قبل أكثر من قرن ونصف ألغت فرنسا الرق في مستعمراتها، لكن آثار هذه التجارة غير الإنسانية ما زالت ماثلة للجميع في العديد من المناطق رغم المحاولات الفرنسية العديدة للتغطية عليها ومحوها، ومنها جزيرة غوادلوب – الشاهدة على بشاعة العبودية الفرنسية – وماضيها الحزين.
تاريخ غوادلوب الاستعماري
إداريًا، تقع غوادلوب ضمن الإدارات الفرنسية ما وراء البحار، تتمتع هذه الإدارات بنفس وضعية الإدارات الأخرى في فرنسا الأم، فتطبق أحكام الدستور والقوانين الفرنسية (القانون المدني وقانون العقوبات والقانون الإداري والقوانين الاجتماعية وقوانين الضرائب) فيها، وبالتالي فهي جزء من كل من فرنسا والاتحاد الأوروبي وتستخدم اليورو عملةً لها.
أما جغرافيًا، فتوجد جزر غوادلوب ضمن مجموعة جزر ليوارد الواقعة في جزر الأنتيل الصغرى التي تمتد على شكل قوس من المحيط الأطلسي والبحر الكاريبي، ويبلغ تعداد سكانها 403750 نسمةً وتقدر مساحتها بـ1628 كيلومترًا مربعًا.
طيلة عقود من الزمان، كانت فرنسا تجتث المستضعفين السود من ديارهم، وتنقلهم عنوة لبيعهم في سوق النخاسة
سنة 1493، بدأ تاريخ غوادلوب الاستعماري، وذلك عندما وصل كريستوفر كولومبوس للمرة الأولى إلى الجزيرة خلال بحثه عن مياه للشرب، لتنتقل السيطرة على الجزيرة من سكان الأراواك الأصليين إلى الهنود الكاريبيين ثم إلى الإسبانيين حتى طردهم الفرنسيون وذبحوا السكان المحليين الذين ثاروا ضدهم، ثم أعلنوها رسميًا مستعمرة غوادلوب عام 1635.
لم تستمر السيطرة الفرنسية على الجزيرة، فقد استطاع البريطانيون السيطرة عليها بتاريخ 4 من فبراير/شباط 1810، واستمرت السيطرة البريطانية حتى عام 1816، ثم تنازلت عنها إلى السويد لفترة وجيزة من الزمن بلغت الـ15 شهرًا، وجاء هذا في ضوء إعلان قيام الحلف الأنجلو-سويدي يوم 3 من مارس/آذار 1813، وظلت الإدارة البريطانية في موقعها خلال فترة التبعية السويدية واستمر الحكام البريطانيون في مناصبهم.
ثم تنازلت السويد عن غوادلوب إلى فرنسا في معاهدة باريس عام 1814، وأدت التسوية التالية بين بريطانيا والسويد إلى ظهور صندوق غوادلوب، واعترفت معاهدة فيينا عام 1815 بالسيطرة الفرنسية على غوادلوب بصورة حاسمة، وفي عام 1946 أصبحت مقاطعة فرنسية، وهو وضع قانوني فضفاض يعطي للجزيرة حكومةً منتخبةً محليًا لكنها تأتمر بأمر الحكومة الوطنية في باريس.
المحرك الأساس لإمبراطورية فرنسا في البحر الكاريبي
هذه الجزيرة لا تعني للسياح إلا الشمس والشواطئ الجميلة والبحيرات الجبلية على القمم البركانية ومراكز التسوق العملاقة والعلامات التجارية الفاخرة لأشهر دور الأزياء العالمية، لكن سكان الجزيرة اليوم ضحايا عقود من الظلم الفرنسي.
طيلة عقود من الزمان، كانت فرنسا تجتث المستضعفين السود من ديارهم وتنقلهم عنوةً لبيعهم في سوق النخاسة أو مقايضتهم ببعض المواد ومن ثم للعمل بمزارع القصب السكري في أقاليم ما وراء البحار الواقعة تحت حكمها الاستعماري.
كانت السفن والبواخر الفرنسية، تنتقل من مرافئ لاروشيل وبوردو وسان مالو ولوريان ولوهافر ونانت محملة بالأنسجة والأسلحة والكحول والرصاص والحديد، تتوقف في مستودعات البضائع على السواحل الإفريقية ما بين السنغال وخط الاستواء لتتزود بالعبيد.
