فوجئت خلال الأشهر القليلة الماضية بعشرات الإعلانات عبر البريد الإلكتروني الخاص بي، إضافة إلى الاتصالات المتكررة من شركات الاستثمار العقاري، بشأن عروض وتخفيضات لأسعار المقابر، في البداية تعاملت مع الموضوع بنوع من السخرية، فالغالبية لا يملكون عقارًا للسكن وهم أحياء فما بالك بمقابر للسكن فيها بعد الموت، لكن المفاجأة أن مندوبة الشركة المخول لها التواصل مع العملاء أخبرتني أن الإقبال على المقابر هذه الأيام غير مسبوق.
لم ألق بالًا بالأمر كثيرًا، كوني غير مهتم بمثل هذه النوعية من الإعلانات المترفة نسبيًا، لكن العجيب أن أحد مرشحي انتخابات نقابة الصحفيين المصرية وكنوع من الدعاية الانتخابية له قدم عرضًا للصحفيين لمقابر بأسعار مخفضة، العرض استفزني للوهلة الأولى، لكن ردود الفعل كانت الضربة التي غيرت تصوري عن هذا النوع من الأسواق.
أسواق المقابر.. “صفقة العمر” كما يسميها بعض التجار الذين حولوا مسار عملهم إلى الاستثمار في أراضي المقابر لما تحققه من مكاسب لا توجد في نظيراتها من أوجه الاستثمار الأخرى، مستغلين حاجة الناس لأماكن تأوي جثامين ذويهم وتداري ماضيهم من أجل تحقيق أرباح قد تفوق في بعض الأحيان أرباح تجارة المخدرات.
وتحولت منصات السوشيال ميديا وجدران المنازل والبنايات الممتدة إلى ساحات إعلانية كبيرة تحت شعار “مقابر للبيع” مقدمة كل أنواع المغريات لتحفيز الناس على الشراء، فتلك مقبرة جيدة التهوية، وأخرى قريبة من المولات التجارية والطرق الرئيسية، وثالثة تمتلك طاقم حراسة وأمن على أعلى مستوى، وهي المحفزات التي ربما لا توجد في الوحدات التي يسكنها الأحياء.
وكما أن هناك طبقيةً وتفاوتًا في مستويات مناطق الإيواء للأحياء فالأمر ذاته لدى الأموات، فتلك مقبرة شعبية، وأخرى للطبقة المتوسطة، فيما هناك مقابر فندقية خمس نجوم للنخبة وأصحاب الشأن المجتمعي، وتتراوح الأسعار بين 30 ألف إلى مليون ونصف للمقبرة الواحدة، حسب المساحات والأماكن ومستوى التشطيب.
بناء المقابر.. تقنين قانوني
تخضع عملية بناء المقابر وتنظيم عملها ومراقبتها لجهتين رسميتين، الأولى: وزارة التنمية المحلية وما يتبعها من محافظات ومجالس محلية في شتى أنحاء الجمهورية، وذلك بمقتضى القانون رقم 5 لسنة 1966 الذي تنص المادة الثانية منه على أن “تتولى المجالس المحلية في حدود اختصاصها، إنشاء الجبانات وصيانتها وإلغائها وتحديد رسم الانتفاع بها”.
وقد تضمن القانون استثناءات محددة في عملية البناء منها مثلًا: “يجوز بقرار من رئيس الجمهورية، الترخيص بإقامة مدافن خاصة، في غير الجبانات العامة، وذلك بناء على طلب من وزير الإدارة المحلية بعد موافقة مجلس المحافظة المختص، وتحدد اللائحة التنفيذية شروط إقامة هذه المدافن ومواصفاتها”.
كما تم حظر الدفن في غير الجبانات العامة، بحسب المادة الخامسة من نفس القانون “لا يجوز إجراء الدفن في غير الجبانات العامة المستعملة. ويحكم القاضي، في حالة المخالفة بإخراج الجثة وإعادة دفنها، وذلك فضلًا عن العقوبة المقررة بمقتضى هذا القانون”، فيما حددت المواد (7 و8 و9) القائمين على خدمة المقابر: “لا يجوز لأي شخص أن يزاول مهنة حانوتي أو تربي أو مساعد لأيهما إلا بترخيص من المجلس المحلي المختص، كما يحدد المجلس المحلي المختص الأجر الذي يتقاضاه أرباب المهن المشار إليهم في المادة السابقة، ويجوز إلغاء التراخيص الممنوحة لهم إذا لم تتوافر في شأنهم الشروط التي تتطلبها اللائحة التنفيذية”.
