“لست نهضويًا ولكن” تحت هذا عنوان يدير البعض معركة سياسية ضد الأقلام المنافحة عن الانتقال الديمقراطي، إذ يركز المدافعون عن الانتقال الديمقراطي على ضرورة الالتزام بالقانون المنظم للعمل السياسي (الدستور ومكملاته وقانون الأحزاب) فيضعون احترام القوانين المنظمة للانتقال نصب أعينهم ويجدون في الطريق أن من شروط نجاح الانتقال وضع حد لمعركة الاستئصال السياسي التي شنتها منظومة الحكم ضد الإسلاميين منذ ظهورهم على الساحة السياسية في السبعينيات وتواصلت بعد الثورة بصيغ مختلفة ولم تهدأ بما عطل الانتقال وفرض معارك جانبية.
وقد كان من مكتسبات الثورة أن قننت وضع الإسلاميين وسمحت لهم بالمشاركة السياسية طبقًا للقانون، لكن رغم التزام الإسلاميين بكل شروط الانتقال الديمقراطي فإن الرغبة في تغييبهم وحرمانهم من حقوقهم المشروعة لا تزال تقود الكثيرين بدرجات، وقد تحدثنا في مواضع كثيرة عن درجتين للاستئصال السياسي سمينا إحداها الاستئصال الناعم.
يتخفى الاستئصاليون بقفازات من حرير وراء خطاب لطيف لفظًا ومهذب غالبًا، لكنه يحافظ على منطلقات استئصالية في العمق، لأنه يضع نفسه في موضع مانح الحق من خارج القانون لمن يعتقد أنه منقوص الحقوق جبلة وينتهي بالمن السياسي على الإسلاميين، ويصنف كل مدافع عن الانتقال الديمقراطي ضمن المدافعين عن حزب النهضة ويضعهم موضع سخرية تحت عنوان “لست نهضويًا ولكن” لهؤلاء وبعضهم صديق نجله نقول أولى بهم أن يكتبوا “لست استئصاليًا ولكن).
الاستئصال الناعم مانح الحقوق
هناك قائمة طويلة من الممنوعات التي تحولت إلى عرف يروج له الاستئصاليون بمختلف درجاتهم (السوفت والهارد) بلا حياء ويعتبرونها حقوقًا لهم، ومن ضمن قائمة هذه الممنوعات أن النهضوي الذي يخضع لقانون الأحزاب ويلتزم بالعمل السياسي العلني ويشارك في الانتخابات فيربح ويخسر لا يحق له أبدًا أن يتولى الوزارات التالية: الداخلية والعدل والخارجية والدفاع، أي وزارات السيادة الأربعة، وإلى ذلك لا يحق له أن يتولى حقيبتي الثقافة والتربية، ولا حق له أن يتولى إدارة المعلومات “الوكالة الوطنية للإنترنت”، فضلًا عن مواقع تنفيذية أخرى كالجمارك.
منذ انتصار النهضة في انتخابات 2011 وعملية التفاوض العسيرة لتشكيل أول حكومة بعد الثورة وضعت هذه الشروط دون خلفية قانونية بل بخلفية استئصالية، ومن أجل تسهيل البدء في بناء عمل سياسي على قاعدة مطالب الثورة قبل الإسلاميون بعض هذه الشروط وكافحوا من أجل فرض حقهم في وزارات السيادة، لكن الأمر تحول إلى عرف، ففرض على كل الحكومات التي تلت حكومة حمادي الجبالي بدءًا من حكومة مهدي جمعة في 2014.
وبعد انتخابات 2019 التي جاء فيها حزب النهضة حزبًا أولًا وضع هذا العرف على الطاولة، فكان التفاوض يجري على الوزارات التنفيذية، فالحقائب السيادية ممنوعة مسبقًا على النهضة وكل شخص من خارجها مقبول ولو كان من كوادر النظام السابق وأسماء الوزراء شاهدة.
يتخفى الاستئصاليون بقفازات من حرير وراء خطاب لطيف لفظًا ومهذب
كان حزب النهضة يجد نفسه في وضع الهارب، فيتنازل لتكون هناك حكومة ولو على حساب حقوقه التي منحها له صندوق الاقتراع، ووصل الأمر إلى أن الحزب الفائز لا يحق له ترؤس الحكومة، وكان هذا واضحًا في عملية التفاوض بشأن حكومة الحبيب الجملي.
أعتبر هذا العرف عرفًا إجراميًا في حق الديمقراطية وفي حق الانتقال الديمقراطي وأعتبر كل من اعتمده حقًا سياسيًا وبنى عليه موقفه السياسي استئصاليًا ولو وجدته متعلقًا بأستار الكعبة، فلا يمكن للمرء أن يؤمن بالديمقراطية ثم يفرض شروطًا بضعفه على الأقوى بالصندوق.
لقد كان الاستئصاليون (السوفت والهارد على السواء) يمنعون تشكل حكومة حسب نتائج الصندوق، فيضعون البلد أمام خيار الحكم بغير رأي الناخب أو الفوضى، وكانت تنازلات النهضة تروق لهم فلا يشكرونها وإنما يواصلون الابتزاز، وكل ابتزاز استئصال وإن تخفى وراء جميل اللفظ الديمقراطي المتعالم.
ونحن في موضع الحق لنتحدث بكل جرأة وشجاعة ومسؤولية وديمقراطية ونتحمل الكلفة (المهنية والسياسية)، فهذا الابتزاز السياسي ليس له اسم غير الاستئصال، فليس له معنى غير أن تخسر بالصندوق ثم تعطل حكم البلد، وندق المسمار بشجاعة عميقًا في جسد الحذلقة الاستئصالية، وهذا ليس دفاعًا عن النهضة بل دفاعًا عن الانتقال الديمقراطي الذي يعتمد نتيجة الصندوق، ويمكن للابسي قفازات الحرير الاستئصالي أن يكتبوا تحت عنوان “لست نهضويًا ولكن”، فنحن نراهم استئصاليين دون لكن.
