عرفته منذ أكثر من عقد وحاورته أكثر من مرة، هو المجنون العاشق لمدينته الموصل التي نراها حاضرةً دومًا في كتابته، نوزت شمدين الذي غادر الموصل منذ 6 أعوام في منفاه الاختياري بالنرويج. نراه اليوم يتحفنا بروايته الجديدة “مستر نوركَه” مازجًا بين الثقافتين العراقية والنرويجية.
هي عمله الأول خارج حدود الوطن الأم، غير أنه لم يذهب بعيدًا، فالنرويج بالنسبة له الآن وطنه الثاني ولا بد من تلاقح للثقافات إن صح التعبير. الرواية بمجملها مدهشة، تسلسل جميل للأحداث، قرأتها في أقل من يومين وكأنني ألتهم الورق، حرصت في حواري الابتعاد عن أي حرق لمجريات الرواية، بل على العكس شوقت القارئ لها، فكان هذا الحوار إلكترونيًا لبعد المسافة ومحظورات السفر بسبب جائحة كورونا.
نوزت شمدين روائي وصحفي عراقي، حاصل على جائزة سمير قصير لحرية الصحافة 2017 وجائزة الصحافة الاحترافية 2018-2020، وله مؤلفات عديدة، منها: قادمون يا عتيق ونصف قمر وسقوط سرداب وشظايا فيروز.
“مستر نورگه” نبدأ من العنوان لماذا هذا الاسم؟
نوركَه تعني النرويج باللغة النرويجية ومستر تعني سيد، وعراقيًا يطلق لقب سيد على رجل الدين أو أي شخص بخلفية دينية وفي مناطق الشمال يطلق على العرافين، وسبب إطلاق هذا الاسم على نافع في الرواية، قدرته الخارقة على تذكر الأشياء التي يقرأها أو يستمع إليها لدرجة أنه يستطيع ترديدها كما قرأها وبذات الصوت أو النبرة التي أستمع إليها.
لذلك لجأ إليه كبار السن في منطقة الحارثية حيث يسكن في بغداد، ليودعوا في رأسه وصاياهم الصوتية، وبمجرد إكمال مراسم دفن المتوفى منهم، يذهب ذووه مباشرة إلى منزل نافع ليستمعوا إلى الوصية التي ينقلها إليهم بحنجرته كأنه جهاز تسجيل.
وأيضًا لشغفه بالنرويج وكل ما يتعلق بها، صار الناس في بغداد يلقبونه بـ”سيد نوركَه”، ثم أصبحوا يلقبونه لاحقًا في المدرسة “مستر نوركَه”.
كم أخذت منك الرواية زمنًا للكتابة؟ وأين كنت عندما كتبتها؟
السيدة التي أقلتني مع أفراد عائلتي الصغيرة من مطار كردمون في أوسلو يوم 6 من مارس/آذار 2014، لم تأخذنا مباشرة إلى منزلنا في مدينة Skien التي أعيش فيها ككاتب ضيف، بل أوقفت المركبة أمام تمثال كبير يتوسط مركز المدينة، وسألتني بالإنجليزية إن كنت أعرف لمن التمثال، ترجلت وقرأت الاسم على قاعدته، عدت إليها وقلت بصوت متعب قائلًا: “هذا صاحب عدو الشعوب، إنه هنريك إبسن”، فأومأت برأسها وقالت: “المدينة التي تستقبلك الآن أنت وعائلتك، هي المدينة التي ولد فيها إبسن في 1828”.
في تلك اللحظات خطرت على ذهني فكرة العراقي الذي يعتقد أنه ينتمي إلى عائلة إبسن، لكنها بقيت مجرد فكرة، وانشغلت بكتب “قادمون يا عتيق – نوفمبر/تشرين الثاني 2014 ” ورواية “سقوط سرداب – 2015” ورواية “شظايا فيروز – 2017” ورواية “ديسفيرل – 2019″، والمفارقة أن الروايات كلها صدرت في شهر فبراير/شباط، وحتى “مستر نوركَه – 2021”.
جاء في الإهداء إلى مدينة skien التي شهدت ولادتكما معًا وتقصد الكاتب والمسرحي النرويجي هنريك إبسن وأنت، ماذا تقصد بالولادة؟ وهل فعلًا هناك ولادة ثانية للإنسان؟
كل شيء يختلف في النرويج مقارنة بالعراق، اللغة والقوانين والمجتمع والتقاليد والتأريخ والمناخ والتضاريس والوجوه والروائح.