أما الجهة الثانية المسؤولة عن منظومة المقابر في مصر، فهي وزارة الإسكان ممثلة في هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة التى تمتلك حق بيع المقابر في المدن الجديدة، التي لا ينطبق عليها لوائح المجالس المحلية الأخرى، فبين الحين والآخر تعلن الهيئة عن طرح مجموعة من المقابر للبيع بالقرعة العلنية، وبنظام سداد يسهل على المواطن الراغب في الحصول على مدفن ضمن طرح الهيئة.
الهيئة في لائحتها المعمول بها منعت بيع المقابر للشركات حتى لا يتم المتاجرة بها، كما وضعت بعض الشروط للحصول على مقبرة منها: “أن يكون المتقدم لحجز المقبرة شخصًا طبيعيًا، (مواطن مصري الجنسية) وليس شخصًا معنويًا (شركة – مؤسسة)، كما يشترط ألا يقل سن المواطن المتقدم لحجز مقبرة ضمن طرح الهيئة، عن 21 عامًا في تاريخ موعد بداية حجز مقابر الطرح، وأن يكون من قاطني إحدى المدن الجديدة، وألا يكون قد سبق تخصيص مقبرة (مبنى أو أرض (له أو لأحد أفراد أسرته (الزوج – الزوجة – الأولاد القصر)، وطبقًا لما يرد بكراسة الشروط، ولا يحق للأسرة الواحدة (الزوج – الزوجة – الأولاد القصر) التقدم لحجز أكثر من قطعة أرض مقبرة”.
“مقابر للبيع”.. تسويق مثير للجدل
الانتشار الكثيف لإعلانات بيع المقابر على السوشيال ميديا أثار موجة من اللغط لدى الشارع الذي اعتبر أن في ذلك مخالفة للقانون، ومتاجرة بآلام الناس وجثث الموتى، مستغلين ندرة المعروض من المقابر، وهو ما ألمح إليه أستاذ الإدارة المحلية وخبير استشاري البلديات الدولي، حمدي عرفة، بقوله إن مثل تلك الإعلانات لا مشكلة فيها من الناحية القانونية.
وأضاف خبير الإدارة المحلية أن المبالغة في الأسعار تخضع للأجهزة الرقابية والمختصة، شأنها شأن بقية السلع والخدمات والوحدات السكنية، وإن كانت في الغالب تقع أسيرة سوق العرض والطلب، لافتًا إلى تولي كل محافظة الإشراف على التخطيط وتخصيص وتنظيم، كما تحدد أسعارها بعد إعلان قرعة علنية لبيعها، وتقوم بتقسيط هذه الوحدات على 5 سنوات، وأحيانًا تصل المدة إلى 20 سنة، وفق تصريحاته لصحيفة “البوابة” المصرية.
وعن أسعار المقابر أشار عرفة أنها تتباين حسب المنطقة السكانية، ففي القرى والمناطق الحدودية تترواح بين 25 و30 ألف جنيه، وفي المدن تبدأ الأسعار من 50 ألف جنيه كحد أدنى، وهناك بعض المدن الجديدة يصل بها سعر المقبرة الواحد إلى مليون ونصف.
يذكر أن القانون منع بيع المقابر الواقعة في زمام المقابر العامة إلا بإذن من المحليات والمجتمعات العمرانية، كما تنص المادة الخامسة “تعتبر جبانة عامة كل مكان مخصص لدفن الموتى، قائم فعلًا وقت العمل بهذا القانون، وكذلك كل مكان يخصص لهذا الغرض بقرار من السلطة المختصة، وتعد أراضي الجبانات من الأموال العامة وتحتفظ بهذه الصفة بعد إبطال الدفن فيها وذلك لمدة عشر سنوات”.
