حصلت المرأة التركية على حق الترشح في البرلمان عام 1934، ومن قبلها بأربعة أعوام على حق الاقتراع والترشح في انتخابات البلدية، ويعد هذا تاريخًا مبكرًا مقارنة ببعض الدول الأوروبية، ففي سويسرا مثلًا حصلت النساء على حقوقها السياسية عام 1971.
ولا نتصور أن تلك الخطوة كانت منحةً من الدولة الحديثة، بل مكتسب جراء مسيرة نضال طويلة خاضتها المرأة التركية قبل ميلاد الجمهورية بعشرات السنين.
ميلاد الحركة النسوية في الدولة العثمانية
بدأت أصوات النساء ترتفع في مختلف أنحاء العالم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ولحقت النساء التركيات بركبهن في نهاية الستينيات من نفس القرن، مؤسسات الجرائد والمجلات والجمعيات.
صدرت أول جريدة نسوية أسبوعية عام 1869 باسم Terakki–i Muhadderat وتعني “ترقي العفيفات”، تناقش قضايا تخص المرأة بما يتناسب مع العصر آنذاك، مثل علاقة المرأة بالمجتمع وتعليم الفتيات، وفي العام التالي تم إنشاء أول مدرسة للمعلمات تحت إدارة امرأة.
في 1895 صدرت جريدة Hanımlara Mahsus Gazete وتعني الجريدة الخاصة بالسيدات، وظهرت أقلام نسائية يوقعن بهويتهن الحقيقية مثل الروائية فاطمة عالية توبوز أول روائية تركية والشاعرة الأولى نيجار هانم.
في الفترة بين عامي 1908 و1923 تم تأسيس أكثر من 30 جمعية نسوية ولعل أهمهم جمعية إعلاء المرأة أو “تعالي النسوان” كما يطلق عليها في العثمانية التي تأسست عام 1913 في عصر المشروطية الثاني، وكان لتلك الجمعية الفضل في اكتساب المرأة حقها في التعليم الجامعي والحصول على مكانة أفضل داخل الأسرة.
وإثر جهودها فتحت جامعة إسطنبول بابها للنساء في العام التالي، وتم إرساء قانون الأسرة الذي يجرم تعدد الزوجات ويعطي المرأة حقها في الطلاق مع أخذ كامل حقوقها عام 1917، ومن الجدير بالذكر أن الروائية المعروفة خالدة أديب أديوار كانت واحدة من رائدات تلك الجمعية.
خلال فترة الحرب العالمية الأولى سمح للمرأة بالانخراط في العمل والحياة السياسية نظرًا لانشغال الرجال بالقتال
كما صدرت في نفس الفترة 27 جريدةً ومجلةً تهتم بقضايا المرأة العثمانية أهمهم وأكثرهم راديكالية مجلة عالم النساء ويطلق عليها بالعثمانية “قادينلر دنياسي”، التي صدرت في الفترة بين عامي 1913 و1921 لصاحبتها الصحفية التركية الأولى نورية علوية.
فقد أخذت صاحبة المجلة قرارًا بعدم تعيين رجال حتى تقر الدولة بالمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة في العمل، قائلة “إن لم تعطونا حقنا الطبيعي والإنساني سوف نأخذه بالقوة”.
خلال فترة الحرب العالمية الأولى سمح للمرأة بالانخراط في العمل والحياة السياسية نظرًا لانشغال الرجال بالقتال، بعدها أدركت المرأة التركية إمكاناتها، وبدءًا من 1919 نظمن مسيرات للمطالبة بحقوقهن السياسية حتى حصلن عليها في عصر الجمهورية.
عصر الجمهورية والحصول على الحقوق السياسية
بعد تأسيس الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك، آن للمرأة التركية التي شاركت في حرب الاستقلال سواء بالدعم اللوجستي أم على الجبهة، أن تشارك في الحياة السياسية.
تقدمت الكاتبة النسوية نزيهة محي الدين مع رفيقاتها بطلب تأسيس حزب سياسي للمرأة في نهايات 1923، لكن الدولة رفضته لأن ليس هناك حقوق سياسية للمرأة من الأساس حتى يكون هناك حزب، فتحولت فكرة الحزب في العام التالي إلى “اتحاد النساء التركيات” برئاسة نزيهة محي الدين، من أجل النضال تحت سقفه للحصول على حقوق المواطنة كاملة.
لم يكن الأمر سهلًا وسط هذا الرفض من المجتمع والدولة حتى إن جريدة مستنيرة مثل “جمهوريت” كتبت في 1925 “بنات حواء سينضممن للبرلمان كي يناقشن موضة معطف هذا العام”، لكنهن ثابرن حتى حصلن على حقهن السياسي كاملًا عام 1934، وفي العام التالي انضمت 18 امرأةً للبرلمان التركي.
من أهم الخطوات التي خطتها الجمهورية أيضًا، إرساء القانون المدني عام 1926 الذي يعطي المرأة حقها في الولاية وحرية الاختيار في الزواج والطلاق وحرية اختيار المهنة وغيرها من بعض الحقوق المدنية المساوية للرجل.
عام 1935 أقيم مؤتمر اتحاد النساء العالمي في تركيا، وشاركت به رائدات الحركة النسوية من جميع أنحاء العالم، لكن ذلك لم يكن على هوى بعض أفراد الحزب الشعبي الجمهوري، فحاولوا كبح جماح الحركة النسوية ودمجها في الحركة القومية بحجة الاصطفاف معًا من أجل بناء تركيا الحديثة.
