تعيش تونس على وقع أزمة غير مسبوقة على جميع المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية والمجتمعية، ازدادت تأزمًا وتعقيدًا بعد تفشي جائحة كورونا في موجتيها الأولى والثانية، وبعد رفض رئيس الجمهورية قيس سعيد استقبال الوزراء الجدد لأداء اليمين الدستورية عقب حصولهم على ثقة البرلمان منذ 26 من يناير/كانون الثاني الماضي، إلا أن هذه الأزمة يبدو أنها تتجه نحو الحلحلة بعد إعلان الاتحاد العام التونسي للشغل قبول الرئيس بمبادرته للحوار الوطني.
الأزمة التونسية
بلغت الأزمة السياسية في تونس حد الانسداد بسبب الخلافات بين رئيس الجمهورية قيس سعيد ورئيس الحكومة هشام المشيشي، منذ إعلان الأخير في 16 من يناير/كانون الثاني الماضي تعديلًا شمل 11 حقيبة وزارية من أصل 25، وبعد 10 أيام صادق عليها البرلمان، إلا أن سعيد لم يوجه دعوة إلى الوزراء الجدد لأداء اليمين الدستورية أمامه، معتبرًا أن التعديل شابته خروقات.
أما جذورها، فتعود بالأساس إلى الصراع على السلطة والحكم بين مؤسسات الدولة (رئاسة حكومة وبرلمان) وحالة القطيعة والتشتت الحزبي الذي أفرزه النظام الانتخابي والتنافر الملحوظ بين السلطات وعدم شفافية تمويل الجمعيات والأحزاب.
هذه الوضعية ساهمت في ارتفاع منسوب الاحتقان والتوتر بين النخبة السياسية والقطيعة بين مؤسسات الدولة، كما أدت إلى تنامي الصراعات العبثية والعنيفة تحت قبة البرلمان وتعطيل عملها في أكثر من مناسبة، وخلق مزاجًا شعبيًا غلب عليه الإحباط وتراجع الثقة في المنظومة السياسية بأكملها ما يُهدد بلجوء المواطنين إلى الشارع.
من جهة أخرى، فإن غياب الحوكمة وانتشار الفساد وعدم ملاءمة النظامين السياسي والانتخابي لخصوصية التجربة الديمقراطية والهنات التي تضمنها دستور 2014، كان عائقًا إضافيًا أمام حلحلة الأوضاع ومعالجة الأزمة، بل زاد من تسميم المناخ وتعقيد مسارات الانتقال الديمقراطي السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
أهمية الحوار
في ظل تعقيدات المشهد، فإن تونس بحاجة إلى مشروع وطني جامع مبني على توافق شامل يضم الفاعلين السياسيين وكل الأحزاب بغض النظر عن مرجعياتهم الإيديولوجية، إضافة إلى باقي المكونات الاجتماعية كالمنظمات والجمعيات والمؤسسات الاقتصادية.
هذا المشروع الذي من المنتظر أن تطرحه مبادرة اتحاد الشغل برعاية رئاسة الجمهورية، يجب أن يتجاوز فعل لحظة الحوار إلى مرحلة التأسيس الدائم وفق أسس صلبة وقراءات إستراتيجية تضمن الاستقرار والإنتاج بأنواعه تمهيدًا لإعادة التوازن إلى مؤسسات الدولة والعلاقات بين مكونات السلطة.
ما يجدر الإشارة إليه، أن أهمية الحوار الوطني تكمن في توقيته وظرفه فهو يأتي في وقت تعاني فيه البلاد تدهورًا اقتصاديًا وتململًا اجتماعيًا في الشارع، وكذلك من مخططات الثورة المضادة بقيادة باريس وأبو ظبي وهي جهتان تعملان على إرباك المشهد السياسي عبر أدواتهما المحلية الوظيفية لضرب المسار الانتقالي من خلال الدفع بتعطيل عمل البرلمان وسحب الثقة من رئيسه ودعم التظاهرات.
من جهة أخرى، يأتي الحوار في وقت ازدادت فيه ضغوطات المانحين الدوليين وحرص بعض الجهات الغربية على المحافظة على النموذج التونسي للثورة وإنجاح مساره الانتقالي الديمقراطي، بالإضافة إلى ارتفاع منسوب المخاوف لدى مراكز النفوذ والمصالح المحلية والدولية من مخاطر مشروع الفوضى وغموض بدائله.
