بعد الحرب التي شنها النظام ضد الشعب السوري، عقب اندلاع الثورة السورية عام 2011 اضطر مئات الآلاف من السوريين على مدى عشر سنوات للهجرة والارتحال بعيدًا عن أرضهم وكل ما يشبههم، تفرقوا في أرجاء المعمورة، فمنهم من سكن مدنًا تجاور بلادهم وتتحدث بلسانها، ومنهم من اختلف عليه اللسان لكنه جاور قومًا يدينون بدينه، وآخرون ساقتهم الأقدار بعيدًا عن اللغة والثقافة والدين والجغرافيا.
قوافل البشر الباحثة عن الأمان في بلاد اللجوء، صدمت بالفوارق الثقافية والاجتماعية فضلًا عن الآثار التي خلفتها الحرب في نفوسهم، عانى مجتمع اللاجئين والمجتمع المستضيف من أزمات اندماج وتفاعل إيجابي بين الفريقين، إذ ينجح الوافد والمواطن أحيانًا في تقبل اختلافاتهم وتنفجر عناوين الصحف بأزمات اللاجئين والمواقف العنصرية أحيانًا أخرى، إما بفعل الاختلاف البشري الطبيعي وإما بفعل استغلال الأحزاب السياسية لهذه الاختلافات.
لم تكن موجة اللجوء السورية هي الاختبار الوحيد لمدى تقبل البشر للاختلافات فيما بينهم ولن تكون الأخيرة، لكنها كانت الأبرز في العقد الماضي وستبقى آثارها وعلاماتها حتى وقت طويل.
أحاول في هذا التقرير مناقشة أهمية التنوع الثقافي في حياة الأطفال وآليات إثراء حياتهم الثقافية وتأثير ذلك على المجتمع مستقبلًا وعلى تكوينهم الشخصي والمعرفي.
الأثر الإيجابي للتنوع الثقافي
عندما يكون التنوع الثقافي جزءًا من طفولة أولادنا فنحن نربي جيلًا أكثر قدرةً على مواجهة التمييز والعنصرية، فيكون لدى الأطفال قابلية أكبر للتفاعل والتواصل الإيجابي مع الثقافات الأخرى، ونكون أكثر قدرة على التعلم من بعضنا بدلًا من الازدراء ونظرات الكراهية، ويعطينا القدرة على مقاومة حملات الكراهية والتطرف.
وعلى صعيد بناء الشخصية يصبح الطفل أبعد نظرًا وأعمق فكرًا، فكثرة الاطلاع تفيد في توسيع الأفق ورفع مستوى الإدراك، وربما بسبب طريقة التنشئة ومناهج التعليم فنحن نرى مجتمعًا ما يبدو ناجحًا في التعامل مع اللاجئين على الرغم من الاختلاف الجذري بين ثقافة المجتمع المضيف والمجتمع القادم، لأن تقبل المختلف ثقافيًا هي الثقافة السائدة في المدارس والمنازل والأماكن العامة ومؤسسات الدولة، بينما قد نجد هذه المجتمعات أقل تقبلًا للممارسات والشعائر الدينية الإسلامية منها خاصة، ويعود ذلك للدور السلبي للإعلام في عرض هذا الدين على المجتمع المحلي.
إن التربية الثقافية الناضجة تحمي أطفالنا في شبابهم من التأثر بالدعايات السياسية وحملات التحريض والعنف الموجهة، قد يكون من السهل تحريض الأشخاص ضد شعب أو مجتمع ما، إن كانت معلوماتهم أصلًا ضئيلة عن هذا الشعب، لكن من الصعب أن يخضعوا للتوجيه بسهولة عندما يكونون على دراية بلغة هذه الشعوب أو تذوقوا طعامهم أو قرأوا تاريخهم أو التقوا بأصدقاء منهم أو جيران ربما!
خطوات عملية لطفولة ثرية ثقافيًا
– تحدث مع أطفالك عن الطرق التي تستخدمها مختلف الشعوب لمعالجة المشاكل المحيطة بهم ووسائل تأقلمهم مع البيئة التي يعيشون فيها، وكيف يؤثر المناخ على العادات والتقاليد.
– حتى يتمكن الأطفال من احترام وتقدير الثقافات الأخرى، يجب أن يكونوا أولًا مدركين لثقافتهم الأم، فخورين بهويتهم وحضارتهم ولغتهم وقادرين على نشرها في الأوساط التي يتحركون بها، دردش واستكشف مع أطفالك الأشياء التي تختلف فيها عائلتكم عن عائلات أخرى، وذلك حتى يكون انسجامهم في البيئات المختلفة ثقافيًا آمنًا، ولا تتزعزع ثقتهم بأنفسهم.
– زيارة المراكز الثقافية وحضور المهرجانات والفعاليات الثقافية.
– يكتسب الأطفال الكثير من الفوائد المعرفية والثقافية عند تعلم لغة جديدة، بما في ذلك تحسين مهارات حل المشكلات والإبداع والتواصل، إضافة لتعزيز التفكير الناقد والتحليل، لكن أيضًا وربما الأهم من هذا كله فإن اللغة الجديدة تفتح بابًا واسعًا نحو ثقافة جديدة ومجتمع جديد بكل ما فيه من إرث ثقافي وحضاري وعلمي. تقول جوزيت هندريكس، مؤسسة ومديرة مركز نورث ويست للغات والثقافة: “تعلم لغة جديدة يشبه فتح الباب أمام تصور وفهم مختلفين للكون”.