يمثل المتحف وسيلةً لفرنسا للتهرب من الإرث الدموي لتجارة العبيد التي استمرت طيلة أكثر من قرنين
تحشر المئات في أسفل كل سفينة، ثم تعبر المحيط لتفرغ ما بقي حيًا من حمولتها البشرية في أقاليم البحر الكرايبي التابعة لفرنسا من ذلك جزيرة غوادلوب، ثم تعود بالقهوة والكاكاو والسكر.
كباقي العبيد في الأقاليم الفرنسية الأخرى، تعرضوا في غوادلوب لمعاملة سيئة، فقد كانوا يعملون في مزارع ومصانع تكرير السكر – التي تتطلب عملًا ومجهودًا كبيرًا – على إيقاع سوط السيد القاسي دون شفقة أو رحمة منه، وكانت الوجبات محدودة والرعاية الصحية مفقودة.
كان هؤلاء العبيد المحرك الأساسي لإمبراطورية فرنسا في البحر الكاريبي، إذ ساهموا في أن تكون فرنسا الاستعمارية أكبر مصدر للسكر والقهوة والقطن في العالم خلال القرن الثامن عشر، ليتطور بذلك اقتصادها وتحتل المراتب الأولى عالميًا.
مع ذلك تنكروا لهم وتفننوا في تعذيبهم وانتهاك كرامتهم والحط من إنسانيتهم وذلك لإشباع رغبتهم في التسلط وامتلاك إرادة الناس دون وجه حق، فالدولة الفرنسية كانت سندًا لهم، تشرع لهم استبدادهم وتقدم لهم يد العون لذلك، فالمهم عندها اقتصادها رغم تعارض ذلك مع مبادئ حقوق الإنسان التي تنادي بها.
متحف للتهرب من الإرث الدموي
في مايو/أيار 2015، دشن الرئيس الفرنسي آنذاك فرانسوا هولاند أكبر متحف في العالم مخصص لتاريخ العبودية، يحمل اسم “ميموريال آكت“، في مدينة بوانتابيتر التابعة لجزر غوادلوب، وأقيم المتحف على أرض كانت تستخدم مصنعًا للسكر، وهو من تصميم مكتب محلي للهندسة المعمارية.
يقع المتحف التذكاري في منطقة زلزالية، في جزء من الجزيرة معرض بشكل خاص للرياح القوية والأعاصير، تم تغليف الواجهة العالية للمتحف، التي تمتد على طول 240 مترًا بحبال معدنية متداخلة من الألمنيوم ترمز للقيود التي كان الزنوج الأفارقة يساقون بها إلى السفن التي تنقلهم للعمل عبيدًا في خدمة السيد، فيما وضع في استقبال الزوار منحوتة من المعدن الغامق على شكل شجرة ذات 14 غصنًا أسود ترتفع نحو السماء وتجسد الأرواح الضائعة نتيجة لتجارة الرقيق.
في هذا المتحف يوجد أكثر من 500 قطعة بينها صور ووثائق وشهادات وأفلام وحاجيات من واقع الحياة اليومية للعبيد، تعرض أساليب تعذيب العبيد وأنماط عيشهم وتعرض نسائهم وأطفالهم للتعذيب والاغتصابات متعددة الأشكال التي مارسها الرجل الأبيض بحقهم.
يمر الزائرون عبر المخازن الافتراضية للقارب، فيخرجون مبهورين بسيل من الضوء مثل العبيد الأفارقة الذين يهبطون على شواطئ البحر الكاريبي، كما يتم تقديم تجارب حسية متعددة – على وجه الخصوص -، يتم سماع صوت المدفع، الذي يذكر بالمعارك البحرية.
تأمل فرنسا من خلال هذا المتحف التكفير عن جرائمها في حق العبيد، لكن يرى سكان الجزيرة أن الغاية منه تأكيد دور فرنسا الاستعمارية هناك، فهو امتداد لتراث فرنسا الاستعماري، وفق رأيهم، فعوض بناء المتحف كان من الأجدر بالفرنسيين تقديم التعويضات عن العبودية.
كما يرى سكان الجزيرة، أن هذا المتحف يمثل وسيلةً لفرنسا للتهرب من الإرث الدموي لتجارة العبيد التي استمرت طيلة أكثر من قرنين، دون أن تعترف بخطئها، فقد بقيت تتكلم فقط من غير أن تتخذ خطوات ملموسة في الواقع.
رغم محاولات فرنسا التغطية على جرائمها في حق ملايين العبيد بأماكن عدة من العالم، فقد مُنيت هذه المحاولات بالفشل فآثار تلك الجرائم لا يمكن محوها عن طريق تشييد متحف أو نصب تمثال أو إلقاء بعض الخطب المنمقة.