كومباوندات الموتى
انتشرت على صفحات التواصل الاجتماعي العديد من الصفحات التي تروج لمقابر من نوع خاص، مقابر استثنائية عالية المستوى، تحت اسم “كمبوند المقابر” حيث التطشيب الفاخر، المستخدم به أفضل أنواع الرخام، واستراحات داخلية لأهالي المتوفى، بجانب توفير الخدمات الأخرى من مياه وكهرباء وخلافه.
المدافن التي تعرف بأنها “5 نجوم” فيما أطلق عليها البعض “مدافن النعيم” تنتشر بصورة أكبر في المناطق ذات المستويات المعيشية المرتفعة، كالقاهرة الجديدة والتجمع والرحاب ومدينة الشيخ زايد، وهي تستهدف شريحة قليلة من المواطنين، كونها تلبي احتياجاتهم وتحقق رغباتهم في شكل المقبرة ومكوناتها.
وتتتمع هذه المقابر بحماية مطلقة، مقارنة بغيرها من المقابر الأخرى التي قد تتعرض لسرقة الجثث بها وبيعها، بجانب استغلالها من القائمين عليها في أمور لا علاقة لها بالهدف التي دشنت من أجله، هذا بجانب إحاطتها بأسوار سلكية من كل جانب، ودخول مقنن وفق شروط وضوابط مع وجود كثيف للحراسة والأمن.
وتتراح مساحات تلك النوعية من المقابر الفاخرة من 28 إلى 80 مترًا وبأسعار بين مليون إلى مليوني جنيه، فيما أرجع بعض علماء النفس انتشار هذه المقابر إلى الوجاهة الاجتماعية التي يسعى أصحابها للالتزام بها حتى في الموت، رغم مخالفة ذلك لرأي علماء الدين الذين يرون أن البهرجة فى تزيين المقابر أمر مخالف للشريعة.
المقابر وأزمة كورونا
في الوقت الذي ألقى فيه وباء كورونا المستجد (كوفيد 19) بظلاله القاتمة على سوق العقارات، نظرًا لتراجع الحالة المعيشية والاقتصادية لمعظم فئات المجتمع، إذ به ينعش سوق المقابر بشكل كبير، في ظل ارتفاع الطلب على المقابر على خلفية زيادة أعداد الوفاة.
ونظرًا لما يُحدثه الوباء من موت مفاجئ، إذ لا تتعدى فترة الإصابة أيامًا قليلة، خاصة بين قاطني المدن، لم يجد المواطنون بدًا من البحث عن مقابر وتجهيزها تحسبًا لأي طارئ أو موت مفاجئ في ظل تفشي الجائحة، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على هذا البيزنس بصفة عامة.
عضو لجنة الصناعة بمجلس النواب، طارق متولي، أشار في تصريحات له أن كورونا أشعل بيزنس المقابر، فقد ارتفعت أسعارها للضعف تقريبًا، بعد الإقبال الكبير عليها، هذا في الوقت الذي لم تطرح فيه المحافظات مقابر جديدة أمام المواطنين محدودى الدخل، كما كان يحدث عبر السنوات الماضية، وفق تصريحاته لصحيفة “اليوم السابع“.
البرلماني المصري أوضح أن “الشركات العقارية تتنافس فيما بينها على بيع المقابر، وتقديم امتيازات كتشطيب لوكس وسوبر لوكس والبيع بالتقسيط، لجذب عدد أكبر من الراغبين فى الشراء”، لافتًا إلى أن الركود الذي عانت منه تلك الشركات منذ ظهور كورونا وتداعياتها على سوق العقارات، دفعها إلى الاستثمار في مجال العقارات، كونه السوق الأكثر رواجًا في الآونة الأخيرة.
مصائب قوم عند قوم فوائد، فبينما يعاني سوق العقارات من تراجع تسبب في خسارة عشرات المليارات من الجنيهات، إذ بسوق آخر يفتح الباب على مصراعيه أمام الشركات العقارية، سوق يتخذ من جثث الموتى سلعته الأساسية، ورغبة الناس في مواراة جثامين ذويهم الدافع الأساسي لإنعاش هذا السوق الذي سحب البساط سريعًا وفرض نفسه بقوة كأحد اللاعبين الأساسيين في السوق العقاري المصري.