تشتهر تركيا كغيرها من الدول الإسلامية أنه بحلول شهر رمضان يتسابق المقتدرون من أجل سداد ديون الغارمين، دون شرط معرفة الشخص المدين، فقد يتم ذلك دون سابق معرفة، فقط من أجل نيل الثواب وإحياءً لتقليد وموروث قديم، إبان الدولة العثمانية.
في القرون الأربع التي قادت فيهم الإمبراطورية العثمانية منطقة الشرق الأوسط ووسط آسيا وأوربا وشمال إفريقيا، كانت هناك عادة منتشرة في الدولة تتعلق بتسديد ديون الغارمين في البلاد قبيل حلول شهر رمضان، وقد وضع أسس هذه العادة بشكل ممنهج السلطانة كوسيم ماه بيكر (1590- 1651) أو كما تلقب بـ”وجه القمر”.
وبينما كان رجالات الدولة مشغولين بالسياسة كانت السلطانة ونساء قصرها مشغولات بالأعمال الخيرية والمجتمعية، من إطعام للفقراء وبناء للمساجد ودور العبادة، وتدشين مستشفيات خيرية لعلاج غير القادرين، هذا بجانب المدارس وكتاتيب تحفيظ القرآن وخلافه.
تعد كوسيم واحدة من أقوى نساء الدولة العثمانية نفوذًا، وقد اكتسبت تلك المكانة كونها زوجة السلطان العثماني الرابع عشر أحمد الأول (حكم من 1603 – 1617) ثم ورثت النفوذ من خلال ابنيها مراد الرابع (حكم من 1623 – 1640) ومن بعده إبراهيم الأول (حكم من 1640 – 1648) وقد نالت معهما لقب “السلطانة الأم” وصولًا إلى حفيدها محمد الرابع (حكم من 1648 – 1687).
قال عنها المؤرخ التركي يلماز أوزتونا: “كانت ذكية إلى درجة استثنائية، ماكرة ومراوغة، أستاذة في صنع خطط سياسية ومؤامرات متعددة الوجوه، مؤثرة ومقنعة في كلامها، كانت تُعنى بإرضاء الشعب، لذا تركت خلفها مؤسسات خيرية كثيرة العدد إلى درجة لا يستوعبها العقل، ثروتها الضخمة جدًا انتقلت إلى الخزينة العامة للدولة فأنعشتها”.. فمن هي وجه القمر، أشهر سلطانات الدولة العثمانية، وأجدرهن بحمل لقب “السلطانة الأم”؟
ذكاء استثنائي
اسمها الحقيقي “أناستاسيا”، ولدت في البوسنة 999هـ/1590م، فيما تشير مصادر أخرى إلى أن موطنها الأصلي إحدى قرى اليونان، ويُقال إن والدها كان أسقفًا في جزيرة تينوس، وقد وقعت في أسر سيد أسياد “بكلربيك” البوسنة، الذي لفت نظره جمالها رغم حداثة سنها فقرر إرسالها إلى إسطنبول لبيعها.
وفي عاصمة الدولة العثمانية اشتراها القصر لتنضم إلى الحرملك، وقد ذاع صيتها لجمالها وقوامها، ما جعلها حديث جواري القصر وسيداته في آن واحد، فيما ذهب المؤرخ إسماعيل ياغي في كتابه “الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث” إلى أن بكلربيك البوسنة أرسلها ضمن مجموعة هدايا إلى قصر الباب العالي في إسطنبول، وحضرت كفتاة صغيرة في قافلة للأسرى إلى العاصمة.
ويكشف المؤرخ ياغي أنه بدخول أناستاسيا القصر العثماني “توبكابي” لفتت أنظار السلطان العثماني الرابع عشر أحمد الأول، الذي وقع في غرامها من النظرة الأولى، وعليه كان القرار بضمها للحريم المخصصات لخدمته، لكنها لم تكن كبقية الحريم، إذ أقام لها مكانة ومنزلة كبيرة رغم أنها لم تتجاوز في ذلك الوقت الـ14 عامًا.
ذكية إلى درجة استثنائية، ماكرة ومراوغة، أستاذة في صنع خطط سياسية ومؤامرات متعددة الوجوه، مؤثرة ومقنعة في كلامها
غيرت الفتاة اليونانية اسمها إلى كوسيم بعد دخولها للإسلام، فيما أطلق عليها السلطان اسم “ماه بيكر” أي “وجه القمر” لجمالها الأخاذ، الذي دفعه للزواج منها رغم المعارضة القوية التي واجهها من والدته السلطانة هاندان التي رفضت هذا الارتباط شكلًا وتفصيلًا، فيما قدمت له عشرات الفتيات الأخريات الجميلات.