كل هذه العوامل ستدفع بالفاعلين السياسيين التونسيين إلى السير للخلف متراجعين من منطقة الضغط العالي إلى نقطة صفر وهي الحوار والتهدئة باعتبارها الحد الأدنى الذي يحفظ لهم البقاء في المشهد في انتظار الاستحقاقات الانتخابية المقبلة وما ستفرزه من قوى جديدة على رأس السلطة.
العوائق والإشكالات
يجمع السواد الأعظم من التونسيين أنه لا مناص للخروج من الأزمة دون إجراء حوار وطني شامل يصل بالبلاد إلى بر الأمان ويقطع مع حالة الاستقطاب والصراعات الجانبية التي أثرت على مناحي حياة المواطنين، فرغم أنها تسوية الإكراه بالنسبة للسياسيين فإنها تُمثل طوق النجاة من المخاطر الاقتصادية والاجتماعية ومن الانزلاق في أتون الفوضى.
في سياق ذي صلة، فإن العوائق التي تحول دون الوصول إلى حل للأزمة المعقدة في تونس كثيرة ومتنوعة ويمكن تلخيصها في الأهداف الحقيقية للحوار التي تختلف من طرف إلى آخر، فكل جهة تريد الخروج من الحوار منتصرة وفي الحد الأدنى محافظة على مراكز قوتها ودوائر فعلها.
فالرئاسة بقيادة قيس سعيد ترددت في البداية في قبول مبدأ الحوار ثم قبلت بعد أربعة أشهر من إطلاق مبادرة الاتحاد شريطة تشريك الشباب وتصحيح مسار الثورة وعدم التحاور مع الفاسدين واستقالة حكومة هشام المشيشي، وهي شروط عامة وغامضة لم تُحدد آليات إشراك الشباب (الفئات – الاختيار) ولم تضبط الجهات المتهمة بالفساد ولم تستند في ذلك إلى أحكام القضاء.
ويبدو أن شروط الرئيس قيس سعيد هي أولى العقبات أمام إجراء حوار وطني شامل وفي حال أقيم سيكون عديم الجدوى وسيحمل آثارًا عكسيةً، وذلك لأن تونس بحاجة أولًا إلى حوار سياسي يعيد الاستقرار ويضبط علاقات المؤسسات ومن ثم حوار اقتصادي واجتماعي، أما إشراك الشباب وتوسيع دائرة طاولة الحوار فهدفها تسجيل نقاط وضمان المصالح من خلال المخرجات.
في سياق متصل، قال المحلل السياسي هشام الحاجي في تصريح لـ”نون بوست”، إن الغموض يلف مصير الحوار الوطني في ظل التوتر بين أهم المؤسسات السياسية وتراجع رئيس الجمهورية قيس سعيد على ما يبدو عن اتفاقه مع الأمين العام للاتحاد العام التونسي بالدعوة إلى الحوار الوطني.
وأشار الحاجي إلى أن توتر العلاقات بين الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة، وكذلك اختلاف وجهات النظر عن جدوى الحوار في الوقت الراهن حتى داخل المنظمة الشغيلة (نور الدين الطبوبي ونائبه سامي الطاهري)، تُعد من العوائق التي تحول دون إطلاق الحوار.
شروط نجاح الحوار
يقع على عاتق اتحاد الشغل مهمة البحث عن خيط رفيع يرقع به العلاقات المترهلة بين الرئاسات الثلاثة (الجمهورية والبرلمان والحكومة)، وإرساء قاعدة صلبة لتذليل صعوبات التواصل بينهم تمهد لتقريب وجهات النظر والوصول إلى صياغة تكون محل توافق بينهم، وذلك بالإضافة إلى ضمان عدم تفخيخ الحوار وتفريغه من محتواه وهو سياسي بالأساس.
في تصريح له؛ عبر السيد راشد العنوشي رئيس مجلس الشعب عن تفاؤله بحل الأزمة السياسية التونسية قريباً، قائلاً أن الحل يكمن في يد النخبة السياسية التي عليها أن تلجأ للحوار وإعلاء مصلحة تونس أولاً. #تونس pic.twitter.com/7dQajB9mYA
— نهضة تونس (@nahdattunisia) March 5, 2021
ومن الشروط الأخرى لنجاح المبادرة، تخلي قيس سعيد عن نقطة رحيل الحكومة، فاستقالة المشيشي التي يرى فيها رئيس الجمهورية خطوة لعودة المبادرة إليه في تكليف الشخصية الأقدر، لن تلقى قبولًا من حركة النهضة والحزام السياسي الداعم للحكومة.
