أضحى العدالة والتنمية حزبًا واحدًا بخطابين مختلفين، الأول يمثله تيار “وزراء الحزب” الذي يدور في فلك رئيس الحكومة سعد الدين العثماني، وخطاب آخر يبدو أشبه بالمعارض والمتمرد يقوده عبد الإله بنكيران وكثير من مريديه الذين يرفضون الانصياع لتوجيهات الأمين العام.
يبدو بنكيران بخرجاته الهجومية كمن يسعى لسحب بساط الريح من تحت العثماني، بينما موعد العرس الانتخابي موشك لا محالة.
زلات العثماني
يشهد الحزب خلافات كبرى بين قياداته الوطنية، بشأن مسائل تارة ترتبط بالخط الأيديولوجي مثل فرنسة التعليم واستئناف العلاقات مع “إسرائيل” وتقنين القنب الهندي للاستعمالات المشروعة، علاوة على ارتباطها بالأداء السياسي للحزب بعدما أظهر دورًا باهتًا في تدبير شؤون المغاربة، خاصة في سياق الأزمة الصحية “كوفيد 19”.
فمن المعيب جدًا أن يصرح سعد الدين العثماني بأن حكومته لا تملك أي خطة لتجاوز الأزمة أو أن يقول بلا جدوى ارتداء الكمامة الطبية، بعدما احتج الناس عن عدم توافرها في الأسواق بداية الجائحة، وأمثلة كثيرة على زلات هذا الرجل الذي يرأس حزبًا حظي بثقة المغاربة مرتين على التوالي، خلال الانتخابات التشريعية 2011 و2016.
بكاء سياسي
يبدو أن بنكيران مسنود بقاعدة عريضة من إخوانه، معظمهم منضوون تحت لواء شبيبة العدالة والتنمية، هؤلاء الذين لم يستسيغوا أن يكون العثماني خلفًا لبنكيران في أمانة الحزب، بدءًا من الـ10 من ديسمبر/كانون الأول 2017، بعدما أعفاه العاهل المغربي محمد السادس من مهمته كرئيس حكومة، بعد أشهر عجاف من “البلوكاج السياسي” لم يتوصل فيها بنكيران إلى حل توافقي مع أحزاب الأغلبية لتشكيل الائتلاف الحكومي.
بنكيران أرعد وأزبد على مشروع القانون المتعلق بالاستعمالات المشروعة القنب الهندي، وهدد بتجميد عضويته إذا صادق المجلس الحكومي على هذا المشروع
خلال المؤتمر الـ15 لشبيبة العدالة والتنمية، صيف 2019، حظي بنكيران الفاقد لزعماته بحفاوة استقبال لم يحظ بها العثماني كأمين عام للحزب، الذي تم تجاهله، بينما ردد الأعضاء شعارات تحث بنكيران على العودة للمشهد السياسي، التي كانت كفيلة بإسالة دموعه، كالراغب في الاستجابة لمطالبهم، قبل أن يعلن في معرض خطبته المطولة قائلًا: “لقد أديت مسؤولياتي عندما كنت أمينًا عامًا، ولا أقول هذا لأقطع الأمل بأنني لن أعود، فإذا كان من الضروري، لن أعود رئيسًا للحزب حتى تقطعوا هذه الملابس”، في إشارة إلى أنه لن يعود إلا تحت الإلحاح المستميت من أعضاء الحزب.
خروج إلى الضوء
منذ ذلك الوقت، وخرجات الرجل محسوبة ونادرة، حتى كاد أن يأفل نجمه، خرج مهادنًا حينما وقع أخوه العثماني على اتفاق استئناف العلاقات مع “إسرائيل” بصفته رئيسًا للحكومة، بعدما أعلن هذا الأخير قبل أشهر من ذلك على أن المغرب يرفض شعبًا وحكومة تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، لأنه يمنح ذريعة لـ”إسرائيل” بمصادرة حقوق الفلسطينيين.
لكن بنكيران أرعد وأزبد على مشروع القانون المتعلق بالاستعمالات المشروعة القنب الهندي (النبتة التي يُستخرج منها مخدر الحشيش)، وهدد بتجميد عضويته إذا صادق المجلس الحكومي على هذا المشروع، والانسحاب نهائيًا من الحزب إذا صوت نواب العدالة والتنمية لصالح تمرير هذا القانون المثير للجدل.
