تكافح كوت ديفوار للإفلات من الحروب الأهلية وأجواء الانقلابات التي تغذيها العنصرية والصراعات العنيفة على السلطة، سيستغرق الأمر أكثر من محاكمة رئيس سابق في محكمة دولية لإقناع الإيفواريين أن إقرار العدالة يستحق تقديم تضحيات أكبر، لكن ما يحسب للدولة الإفريقية المحورية في القارة، السير في إجراءات العدالة الانتقالية، ما يعني أنه بإمكان البلاد قلب الصفحة بالكامل على ماضيها العنيف والتقدم بخطى أكثر ثباتًا للمستقبل دون دماء أو إقصاء.
عن تاريخ البلاد
ساحل العاج أو كوت ديفوار، دولة تقع على الساحل الجنوبي لغرب إفريقيا، لغتها الرسمية الفرنسية بجانب نحو 78 لغة أخرى، وأكبر الديانات فيها الإسلام والمسيحية، بجانب عدد آخر من الديانات القديمة، ما يشير إلى تنوع ثقافي وديني شكل تحديات معقدة في ظل تأخر اللحاق بركب الحداثة والتعثر في إيجاد آلية عصرية للحافظ على هذا التنوع والاستفادة منه.
أصبحت ساحل العاج محمية فرنسية منذ عام 1843 وتحولت إلى مستعمرة عام 1893 خلال التدافع الأوروبي على إفريقيا، لكنها حصلت في النهاية على استقلالها عام 1960 بقيادة فيليكس هوفويت بوانيي الرئيس الملهم والأب المؤسس ـ كما يطلق عليه ـ الذي حكم البلاد حتى وفاته عام 1993.
نجح فيليكس في تجنيب البلاد بسياسته الحكيمة ويلات ما بعد الاستقلال، كما نجح في تحقيق ازدهار اقتصادي كبير، لكن الأعراض الجانبية لحكم الفرد ضربت البلاد في أواخر فترات حكمه، فظهرت الكثير من جوانب الفساد وعدم الاستقرار السياسي، وبدأت مشاكل التنوع تلقي بظلالها على كوت ديفوار، لا سيما بعد تأسيس الرجل لكراهية الأجانب في البلاد بدوافع اقتصادية وانتخابية.
مع تولي هنري كونان رئاسة البلاد بشكل مؤقت ثم انتخابه بشكل دائم عام 1995، أظهرت حيتان السلطة أنيابها، وقاطع المرشحون المحتملون الآخرون الاقتراع بعد وصلات تشكيك لم تنقطع في قانون الانتخابات الذي أُقر نهاية عام 1994.
كان برنامج الإصلاح الانتخابي الذي قاده كونان يرسخ لمنهج الرئيس المؤسس في كراهية الأجانب بل ويتزيد فيها، ما أدى لاستبعاد أحد أقوى المرشحين الأكثر شعبية في البلاد وهو الحسن واتارا السياسي المسلم المدعوم من شمال البلاد، الذي تقطنه أغلبية مسلمة ورئيس الوزراء السابق الذي منع من الترشح بزعم أنه ليس من مواطني ساحل العاج.
في الوقت نفسه لم تفلح دعوات التمييز في إنعاش الاقتصاد بل استمر التردي والتدهور، فضلًا عن تعاظم شبهات الفساد والتطرف في القيادة العرقية لهنري كونان، وتشكيكه الدائم في حقوق جزء كبير من السكان، باعتبارهم من أصول أجنبية، ما سبب توترات شرسة بين الشمال والجنوب.
تصاعد الصراع دفع الجيش للتدخل بقيادة الجنرال روبرت جيو وأطاح في ديسمبر/كانون الأول 1999 بالرئيس هنري كونان بعد ستة أعوام له في السلطة، ليترأس جيو المجلس العسكري الذي حكم البلاد حتى تنظيم أول انتخابات عام 2000، وترشح فيها جيو ولم يسمح إلا لمعارض واحد فقط بالترشح أمامه وسط تشكيك دولي واتهامات بالتزوير.
السخط الداخلي والخارجي حوّل الدفة بفعل الاحتجاجات الرافضة لإعلان جيو نفسه رئيسًا على البلاد، ليهرب رئيس المجلس العسكري من الساحة، ويتم إعلان فوز لوران غباغبو زعيم الجبهة الشعبية الإيفوارية رئيسًا للبلاد.
