تتجه تونس إلى اعتماد بعض الإصلاحات الضرورية لتجنب انهيار اقتصادها المتهالك، منها اعتماد سياسة الدعم الموجه عوض توجيه الدعم لعموم التونسيين على الطريقة الحاليّة الذي يستفيد منه الأغنياء أكثر من الفقراء.
الدعم الموجه
بداية من النصف الثاني من العام الحاليّ سيكون التونسيون على موعد مع انتهاء العمل بسياسة الدعم الحاليّة، بعد أكثر من 5 عقود من إرساء أول مخطط لدعم القدرة الشرائية للمواطنين، وفق القانون الأساسي للميزانية سنة 1967 المتعلق بتنظيم الصناديق الخاصة في الخزينة.
ستنهي الحكومة السياسة الحاليّة وتنتقل إلى سياسة جديدة تقوم على الدعم الموجه، أي أنها ستنتقل من مرحلة دعم المواد إلى الدعم النقدي للأسر الضعيفة في ظل ضغوط كبيرة يمارسها صندوق النقد الدولي على تونس من أجل بدء إصلاح سياسة الدعم.
تهدف سياسة دعم المواد الغذائية في تونس إلى إعادة توزيع الدخل الوطني والمحافظة على المقدرة الشرائية للفئات أصحاب الدخل الضعيف، إذ يتولى الصندوق العام للتعويض ضبط كلفة بعض المواد بهدف الضغط على أسعارها وجعلها في مستويات مقبولة، ويتم تعديل أسعار البيع للعموم لتغطية ارتفاع تكاليف إنتاج المواد المدعمة جزئيًا مع الأخذ بعين الاعتبار مستوى الدخل ومراعاة الإمكانات التي يمكن تعبئتها لتغطية كلفة الدعم.
من بيع الإصلاحات الأخرى المفروضة على تونس مراجعة حصص الدولة في المؤسسات والمنشآت الحكومية
من المنتظر أن تبدأ الحكومة شهر يوليو/تموز المقبل في اعتماد سياسة الدعم النقدي الموجه للأسر بدلًا من دعم المواد، على أن يكون تطبيق السياسة الجديدة متدرجًا وقد يستغرق أكثر من سنة، لتجنب صدمة المرور المباشر من مرحلة المواد المدعومة إلى المواد بالسعر الحقيقي.
وتعمل السلطات الآن على حصر عدد الأسر المستحقة للدعم من الطبقات الضعيفة والمتوسطة، مع تحديد مبالغ الدعم التي سيتم تحويلها لفائدة هذه الأسر استنادًا إلى دراسة شاملة عن الكلفة وتطور الأسعار، كما تنوي الحكومة فتح قاعدة بيانات لتسجيل كل الأسر التي تؤكد حاجتها للدعم على أن تتم في وقت لاحق إعادة تقييم أحقيتها للدعم أو عدمها.
انتقال تدريجي
الانتقال إلى سياسة الدعم النقدي الموجه ليس وليد اللحظة، فالسلطات التونسية الحاكمة تدرس منذ فترة، مسألة إعادة النظر في منظومة دعم المواد الاستهلاكية من أجل ترشيد الدعم وتوجيهه نحو مستحقيه.
إستراتيجية تفكيك منظومة الدعم بدأت قبل سنوات، تحديدًا سنة 2017، إذ اعتمدت الحكومة حينها على خطة مرحلية تقوم على رفع الدعم التدريجي على مادة السكر والترويج لسكر معلب في الأسواق لا يخضع سعره للدعم الحكومي.
في تلك الفترة، رفعت الدولة تعريفة الكهرباء في يناير/كانون الثاني 2017، علمًا بأنه في ذلك الحين تبلغ كلفة إنتاج الكهرباء 176.2 مليم للكيلوواط/ساعة ويباع للفئات الاجتماعية بـ45 مليم للكيلوواط/ساعة، كما تم إقرار تعديلات على أسعار البيع للعموم لبعض المواد البترولية، ضمن آلية التعديل الآلي.
وفق بيانات رسمية، ارتفعت ميزانية الصندوق العام للتعويض قرابة الضعف في الفترة بين 2011 و2017، فقد قفزت من 730 مليون دينار (300 مليون دولار) إلى نحو 1.6 مليار دينار (640 مليون دولار) مقابل حصول الطبقات الضعيفة على 12% فقط من هذه الميزانية، فيما يذهب الباقي إلى الطبقات الغنية والفنادق والمطاعم.
يُذكر أنه قبل 13 من يناير/كانون الثاني 2011 لم تكن العديد من المواد الغذائية مشمولة بمنظمة الدعم قبل أن يلحقها آخر خطاب توجه به الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، في محاولة فاشلة منه لتهدئة الشعب والبقاء في السلطة بهذه المنظومة، وهو ما أدى إلى تفاقم ميزانية صندوق الدعم.