– إن تعليم الأطفال النظر لثقافات العالم باحترام وتقدير وإظهار روعة التنوع بأمثلة عملية، سيظهر عالمنا واسعًا وغنيًا بالحكايات والأغاني والمطبخ والفنون وغير ذلك الكثير.
– يتأثر الأطفال كثيرًا بالرسائل التي تصلهم من البالغين حولهم، بخصوص الأفراد والمجتمعات المختلفة، يشير البحث الذي أعده مركز الحوار السوري عام 2021 للدرجة التي يتأثر بها الأطفال بما يسمعونه من البالغين المحيطين بهم “أشار أحد الناشطين الذين التقيناهم وهو يعمل في مديرية التربية إلى أنهم التقوا طلاب أحد الصفوف – طلاب صف أول – في إحدى المدارس عام 2017، وسألوا الطلاب الأتراك عن قبولهم للعب مع الأطفال السوريين، فأجاب 2 من أصل 40 طالبًا بأنهم يرفضون أن يلعبوا مع طلاب سوريين، وقد عاد الناشط مع مسؤولين أتراك عام 2019 خلال إحدى الزيارات الدورية وسأل نفس الطلاب الذين أصبحوا في الصف الثالث وعاشروا أقرانهم السوريين لأكثر من عامين السؤال نفسه، فكانت الإجابات تشير إلى رفض 27 طالبًا من أصل 40 اللعب مع أقرانهم السوريين، وقد أشار الحديث مع الطلاب إلى تأثرهم بالأحاديث التي يسمعونها من عائلاتهم”، بالتالي لا بد من الانتباه للغة المستخدمة عند التحدث عن الآخرين وصفاتهم وأسلوب حياتهم وأشكالهم وألوانهم، حيث تشكل كلماتنا جزءًا أساسيًا من الصورة الذهنية عن هذه الأعراق في أذهان أطفالنا.
– قراءة قصص عن حياة الشعوب وعاداتهم وطعامهم، وحضور أفلام وثائقية تروي حكايات من مختلف أنحاء العالم.
– شجع أطفالك على طرح الأسئلة، فالإجابة عن أسئلة الأطفال عن الاختلافات الثقافية تعلمهم أن لا بأس بملاحظة الاختلافات والحديث عنها.
آفاق واسعة لأطفالنا في المهجر
كمهاجرين، تبدو لنا طفولتنا حالمة جميلة بسيطة ونحلم لو حظي أطفالنا بفرصة للعب في حارات منازلنا على أرض الوطن، لكن بنظرة أشمل نرى أن الهجرة، رغم قسوتها والظروف الصعبة التي ارتبطت بها غالبًا، يمكن أن تشكل فرصة لأبنائنا وتفتح لهم آفاقًا واسعةً لطفولة أكثر غنى وتنوعًا.
إن نجاح الآباء في الحفاظ على الهوية الأم والثقافة واللغة في حياة أطفالهم، وقدرة الأطفال على اكتساب لغة وثقافة بلدهم الجديد من خلال تفاعلهم الإيجابي مع أقرانهم في المدارس والحدائق والمكتبات، يمثل فرصة ذهبية للجيل الجديد لتعلم التوافق رغم الاختلاف ورؤية حلول متنوعة لكل مشكلة وتطوير آليات تواصل جيدة، بالإضافة لتعلم البحث عن المشتركات، يحمل هذا الجيل من المهاجرين أيضًا ثقافته وتجربة وطنه للبلد الجديد، فيقع على عاتق الأهل نقل الشعور بالفخر والاعتزاز بالهوية الأم لأولادهم، ليتحدثوا عنها بأريحية في أوساطهم الجديدة، فيكون الطفل سفيرًا “ثقافيًا” لأرضه في وطنه الجديد، ويكون أكثر استعدادًا وتأهيلًا ليصبح سفيرًا بين مواطنيه مستقبلًا.
لذا يبدو من المفيد أن يختلط الأطفال مع الجيران الذين يرسلون لنا أطباقًا مختلفة عما اعتدناه من طعام، وأن يشارك مع أطفال الآخرين ما يعرفه من ألعاب شعبية في موطنه الأصلي، وأن يرى في صفه المدرسي طلابًا بألوان بشرة مختلفة، وأن ينظر لخريطة العالم بما هو أكبر من الجغرافيا والحدود، فيرى في كل بلد وكل مدينة تاريخًا وثقافةً وعادات وتحديات وإنجازات مختلفة.
بمتابعة نشرات الأخبار وتتبع التاريخ يظهر لنا أن المتنفذين وأصحاب السلطة والسياسيين، يستغلون الاختلاف الثقافي والعرقي والديني وانغلاق المجتمعات على أنفسها، لإثارة الشعوب المتحفزة للدفاع عن هويتها وثقافتها ضد “هجوم الآخر” المفترض، لنساعد أطفالنا ألا يكونوا وقودًا لمعارك الساسة وطموحاتهم السلطوية، وأن يؤمنوا بأهمية التعاون والتكامل مع الجميع لبناء لوحة العالم الفسيفسائية الجميلة بإثراء طفولتهم الثقافية.