رغم أن تقنين زراعة القنب الهندي في المغرب، ينحصر فقط في استعمالاته الطبية والصناعية المشروعة، ولا يمنح شرعية للمتاجرة في مخدر الحشيش وتدخينه، فإن بنكيران وجد في ذلك مناسبة دعائية له، بعدما نسيته الأقلام وأُطفئت حوله الأضواء، وهو الذي اعتاد أن تنطق باسمه الصحافة كلما تكلم في السياسة، ليتصدر أعلى قراءة ومشاهدة من المتابعين للشأن السياسي.
شعبوية مفرطة
في الواقع، هو خطيب سياسي بارع، يتقن فن التواصل السياسي، لدرجة أن جميع المغاربة يفهمونه ويعرفون به، بعدما كان اسم رئيس الحكومة (أو الوزير الأول كما كانت تسميته قبل 2011) مجهولًا من عامة المواطنين المغاربة، لهذا ينسب لبنكيران فضل كبير – بغض النظر عن الشعبوية المفرطة – في فهم الممارسة السياسية، مقارنة بالوجوه السياسية التي تفرط في خطابها النخبوي.
بمجرد أن اعتمد المجلس الحكومي مشروع قانون الاستعمالات المشروعة للقنب الهندي، نفذ بنكيران تهديده وجمد عضويته، قاطعًا علاقته مع العثماني وثلاثة آخرين من قياديي حزب العدالة والتنمية، لكنه سرعان ما تراجع عن قطع العلاقات، بعدما تدخل إخوانه من أجل إصلاح ذات البين.
ونشر بنكيران على حسابه الرسمي بموقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” وثيقة بخط اليد، على غرار ما فعل في وقت سابق، قال فيها: “إكراما للأخوين الأستاذ عبد الرحيم الشيخي والدكتور عز الدين توفيق، واستجابة لطلبهما، أعلن أنا الموقع أسفله عبد الإله بنكيران التراجع عن قرار قطع العلاقات مع السادة الواردة أسماؤهم في البلاغ السابق، مع تأييد الباقي”.
أما الباقي المؤيد فهو تجميد العضوية، تمهيدًا للانسحاب النهائي من حزب العدالة والتنمية، في حال صوت نواب الحزب في البرلمان لصالح تمرير قانون القنب الهندي المثير للجدل.
يحاول إسلاميو المغرب السير على درب لا يصعد منه غبار، رغم الخلافات الداخلية المتفاقمة تباعًا
واجهة ديمقراطية
ربما يتراجع بنكيران عن تنفيذ التهديد الثاني، الذي من خلاله يبدو واضحًا أنه يسعى لاستمالة تأييد أقوى من أعضاء الحزب، الذين يطالبون بين الفينة والأخرى بعقد مؤتمر استثنائي من شأنه إزاحة سعد الدين العثماني عن رأس الأمانة العامة، وانتخاب بنكيران بديلًا له، لكن لا مؤشرات تلوح في الأفق بعقد هذا المؤتمر.
مؤخرًا تم تسريب تسجيل صوتي على مجموعات “واتساب”، منسوب لبنكيران، تضمن إشارات مبطنة بمغادرة الحزب في حال تصويت برلمانيي حزبه على مشروع القانون المثير للجدل، بينما يرى مراقبون أن الرجل يصرف مناوراته التي لا تخلو من عصبية، في محاولة منه للعودة إلى دائرة الضوء.
تزامنًا مع فترة غير بعيدة عن موعد الانتخابات، بدأ هذا السياسي المنزوي في سباته بالتحرك مهاجمًا قيادة الحزب تارة، وملوحًا بورقة تجميد العضوية والاستقالة تارة أخرى، بينما يطبق العثماني الصمت كمن يوهم المتتبعين بأنه معصور تحت ضغط لا قبل له به، لكن بالعكس، لعله تمويه محسوب لا غير.
يحاول إسلاميو المغرب السير على درب لا يصعد منه غبار، رغم الخلافات الداخلية المتفاقمة تباعًا، وفشله في مسؤوليته الحكومية، فإنه يحوّل الصراع والفشل إلى إيهام المواطنين بأنه يدبر شؤونه الداخلية بآليات ديمقراطية، ما دام يعتبر هذا الحزب نفسه هو الخيار الديمقراطي للمغرب بعد الربيع العربي، وكثيرًا ما هاجم التنظيمات السياسية الأخرى بأنها لا تحترم الديمقراطية الداخلية.