لا يمكن ممارسة السياسة خارج القانون المنظم لحياة الناس وكل من اعتمد عرفًا غير قانوني هو استئصالي وإن تخفى بلبوس تقدمي.
النهضة جزء من المشهد لكنها ليست المشهد
عندما نضع نصب أعيننا احترام القانون ونقر بعلويته يصير الخطاب الديمقراطي هو نقد الحزب الحاكم الذي خول له الناخب حق الحكم والحديث عن أفكاره وبرامجه مع احترام ما يقدم ونقده دون إلغائه، لكن عندما ينزل التفاوض على منح حقوق للمهزوم بالصندوق، فنحن نسقط شروط الانتقال ونجد المهزوم يسقط البلد قبل أن يسقط الفائز في الانتخابات، وما جرى منذ انتخابات 2011 هو منح المهزوم حقوقًا لا يستحقها، وهذا جوهر الاستئصال.
بأي حق يترأس الحكومة شخص من حزب مندثر وأعني إلياس الفخفاخ من حزب التكتل؟ غير محاولة منع النهضة بعقل استئصالي من الحكم، وهل كتب أي من الاستئصاليين نقدًا لأطروحات حزب النهضة (وهناك الكثير مما يمكن قوله في نقد حزب النهضة ونحن نكتبه بشجاعة)؟ أبدًا لقد كان التفاوض يجري على قاعدة ليس للنهضة حق في الحكم ولو فوضها الناخب وكل الحلول مقبولة إلا أن تحكم النهضة.
لا يجيبنا القائلون “لست نهضويًا ولكن” عن أسئلتنا، لكنهم يرجمون كل مدافع عن الانتقال بشروط الديمقراطية والصندوق بأنه يدافع عن النهضة، فيضعون أنفسهم في مربع “لست استئصاليًا ولكن” لا وجود لهذا الاستثناء إذا احترمتم نتيجة الصندوق فسنقر لكم بالفضل.
يضع البعض نفسه في موضع الحكم ويصدر الفرمانات بالحق هذا يحق له وهذا لا يحق له ونجد دومًا أن المحروم من كل حقوقه هو حزب النهضة
في خلاف ذلك يمكنكم توزيع الحقوق في الحكم طبقًا لهوى بن علي، فكلما نراه هو استمرار لعقل بن علي عندما أظهر بعض التنازل ووضع النهضة تحت الاختبار، فعقلية اختبار النهضة وتجريب تناغمها مع شروط الديمقراطية هو فكر بن علي وجوهر سياساته الاستئصالية (ولو خرجت من جلدها لما عرفها وقد خرجت ولم يقبل)، وما نراه الآن هو تواصل لتلك السياسة القائمة على منهج استئصالي (نحن نملك الحق لنختبركم فنحن ديمقراطيون وأنتم دون ذلك) من منحكم هذا الحق؟ ما كفاءاتكم الديمقراطية ويجوز أن نرميكم بالسؤال من أنتم؟ ألستم من عاش مع بن علي ربع قرن فلم تبنوا الديمقراطية ولا صنتم الحرية ثم منحتم البلد للمافيا فدمرتم البلد؟
يضع البعض نفسه في موضع الحكم ويصدر الفرمانات بالحق هذا يحق له وهذا لا يحق له ونجد دومًا أن المحروم من كل حقوقه هو حزب النهضة، فإذا خاطبنا الاستئصاليين بأنهم يبنون على فكر بن علي رجمونا بأننا ندافع عن النهضة.
سندافع عن الانتقال الديمقراطي ولو استفادت النهضة
نقول لجماعة “لست نهضويًا ولكن” أنتم “لستم إلا.. أنا لست استئصاليًا ولكن”، فكفوا عنا نحن مرابطون على الحق في تطبيق القانون السائد في البلد بما فيها قانون بن عاشور الانتخابي صاحبكم، ولن نتراجع، والكلفة دفعناها زمن بن علي وسنواصل دفعها من أجل بلد ديمقراطي يكون فيه حق النهضوي “الإسلامي السياسي” شرط بناء الديمقراطية.
الصندوق علمنا في عشر سنوات أن الصندوق حكم وأنتم دون الفوز، فسلموا للصندوق لتخرجوا من موضع الحكم السفيه الذي منح نفسه حقًا ليس له ليقود من خارج الرضا الشعبي عن فكره وبرامجه (هل لكم برامج غير إقصاء النهضة؟)، فلم تقدموا شيئًا لشعب طموح، لذلك سقط حقكم في تصنيف الناس إلى “لست نهضويًا ولكن” أين أنتم من الانتقال الديمقراطي بشروط الصندوق؟
حددوا مواقعكم سنعيد تحديد مواقعنا وستكتشفون أننا ديمقراطيون أكثر منكم ولم نمنح رغم ذلك أنفسنا حقًا في الحكم عليكم، وقد يفاجئكم أننا نحترمكم رغم ذلك، فشروط الانتقال الديمقراطي تفرض علينا أن نحتملكم يا رفاق بؤسنا الجماعي (من جماعة لست استئصاليًا ولكن).
لنختم لن نسلم لكم النهضة، فبقاؤها طبقًا للقانون شرط من شروط الانتقال الديمقراطي وستقدمون لنا جردة بمواقفكم الاستئصالية قريبًا، فالزمن والآفات الديمقراطية ستأتي عليكم وسنبقي بشروط الانتقال الديمقراطي.