ثمن التمييز
لم تهدأ نيران التمييز التي أسس لها بوانيي ودعمها كونان، ولم يغير تولي غباغبو السلطة من دوافع الشمال للغضب والسخط، فاندلع التمرد في ديسمبر/كانون الأول 2002 في محاولة للاستيلاء على السلطة، وشن مسلحون هجومًا على عدة ثكنات في العاصمة أبيدجان، وعدة مدن أخرى في اعتداءات متطابقة.
أثارت الهجمات ارتباكات شديدة في الجيش، الذي عرف سريعًا أن الهجوم دبره جنود ينتمون إليه بعد علمهم باستبعادهم من الخدمة لأسباب عنصرية، وبعد فترة اضطرابات بدأ الجيش يلاحق المسلحين ودفع كامل جنوده إلى البقاء في حالة تأهب تحسبًا لموجة ثانية من الهجمات، لا سيما أن الهجوم الأول أسفر عن اغتيال وزير الداخلية أميل بوغا دودو.
قتل أيضًا رئيس المجلس العسكري الذي قاد البلاد بعد الانقلاب على كونان “روبرت جي” وعرض التليفزيون الرسمي صورًا لجثته في الشارع، ونجا الحسن واتارا بمعجزة هو وزوجته من محاولة اغتيال قادتها فرق الموت ـ ميليشيات موالية لغباغبو ـ بعد لجوئهما في اللحظة الأخيرة إلى السفارة الألمانية، ولم يتمكن المتمردون من السيطرة على العاصمة أبيدجان رغم استيلائهم على المدينة الثانية في البلاد بواكي.
كانت الصدمة في حصول المتمردين على أسلحة ثقيلة جديدة في معظمها، لا يملكها الجيش الإيفواري نفسه، ما أوحى بتدبير الهجمات عن طريق التحالف مع أجهزة دولية، وفجرت هذه الأنباء المزيد من الانقسام بعد سيادة لغة التخوين على جميع المستويات.
أسفر الحادث عن اندلاع حرب أهلية أدت لانقسام البلاد إلى شمال وجنوب، وساهم في اشتعالها إعلان المتمردين مطالبهم وعلى رأسها رحيل لوران غباغبو، ومنح الجنسية الإيفوارية لجميع سكان البلاد، ووقف توظيف أيديولوجية كراهية الأجانب.
انتهى معظم القتال في أواخر عام 2004، لكن ظلت البلاد منقسمة إلى قسمين: سيطر المتمردون على الشمال، والجنوب سيطرت عليه الحكومة، وزادت الروح العدائية، ولم يفلح في إيقاف نزيف الدماء المتجدد تدخل قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة المدعومة بقوات من الجيش الفرنسي.
نهاية مؤقتة للصراع
في مارس/آذار 2007 وبعد مفاوضات ماراثونية لإنهاء إرث الصراع الدموي المستمر، تم التوقيع على اتفاق واغادوغو لتحديد هوية السكان والمضي قدمًا في العملية الانتخابية، وعملية نزع السلاح واستعادة سلطة الدولة في كامل الإقليم والإخراج التدريجي لجميع القوات الأجنبية.
تم تأجيل تنفيذ الاتفاقية حتى عام 2010، أي بعد خمس سنوات من انتهاء فترة ولاية غباغبو، وأجريت الانتخابات ليعلن فوز المرشح الشمالي الحسن واتارا في انتخابات الرئاسة من اللجنة الانتخابية المستقلة في البلاد، لتدخل ساحل العاج في أزمة جديدة بإعلان رئيس المجلس الدستوري – حليف غباغبو – عدم صحة نتائج اللجنة المستقلة، واستمرار غباغبو رئيسًا للبلاد.
تمسك كل من غباغبو وواتارا بحلف اليمين الرئاسية لتولي المنصب، في الوقت الذي دعم المجتمع الدولي: الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي ودول غرب إفريقيا (إيكواس) والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وفرنسا، الحسن واتارا وأصبح الرئيس المعترف به عالميًا.
استمر غباغبو في عناده، وأمر جميع قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة بمغادرة البلاد، وأعلن فشل مفاوضات حل النزاع في تحقيق نتيجة مرضية، ودارت رحى الحرب الأهلية الثانية، وقُتل فيها مئات الأشخاص خلال تصاعد العنف بين أنصار غباغبو وأنصار واتارا، وفر من البلاد على إثر الصدام بينهما ما لا يقل عن مليون شخص.