وبما أنه المكان الذي سأقيم فيه مع كل تلك المتغيرات، فبلا شك هي ولادة جديدة، كما أن العبارة هي كلمة شكر لمدينة Skien التي استضافتني ومنحتني جناحين حلقت بهما وطفت في أرجاء االعالم.
ماذا تقصد بالنسخة العراقية من هنريك إبسن؟
نافع ابن الاثني عشر عامًا، كان والده يضربه بعصا الخيزران ويحبسه في المنزل دون ذنب ارتكبه، فأرسلته والدته من بغداد إلى البصرة ليبقى في عهدة أخيها غير الشقيق بشير سمبوسة خلال أشهر صيف 1977، وهناك قابل الرحالة النرويجي الشهير ثور هايردال الذي كان في القرنة لبناء قارب – دجلة – من البردي، ليروي له ما يتلقاه هو ووالدته من سوء معاملة على يد والده الذي خسر قبلها بسنتين كل ما يملكه من أموال التجارة، لينتقل من حياة الغنى إلى الفقر، وكيف أنه يشغل نفسه في سجن المنزل باللعب بدمى القماش التي تصنعها له والدته.
فيتذكر هايردال أنه قرأ عن طفولة مشابهة لتلك التي يعيشها نافع، وقال له إنها نسخة من طفولة أبو المسرح الحديث هنريك إبسن، فيعود نافع إلى بغداد ليقضي ساعات طوال في المكتبة العامة يقرأ فيها كل ما يقع بين يديه من مسرحيات إبسن ثم ما كُتب عنه وبعدها يبدأ رحلة التفتيش في شارع المتنبي عن كل مطبوع يتعلق بأدبه وبلاده مملكة النرويج.
وسنة بعد أخرى يبدأ بتقمص شخصية إبسن ويرتدي ثيابًا مشابهةً للتي كان يرتديها (سترة طويلة وبنطال أسود مع حذاء بكعب عالٍ)، وحين أصبح بالغًا طال شعره واندفع إلى الخلف، ونمت لحيته فيما عدا الذقن والشارب مع نظارة طبية بعدستين صغيرتين لم يكن عمليًا بحاجة إليها، وهكذا أصبح نسخة من هنريك إبسن.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن ذلك الانتقال في شخصية نافع أونوركَة تزامن مع تفاقم مرض الشيزوفرينيا الذي يكتشف الأطباء أنه مصاب به، وهو السبب الذي يخرج به من الخدمة العسكرية وينجو من الموت في جبهات القتال، وهو أيضًا السبب الذي جعل والدته وشقيقته واجدة تسايرانه في كل ما يفعله، كون الأطباء أوصوهما بذلك لكي لا تخرج حالته عن السيطرة تمامًا على أمل أن يعود إلى عقله ذات يوم.
ما أردت قوله في تركيب هذه الشخصية، أن هناك كثيرين لا يعيشون كما هم فعليًا، بل يحاولون جهد إمكانهم تقمص الآخرين، يقضون أعمارهم في فعل ما يفعله الغير ويرددون ما يتفوهون به، إنها حيوات مستنسخة ومهدورة.
أراك تقتبس كثيرًا من هنريك إبسن داخل أحداث الرواية؟
شخصية نوركَة تقتضي ذلك، فحالته تتطور من مجرد التقليد ووهم الانحدار من عائلة إبسن إلى إيمان مطلق بأنه هو إبسن الذي نجح في الحلول بجسده ليقوم بشيء فاته القيام به خلال حياته، لذا فهو يردد باستمرار عبارات التقطتها ذاكرته المغناطيسية من مسرحيات إبسن، هي بالنسبة له ثوابت وقوانين دون حياته على أساسها بينما بالنسبة للآخرين مجرد هلوسات لا غير وفي أحسن الأحوال يعدونها مجرد كلمات قيلت في زمن آخر ومجتمع غريب عن المجتمع العراقي.
لو تفحصنا الشخصية هنا بدقة، سنجد نسخًا كربونيةً عديدةً منها في مجتمعاتنا، فهناك عشرات الآلاف من الذين يؤمنون إيمانًا مطلقًا بأنهم ينحدرون من نسل النبي محمد على سبيل المثال، ويرددون كل ما التقطتها أسماعهم من أقوال نسبت إليه دون تحرٍ حتى صارت قوانينًا ملزمة أكثر من الدستور الأساس وهو القرآن.