ضمن قانون موازنة 2021 قلصت الحكومة من نفقات الدعم بنحو 300 مليون دينار (الدولار = نحو 2.8 دينار) مقارنة بموازنة 2020 تنوي الحكومة من خلالها إصلاح سياسة الدعم ومحاصرة تهريب المواد المدعومة، فقد خصصت نفقات بـ3.4 مليار دينار للدعم، من بينها 2.4 مليار دينار لدعم الغذاء و401 مليون دينار لدعم المحروقات و600 مليون دينار لدعم النقل.
إصلاحات أخرى
فضلًا عن مراجعة سياسة الدعم، على الدولة إجراء العديد من الإصلاحات الكبرى، وفي يناير/كانون الثاني الماضي، أعلن رئيس الحكومة هشام المشيشي حزمة إصلاحات كبرى ستشرع الحكومة في تنفيذها، طالبًا من البرلمان أن يساعد السلطة التنفيذية على تنفيذ هذه الإصلاحات في آجال مختصرة.
وتشمل حزمة الإصلاحات الاقتصادية التي على الدولة التونسية القيام بها بناء على طلب صندوق النقد الدولي، ضبط كتلة الأجور، إذ تضاعفت فاتورة الأجور في تونس إلى نحو 20.1 مليار دينار (7.45 مليارات دولار) في 2021، من 7.6 مليارات دينار في 2010، بزيادة بلغت نسبتها 164%.
وتتوقع ميزانية تونس 2021 أن يصل الاقتراض إلى 7.2 مليار دولار، بما في ذلك نحو 5 مليارات دولار في شكل قروض خارجية
يقول صندوق النقد الدولي إن فاتورة الأجور في القطاع العام تبلغ ما يقارب 17.6% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي من بين أعلى المعدلات في العالم، وهو ما ينفيه العديد من النقابيين، مؤكدين أن الأجور في تونس تحتاج إلى الرفع أكثر.
من بين الإصلاحات الأخرى المفروضة على تونس مراجعة حصص الدولة في المؤسسات والمنشآت الحكومية، إلى جانب التدقيق في خطة الحكومة لفتح آفاق جديدة أمام المستثمرين، خاصة الأجانب، والإصلاح الجبائي والنقدي والمالي.
تفادي الانهيار التام
هذه الإجراءات الهدف منها خفض الإنفاق العام والحاجة إلى القروض، خاصة أن المالية العامة في تونس تعاني من وضع صعب للغاية، إذ سجلت تونس العام الماضي عجزًا ماليًا قدر بنحو 11.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وانكماش اقتصادي وصل إلى 8.8%، وهي النسبة الأعلى منذ ما يقرب من أربعة عقود.
وسبق أن اشترط صندوق النقد الدولي خلال جولات التفاوض مع الحكومة التونسية التي دارت بين 2016 و2020، ضرورة الحد من الاعتمادات المالية الموجهة نحو منظومة الدعم، مطالبًا بالحد منها وتوجيهها بطريقة مختلفة عما يدور الآن.
وتسعى الحكومة التونسية إلى تفادي الانهيار التام، إذ تواجه تونس أصعب فتراتها منذ يناير/كانون الثاني 2011، ذلك أنها تعاني بسبب أزمة كورونا التي تسببت في غلق مئات المؤسسات وخسارة أكثر من 160 ألف منصب شغل وفق أرقام المعهد التونسي للإحصاء.
أزمة فيروس كورونا اقترنت بأزمة سياسية غير مسبوقة، فقد يتواصل الانسداد وعدم الانسجام بين رؤوس السلطة، ما أربك السير العادي للدولة وأثر على عملها وصورتها خارجيًا، وتزامن ذلك مع انفجار اجتماعي غذته الاعتصامات وقطع طرق الإنتاج في العديد من المواقع.
نتيجة هذه الأزمات، تواجه تونس مشكلة كبيرة في سداد أجور الموظفين كما أنها أجلت تنفيذ العديد من المشاريع الكبرى بسبب عجزها عن دفع مستحقات مقاولي البنى التحتية على غرار الجسور والطرقات.
وتتوقع ميزانية تونس 2021 أن يصل الاقتراض إلى 7.2 مليار دولار، بما في ذلك نحو 5 مليارات دولار في شكل قروض خارجية، ويقدر سداد الديون المستحقة هذا العام عند 16 مليار دينار (نحو 5.9 مليار دولار) ارتفاعًا من 11 مليار دينار (نحو 4 مليارات دولار) في 2020.
المتأمل لهذه الأرقام والمعطيات، يرى أن تونس على حافة الإفلاس والانهيار الاقتصادي إن لم يتم تدارك الوضع والتسريع بالاصلاحات وأيضًا اتباع إستراتيجيات كبرى للنهوض باقتصاد البلاد المتعثر، فضلًا عن تجاوز رؤساء البلاد المشاكل المختلقة بينهم.