الاختراق والمصالحة
لجأ الحسن واتارا إلى استمالة رجال غباغبو لإلقاء أسلحتهم بعد تشديد الضغط الدولي الدبلوماسي والعسكري على الجنوب، بل إن وتارا حاول استمالة غباغبو نفسه ووعده بالأمان، وأسفرت هذه المحاولات عن انشقاق الكثير من رجال رئيس الجنوب ومنهم من استسلم دون قتال على رأسهم رئيس أركان الجيش الجنرال فيليب مانجو، وكذلك قائد الشرطة العسكرية الذي انشق وتحول إلى جبهة وتارا.
رفض غباغبو الاستسلام وتحصن بأفراد الحرس الجمهوري الموالين له، واستمر الصراع حتى وقت مبكر من يوم 5 من أبريل/نيسان 2011 الذي أعلنت فيه قوات واتارا الاستيلاء على القصر الرئاسي، لكن لم يتوقف إطلاق النار إلا بعد انشقاق جميع كبار الجنرالات، ومن هنا آمن غباغبو بالهزيمة الساحقة وبدأ يفاوض القوى الدولية على الاستسلام.
من ناحيتها حاولت كتلة الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا ضمان خروج آمن وكريم لغباغبو وعائلته إذا تنازل عن الانتخابات وسلم السلطة إلى واتارا، لكن المفاوضات فشلت، لتتدخل هذه المرة القوات الفرنسية بعد معاودة القوات التي استمرت مع غباغبو في استخدام أسلحة ثقيلة مثل الصواريخ وقاذفات القنابل والدبابات في محاولة للانتشار مرة أخرى في شوارع أبيدجان.
مع زيادة الحصار تمكنت قوات أوتارا في 11 من أبريل/نيسان 2011 من اقتحام منزل غباغبو واعتقاله بمساعدة القوات الفرنسية، ومع مكسب القضاء على الديكتاتور العاجي، فإن إحصاء الخسائر كشف كارثة كبرى، إذ فر مئات الآلاف من البلاد إلى البلدان المجاورة بسبب استمرار العنف.
اضطرت الأمم المتحدة لفتح معسكر على بعد 25 ميلًا داخل ليبيريا، فيما فر آلاف الإيفواريين إلى غانا، ومع زيادة عدد الفارين من العنف دشنت الأمم المتحدة مخيمات إضافية في جميع أنحاء غرب ساحل العاج، وقدر مسؤولو الكنيسة الكاثوليكية عدد اللاجئين في مخيم ناهيبلي وحده بنحو 28 ألف، كما أودى الصراع الأخير لاعتقال غباغبو بحياة 3000 شخص على الأقل.
العدالة وجبر الضرر
انطلقت لجنة “الحوار والحقيقة والمصالحة” في ياموسوكرو – العاصمة السياسية لساحل العاج – في 28 من سبتمبر/أيلول 2011 بدعم من الرئيس واتارا الذي اتخذ على الفور خطوات سريعة لمحاكمة مرتكبي أعمال العنف السياسي، وزاد هذه الخطوات بتحصينات أخرى مثل إنشاء وحدة تحقيق خاصة للتحقيق في الجرائم المرتكبة خلال الأزمة ومقاضاة مرتكبيها، وأنشأ وزارة التضامن والتماسك الاجتماعي ووعد بجبر الضرر للضحايا.
حاول أوتارا إبعاد بلاده عن ذهنية العنف بإقرار عدالة متوازنة يتم بموجبها محاسبة جميع المسؤولين عن أدوارهم في النزاع، لكنه واجه ولا يزال إشكاليات التشكيك في عدالة المنتصر، التي يصاحبها دائمًا إفلات الفائز من العقاب، وهو ما برهنت عليه جهات عدة بقبول أوتارا تحكيم المحكمة الجنائية الدولية، لكنه لم ينقل لها في مقرها بلاهاي إلا الرئيس السابق غباغبو فقط.
لم يتم اعتقال أي من مؤيدي واتارا مقارنة بأكثر من 100 من الموالين لغباغبو الذين ينتظرون المحاكمة في جميع أنحاء البلاد، ومع ذلك يقول مراقبون إن مجرد افتتاح المحاكمة يعتبر خطوة مهمة نحو تحقيق العدالة التي لن تتحقق بسهولة، لا سيما مع تعهد الرئيس مرارًا بمحاكمة جميع مرتكبي أعمال العنف التي أعقبت الانتخابات بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية، فضلًا عن تصديق ساحل العاج على المعاهدة التأسيسية للمحكمة الجنائية الدولية، الأمر الذي يقطع شوطًا طويلًا في الكفاح ضد الإفلات من العقاب وتعزيز سيادة القانون.