وخارج نطاق الدين سنجد أمثلةً أخرى مشابهة، هذا ليس دفاعًا عن شخصية نوركَه إزاء التهمة التي ألصقتها به في الرواية (مرض الشيزوفرينيا)، لكن بالفعل هو ينفق عمره بأكمله من أجل فكرة يؤمن بها، تمامًا كما يفعل الآخرون الذين نعدهم أسوياء.. فما الفرق؟
إلى أي حد نرى نوزت الإنسان في بطل الرواية نافع؟
لا يمكن أن أهرب من هذا الأمر، فجزء مني ظاهر ومفضوح في شخصية نوركَه، وهو ترجمة الإيمان بفعل والإصرار على القيام به حتى إن كان جنونيًا، كما أن السنوات التي قضاها من عمر الـ12 ولحين جاوز العشرين في المكتبة، هي ذات السنوات التي كنت أتردد فيها على المكتبة المركزية العامة في الموصل، وشخصية فاضل كانت بالفعل موجودة هناك، لكن بطبيعة الحال أضفت طلاء الخيال السحري على التفاصيل لكي لا تكتمل فضيحتي.
هل أثرت طبيعة النرويج على سرد نوزت شمدين الزمانمكاني؟
من يقود مركبته بسرعة عالية ولمسافة طويلة، سيجد صعوبة في التكيف مع السرعة الواطئة حين يدخل شوارع المدن، كذلك حدث معي حين انتقلت من بلاد الزحام وحرب الشوارع والفوضى واللاعدل في بعض المرافق والصيف اللاهب والجو المغبر بفعل التصحر الذي يقضم أراضيه عامًا بعد آخر إلى بلاد الأمن والبحار والأنهر والغطاء النباتي والجو النقي والعدالة الاجتماعية السائدة.
احتجت إلى أشهر طويلة لأتكيف مع البيئة الجديدة والبرود الطاغي في الشخصية النرويجية، فأحيانًا يتطلب من المرء للحصول على موعد فحص طبي أن ينتظر ستة أشهر، بينما في العراق كانت ست ساعات من الانتظار مثلًا تشكل ثقلًا كبيرًا لم أكن لأحتمله.
لا أقول إنني متكيفٌ تمامًا، فما زالت ثورات الغضب تنتابني من الهدوء المزعج في حياتي الجديدة، لكن على الأقل أصبحت أتعامل مع بعض الأمور المثيرة لهرمونات الاستياء على طريقة السياح، برسم ابتسامة بلهاء على وجهي ومحاولة مجاراة قطعة الجليد التي أتعامل معها لا سيما في عيادة طبيب الأسرة أو المؤسسات التي يتحتم علي الاستعانة بها، لكن لحسن الحظ، لم يتسرب ذلك إلى اشتغالي الأدبي حتى الآن ولا أعرف ما تخبئه الأيام.
رغم أن بطل روايتك على غير ما ألفناه في رواياتك السابقة من بغداد، فإنك تعرج على الموصل لتدور بعض الأحداث فيها، ما سر تعلقك بالموصل؟
منذ سنوات بعيدة وقصة “عبود آكل الأطفال” في الموصل سنة 1916-1917 تستفزني، ليس لبشاعة ما قام به مع زوجته فقط، بل للغموض الكبير الذي يكتنفها، وقد سمحت لي مستر نوركَه بتناولها من زاوية جديدة تمامًا، وصار بوسع الذين ينقبون في المسكوت عنه تاريخيًا مثلي، أن يقرأوا نسخة متكاملة من القصة بعد التعديلات التي أجريتها عليها.
أما فيما يتعلق بالموصل، فهذه المدينة تسكنني، درت في شوارعها وأزقتها لما يزيد على أربعين سنة، وها هي تدور في ذهني منذ سبع سنوات وهو عمر هجرتي. ولدت وأكملت تعليمي وعملت وتزوجت فيها وأنجبت أطفالي، فهل يتبخر كل ذلك بمجرد ركوبي طائرة الهجرة القسرية؟ إنني وكما أقول باستمرار مربوط إلى هذه المدينة بأسلاك غير مرئية تشدني إليها، لذا فلا غرابة أن توجد باستمرار في كتاباتي.