لذلك، فإن قيس سعيد عليه الاقتناع بضرورة تثبيت المؤسسات الثلاثة واستقرارها في الوقت الراهن لتجاوز المحنة، فيما يُمكنه الحصول على ضمانات لإقامة تسوية شاملة تدخل تعديلات على الحكومة، وعدم استهداف مؤسسة رئاسة الجمهورية من الأحزاب المشاركة في الحكومة.
هذه الخطوة يجب أن يقع تدعيمها بإعادة سير علاقة العمل الطبيعية بين قرطاج والقصبة التي تقوم على التشاور والتنسيق ووقف القطيعة بينهما، فسعيد عليه طرح فكرة إقصاء المشيشي الذي يُروج أنه خرج عن طوعه ووضع يده في يد رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي الذي شكل له حزامًا برلمانيًا قويًا يضمن له مواصلة الحُكم.
من جهة أخرى، يجب إنهاء الصراعات الضيقة والثنائية بين الأحزاب السياسية داخل البرلمان عبر حوار سياسي يجمع كل الفرقاء والأعداء على نفس الطاولة دون إقصاء لأحزاب مثل الحزب الدستوري الحر وائتلاف الكرامة، إضافة إلى وضع ميثاق سياسي أو قانون داخلي يُلزم الجميع بالعمل داخل البرلمان في كنف الاحترام والتفاهم.
مخرجات الحوار
على الحوار المقبل أن يطرح مراجعة عميقة للنظام السياسي والانتخابي لتحصين البلاد من الأزمات وإعادة العملية السياسية لبوصلتها الحقيقة بعيدًا عن مشاريع اقتسام السلطة والمواقع وصراعات الأحزاب على المصالح الضيقة من أجل معالجة الملفات الكبرى.
بالإضافة إلى تحديد مرحلة انتقالية جديدة وشكل إدارة الحكم طيلة مدة سنة أو سنة ونصف يتم فيها إعداد قانون انتخابي جديد يضمن انتخابات حرة ونزيهة، مع إمكانية طرح انتخابات سابقة لآوانها، وذلك بعد مراجعة عميقة للنظام السياسي والانتخابي.
من جهة أخرى، يجب على الحوار بلورة الحلول العاجلة وفق رؤية وأهداف إستراتيجية شاملة لوقف نزيف المالية العمومية وسد الثغرات في الميزانية وتحريك عجلة التنمية المنتجة للثروة واتخاذ إجراءات لتفادي الانهيار والسقوط التام على غرار مراجعة قانون البنك المركزي ووقف التوريد العشوائي الذي أضر بميزان المدفوعات وأفرز عجزًا تجاريًا.
ومن المخرجات الأساسية الأخرى للحوار المقبل، ضرورة أن لا يتم ترحيل الخلافات بين مكونات المشهد السياسي بتشكيل حكومة إنقاذ على هيئة حوار 2014 الذي أنتج حكومة تكنوقراط برئاسة المهدي جمعة التي أثبتت عدم جدواها، فالدفع بهذا الخيار يعد تأبيدًا للأزمة وهروبًا إلى الأمام.
هل تنجح أطراف الأزمة التونسية في تشكيل حكومة إنقاذ مدعومة من الجميع#العرب_اللندنية https://t.co/DNPdUEpU5P
— العرب (@alarabonline) March 29, 2021
على تأخر الحوار الوطني وغياب ضمانات نجاحه، تبقى مبادرة اتحاد الشغل الحل الوحيد أمام التونسيين في الوقت الراهن لإعادة توازن السفينة التي تتقاذفها رياح العاصفة، فكسر أمواج الثورة المضادة وحالة الشلل المستديم تتطلب تنازلات كبيرة من الفاعلين السياسيين من أجل إرساء عقد اجتماعي شامل يحول دون تحويل التسوية المرتقبة إلى مجرد تقدم حذر تتحكم فيه التغيرات والقوى الخارجية.