو الخطأ الأكبر الذي تقع فيه الأمهات والآباء خلال مشوار التربية، فالطفل الذي اعتاد عدم حمل المسؤولية والراحة والتواكل لن يرد لهم الجميل يومًا.
– أن تبدأ بالفعل بالتعود على العناية بنفسها والبحث عما يسعدها، وتوجه عاطفتها نحوها هي، فتعتني بنفسها على المستويات كافة، ولا تهمل جمالها وأنوثتها وأناقتها وقوامها وصحتها ولياقتها وقوتها وأعصابها.
– أن يكون لها كيانها الخاص وعلاقاتها واهتماماتها المتعددة خارج إطار الحياة الزوجية والأسرية.
– أن تعتاد مكافأة نفسها بنفسها دون انتظار كلمات الشكر أو الحضن أو نظرات الإعجاب والامتنان من أحد، فتقوم بنزهة أو زيارة أو تتسوق شيئًا يسعدها.
– أن تدرك أن الاستقلال المادي هو الخطوة الأولى نحو الاستقلال العاطفي، وهذا لا يعني أن تملك راتبًا يلبي احتياجاتها فقط، بل أن تدخر وتستثمر وتتعلم ما يهمها وينفعها من هذا العلم، ثم تبدأ بمشروعها الحلم.
وأخيرًا يجدر بالنساء الوعي بأنه لا يكفي أن نعتمد على أنفسنا في تأمين الاحتياجات وأداء المهام لنمتلك الصلابة والسعادة، بل أن نعتمد عليها أيضًا في منحنا الثقة والشعور بالأهمية، وأن نسعد أنفسنا بأنفسنا.