لماذا هذه النزعة الراغبة بالهجرة عند الشباب وأنت تصورها بنورگه، نجدها على النقيض من كبار السن وأقصد هنا أمه محاسن؟ هل للهجرة كينونة في تكوين نوزت الروائي؟
كنتُ آخر شخص متبقٍ من أسرتي في الموصل، تقاسمتهم المنافي والمهاجر واحدًا بعد الآخر، لكنني واصلت وجودي فيها رغم المخاطر المميتة التي كنت أواجهها بحكم عملي الصحفي في أسوأ الفترات التي مرت بها الموصل قبل احتلالها من داعش.
كان مصير الكلمة الحرة قتلًا في وضح النهار كما حدث لأكثر من خمسين زميلًا لي قتلوا بين 2004 و2014، لكن حين وصلت التهديدات حد استهداف أطفالي، توجب عليّ الرحيل، ولن أنسى أبدًا يوم كتبت خبر مغادرتي، تعليقًا لأحد الأشخاص قال فيه: “الوطن ليس دكانًا نغلق أبوابه عندما تسوء الأمور”! جرحتني العبارة بشدة، لكون من قالها كان كائنًا شبحيًا لا يظهر إلا في أوقات يقل فيها التوتر الأمني، ويضع حصانًا كصورة شخصية له في حسابه الفيسبوكي ومنشورات من نوع “جمعة مباركة” وأدعية للرزق والحفظ وغيرها، مع أنه كاتب ويفترض أن لديه موقفًا تجاه كل ما يحصل لمدينته.
وحين علمت بعدها بسنوات أنه في إسطنبول وقد تقدم بطلب هجرة للأمم المتحدة، أرسلت له رسالة قلت فيها: “أنا آمن لكنني لست ساكتًا، العبرة بالمواقف وليس بغلق أو فتح باب دكانة الوطن!”.
البحث عن وطن آمن ليس عيبًا، بل حق أقرته الكتب السماوية والقوانين الدولية، لذا لا يمكنني أن أتحول إلى شرطي يحاسب الشباب على رغبتهم في العيش بكرامة في بلدان قالت ومنذ أمد بعيد وداعًا للسلاح، كم عمرًا في العمر لكي نقضيه بانتظار تحسن الظروف في المكان الذي شهد في أربعة عقود، حروبًا متلاحقة وحصارًا ظالمًا وأمنًا مبتورًا على الدوام وحكومات غارقة في الفساد وشوارع يتركها الإرهابيون لتمسكها الميليشيات التي لا تقل عنهم إجرامًا وبشاعةً.
الرسائل 227 لماذا هذا الرقم؟ ولماذا اعتمدت صيغة الرسالة في سرد بعض مجريات روايتك؟
هذا هو مجموع الرسائل التي أرسلها شخص أعرفه طوال عشر سنوات مجنونة عاشها في وهم حب كاتبة عربية كبيرة ولم يتلق ردًا منها، طبعًا لو أقسم هنا برؤوس كل القديسين الذين سمعت بهم أنه ليس أنا فلن يصدقني أحد، لكن لا بأس.
استثمرت ذلك في مستر نوركَه، وسبب اختياري لوسيلة الرسائل، هو إبراز بعض الجوانب المخفية في شخصية نوركَه، وأيضًا تقديم شخصيات تاريخية عراقية ونرويجية مع ذكر شيء عن تاريخ البلدين.
الجزء الأخير كان عبقريًا مدهشًا يدل على براعة وحرفة الرائي، لكن دعني أسألك لماذا هذه النهاية الحزينة؟
ربما لم تكن حزينة بالنسبة لي، فلقد تحقق لنوركَه ما عاش من أجله لأكثر من واحد وأربعين سنة، لقد وصل إلى هدفه، حتى إن كان ذلك الهدف بالنسبة إلينا نحن الذين نعتقد بأننا أصحاء أنه كان وهمًا، ولن أكشف المزيد هنا، لكي لا أفوت على من سيقرأ العمل متعة الاكتشاف.
ما جديد نوزت؟ وهل سنرى ترجمة “مستر نورگه” للنرويجية؟
قرر مجلس الثقافة في المقاطعة التي تقع فيها مدينة إبسن أن يتولى ترجمة الرواية، وسيحاول ممثلوه رصد المبلغ اللازم، فالترجمة من العربية إلى النرويجية تكلف ثروة.
أما عن جديدي، فبمجرد انتهائي من مستر نوركَه، بدأت وبتأنٍ شديد في رسم خريطة عملٍ لن يقل جنونًا عن سابقه، سأحتاج إلى بعض الوقت بلا شك، لكن أظن بأن ما أقدم عليه سيكون مميزًا أو أتمنى ذلك.