إلا أن السلطان أصر على موقفه، مخالفًا قواعد الحرملك، وتمسك بالزواج من كوسيم وهي ابنة الـ15 عامًا، وقد أطلق عليها السلطانة القائدة، وأنجبت منه السلطان مراد الرابع والسلطان إبراهيم الأول، لتبدأ مرحلة جديدة من حياتها، حيث تحولت في وقت لا يساوي في حساب الزمن لحظات من الفتاة الرقيقة الضعيفة إلى واحدة من أقوى نساء الدولة العثمانية.. فما سر هذا التحول؟
نقطة تحول
الحب المتبادل بين السلطان وزوجته كان اللبنة الأولى لبناء حياة زوجية راقية وناجحة بكل المقاييس، إذ كان ذكاؤها الحاد دافعًا قويًا له في إدارته وحكمه للبلاد، فيما ارتأت هي لنفسها أن تعيش في كنفه، مسخرة كل طاقاتها لخدمته وإسعاده، باعدة عن أمور السياسة وشؤون الحكم.
غير أن وفاة السلطان أحمد الأول المفاجئة، وهو لم يبلغ من العمر الثلاثين بعد، نقطة فاصلة في حياة كوسيم سلطان، فقد تحولت من المرأة البعيدة تمامًا عن الساحة السياسية إلى أحد النافذين في عضد الحكم، فلعبت العديد من الأدوار السياسية التي وصفت بأنها شديدة التعقيد.
كان الحرملك – كالعادة – ساحة للتنافس بين زوجات السلاطين، بداخله تحاك المؤامرات النسوية لتعزيز نفوذ الأبناء، وكان التنافس بين كوسيم وزوجة السلطان الأخرى خديجة ماه فيروز أحد أشرس الصراعات داخل القصر، إذ كانت وجه القمر واحدة من الرافضين لتولي نجل ضرتها الأمير عثمان السلطنة، خوفًا على ضياع فرصة ابنها مراد الرابع في الحكم وهو الذي كان في هذا الوقت طفلًا صغيرًا.
وجدت السلطانة اليونانية المولد، في شقيق السلطان الراحل، الأمير مصطفى، فرصتها للحفاظ على عرش ابنها الصغير، وذلك من خلال إقناعه بتولي العرش مؤقتًا حتى يبلغ الصغير مبلغه، لا سيما أن الأمير لم يكن طامعًا في كرسي الحكم، وكان يهرب منه قدر المستطاع.
وبعد ضغوط ومحاولات إقناع عدة، وافق الأمير مصطفى على تولي العرش، وكان أول أخ يلي الحكم بعد أخيه، إذ كان من المعتاد أن يرث الولد أباه وليس شقيقه، لكن ما حدث كان بالاتفاق مع الانكشارية وكبار رجالات الدولة الذين كان يثقون في كوسيم وكانوا على دراية بحب السلطان أحمد الأول لها.
لم يدم مصطفى في الحكم أكثر من 3 أشهر، ليطاح به خارج الحكم، فيما تولى الأمير عثمان الثاني الابن الأكبر للسلطان أحمد، ونجل خديجة فيروز أمور السلطنة، وهو ما اعتبر وقتها انتصارًا لضرة كوسيم التي لم ترفع الراية البيضاء، ولم تستلم للأمر الواقع.
صغر سن السلطان الجديد “13 عامًا” وتهديده لمستقبل الأمير مراد الرابع كان عاملًا مهمًا دفع كوسيم للتخطيط من أجل التخلص منه وإعادة السلطان مصطفى مرة أخرى، وبمساعدة كبار رجالات الجيش والدولة، أُعيد السلطان إلى عرشه مرة أخرى.
لعبت السلطانة دورًا رئيسيًا في إنقاذ السلالة العثمانية وذلك حين تدخلت لمنع الصدام بين ابنيها، السلطان وشقيقه الأصغر
لم يكن السلطان الجديد مؤهلًا للحكم، إذ زادت الانقسامات في عهده، وعمت الاضطرابات ما دفع الصدر الأعظم وبقية الوزراء إلى عزله، ليتولى مراد الرابع الحكم، وكان وقتها يبلغ من العمر 11 عامًا، لتبدأ كوسيم سلطان مرحلةً جديدةً من النفوذ، وذلك حين حصلت على لقب السلطانة الأم بعدما صار ولدها حاكمًا على البلاد.
نفوذ غير مسبوق
مع بداية حكم مراد بدأت كوسيم توسع من نفوذها وتدير الأمور بصفتها نائبة السلطان الذي نجح في إجراء العديد من الإصلاحات التي قادت البلاد إلى حزمة من الانتصارات المتتالية، حيث استعاد أمجاد الإمبراطورية في الخارج، وقاد حربًا قوية ضد الدولة الصفوية في الجبهة العراقية.
ولعبت السلطانة دورًا رئيسيًا في إنقاذ السلالة العثمانية وذلك حين تدخلت لمنع الصدام بين ابنيها، السلطان وشقيقه الأصغر، الأمير إبراهيم الذي وصل – نتيجة الوشاية – إلى عزم مراد قتل أخيه، وهو ما منعته كوسيم بقوة، لتبقي على تماسك الدولة العثمانية.
وفي عام 1640 توفي السلطان مراد عن عمر ناهز الـ27 عامًا، ولم يكن له أبناء، ليتولى شقيقه الأصغر الحكم بدلًا منه، بدعم قوي من والدته وكبار رجالات الدولة، إذ كان إبراهيم لا يزال حديث السن ولم تكن لديه الخبرة الكافية لإدارة شؤون البلاد.
وهنا تعاظم نفوذ السلطانة الأم أكثر وأكثر، خاصة في بداية حكم ولدها الصغير، ومع مرور الوقت استشعر السلطان إبراهيم نفوذ والدته الكبير الذي اعتبره متجاوزًا للخطوط المحددة، فأمرها بتقليص تدخلاتها، فيما أشارت بعض الروايات إلى أنه هدد بنفيها حال استمرت في توسعة دائرة نفوذها.
وفي نهاية أغسطس/آب 1648 أُزيح السلطان إبراهيم من العرش، وبعد عشرة أيام فقط من إزاحته تم اغتياله، فيما حمل بعض المؤرخين السلطانة الأم مسؤولية قتل ولدها بالتعاون مع بعض رجالات الدولة، وذلك بعدما هددها بالنفي خارج البلاد.
ومع إزاحة إبراهيم من كرسي العرش، وجدت كوسيم في تولي حفيدها الأمير محمد شاه زاده، نجل السلطان القتيل، فرصتها لتعظيم نفوذها مرة أخرى، وخاصة أنها ستكون الحاكمة في ظل عدم تجاوز عمر ولي العهد الأعوام الست، لكنها دخلت في صراعات مع والدته خديجة تورهان أسفرت في النهاية عن قتلها كما سيرد ذكره.
كانت تساعد الفتيات غير القادرات على تجهيزهن للزفاف، هذا بخلاف ما قامت به لدعم خريطة الري في مصر
وهكذا تعد كوسيم سلطان أحد أكثر سيدات الدولة العثمانية احتكارًا لمنصب السلطانة الأم، حيث شغلته قرابة 25 عامًا، استمدتهم من ابنيها: مراد الرابع وإبراهيم الأول، ثم 12 عامًا كانت فيهما نائبة السلطان لابنها مراد الرابع ثم حفيدها محمد الرابع لتجمع بين يديها سلطات جعلتها أحد أبرز أركان الدولة في النصف الأول من القرن السابع عشر الميلادي.
سجل حافل من الأعمال الخيرية
رغم صراعاتها السياسية داخل القصر، فإن السلطانة كوسيم كانت تتميز بسخاء اليد وكرم العطاء، فاشتهرت بالأعمال الخيرية وتقديم المساعدات للفقراء في جميع أنحاء الدولة العثمانية، وكما ذكرنا بداية المادة كانت تذهب للسجون في شهر شعبان لسداد ديوان الغارمين وإطلاق سراحهم.
كما كانت تساعد الفتيات غير القادرات على تجهيزهن للزفاف، هذا بخلاف ما قامت به لدعم خريطة الري في مصر، بجانب أعمال الإغاثة المستمرة لفقراء مكة المكرمة والمدينة المنورة، كما اهتمت ببناء المساجد والمدارس ومنازل للمغتربين والمسافرين وينابيع لمياه الشرب.
ومن أبرز ما قامت به من أعمال في هذا الشأن بناء مسجد بالقرميد الصيني (بالتركية: Çinili Camii) ومدرسة بالقرب منه في منطقة أوسكودار بإسطنبول عام 1640، كذلك مسجد وينبوع مياه “مدرسة الوالدة” في قرية أناضولو كافاي بإسطنبول، وبيت كاروانِسرايُ “الوالدة” للقوافل والمسافرين في منطقة “تشاكماكتشيلار يوكوشو” بالعاصمة التركية.
وبعد هذا التاريخ الطويل من النفوذ السياسي وإدارة شؤون الدولة دفعت السلطانة كوسيم ثمن تعزيز هذا النفوذ غاليًا جدًا، إذ كلفها حياتها، فسقطت ضحية الاغتيال بأمر السلطانة خديجة تورهان أم السلطان محمد الرابع التي خشيت على ولدها من مصير والده.
وفي إحدى الليالي الظلماء من صيف 1651، تحديدًا في الـ3 من سبتمبر/أيلول، تسلل إلى جناح السلطانة عدد من العبيد المأجورين من زوجة ابنها القتيل السلطان إبراهيم وخنقوها حتى فارقت الحياة عن عمر ناهز الـ62 لتدفن بجانب قبر زوجها السلطان أحمد الأول في منطقة “سلطان أحمد” بإسطنبول.