حينها كتب الصحفي والحقوقي المعروف حفظي وليدة أوغلو الذي شارك في إعداد دستور 1961 قائلًا: “في تركيا الحديثة ليس هناك مكان لصراع نسوي ذكوري، لم ولن يكون، لم يُنعم على المرأة بحقوقها ولم تكتسبها بسبب نضالها، ما حدث هو إتمام ما كان منقوصًا ضمن أشياء أخرى في المجتمع التركي”.
بعد ذلك خفتت أضواء الحركة النسوية التركية أو إذا صح القول تم تأميمها، واستمر هذا الوضع حتى 1975، وخلال تلك الفترة أجرت الدولة بعض الإصلاحات القانونية التي ساهمت في تحسين وضع المرأة لكن ذلك كان جليًا في المدن، أما وضع المرأة الريفية لم يتغير كثيرًا، ولم تشهد تلك الفترة وجود منظمات نسوية إلا بعض جمعيات الدعم الاجتماعي التي تأسست في 1940.
بعد انقلاب 12 من سبتمبر/أيلول 1980 أغلقت التنظيمات ومنعت التجمعات، فبدأت النساء بالاجتماع في بيوتهن لمناقشة وضعهن
إثر إضرابات مايو/أيار 1968 التي حدثت في فرنسا وطافت روحها مختلف أنحاء العالم، انتفض اليسار وازدهرت الحركة الطلابية في تركيا بمشاركة المرأة، لكن حركة المرأة لم تصبح مستقلة بذاتها، بل تابعة للحركات السياسية.
في 1975 أسس الحزب الشيوعي التركي”TKP” منظمة النساء التقدميات وانضمت لها 15 ألف امرأة، بعد ذلك أصدرت المنظمة مجلة kadınların sesi وتعني صوت النساء وكانت تصل إلى 35 ألف نسخة، كما أسس حزب الحركة القومية “MHP” جمعية “النساء الرائدات”.
انقلاب 1980 وميلاد الموجة الثانية من الحركة النسوية التركية
بعد انقلاب 12 من سبتمبر/أيلول 1980 أغلقت التنظيمات ومنعت التجمعات، فبدأت النساء بالاجتماع في بيوتهن لمناقشة وضعهن والأحداث السياسية بهدف رفع الوعي، وبفضل تلك الاجتماعات والنساء اللاتي درسن في الخارج قويت الحركة النسوية وتبلور فكرها بشكل واضح، واستقلت منظمات المرأة بمنأى عن الحركات السياسية.
بدأت النساء النضال ضد السلطة الذكورية المتمثلة في الدولة والمجتمع التي تتحكم في أجسادهن وهويتهن، طارحات قضايا أعمق باعتبار أن المرأة كيان قائم بذاته وليس مجرد زوجة أو أم، كالتحرش والاغتصاب والتمييز القائم على النوع الاجتماعي والعنف المنزلي، وهكذا ألقيت نواة الحركة النسوية الحاليّة.
في 1984 تم تأسيس حركة kadin çevresi أو محفل المرأة متقدمين بمطلب رسمي لإصلاح بعض القوانين التي ترسخ لعدم المساواة بين الرجل والمرأة في القانون المدني، إلا أن هذه الإصلاحات لم تتم إلا في 2001.
في 1986 بدأت حملة ضد المادة 438 من القانون الجنائي التي تفيد بأن المرأة التي تعرضت لاغتصاب إذا كان سلوكها ليس على هوى المجتمع فإن جزاء المجرم المغتصب يخفض إلى الثلثين، وبعد رفض النساء والمظاهرات رفعت هذه المادة في ديسمبر/كانون الأول 1990، وفي مارس 1987 صدرت أول جريدة تابعة للحركة، وفي نفس العام خرجت العديد من المسيرات التي تندد بالعنف المنزلي.
وفي العام التالي صدرت المجلة النسوية الاشتراكية “kaktüs”، وبعد أن توسعت الحركة النسوية بهذا الشكل، بات هناك احتياج إلى مكان لإقامة الاجتماعات وتنظيم الحملات فأنشئت دار المرأة الثقافية في فبراير/شباط 1988، ومنها خرجت العديد من الحملات والمسيرات مثل حملة “جسدنا ملكنا لا للتحرش الجنسي” التي تعرف بحملة “الإبرة الأرجوانية”، والمسيرات التي تعرف بالأحداث السوداء عام 1989 التي خرجت فيها النساء متشحات بالسواد اعتراضًا على العنف الجسدي الذي تتعرض له السجينات وتم القبض على 11 امرأة ممن شاركن في المسيرات.
قويت الحركة النسوية في الألفية الثالثة، فبين عامي 1982 و2004 كان عدد المنظمات النسوية 64 منظمةً
عاشت الحركة النسوية فترة استقرار بين عامي 1980 و1990، لكن في مطلع التسعينيات عانت المرأة من تمييز واضح، خصوصًا الكرديات بسبب العرق واللغة والمسلمات بسبب الحجاب، ولم تع الحركات النسوية تلك القضايا أو تعتبرها أولويةً، ما تسبب في حدوث انقسامات، فشهدت فترة التسعينيات أربعة تيارات نسوية مختلفة: الكمالية والراديكالية والكردية والمسلمة.
بداية من عام 1997 بدأت تظهر قضايا جديدة على أجندة الحركة النسوية، فخرجت حملات لمناهضة ما تطلق عليه جرائم الشرف وجرائم القتل ضد النساء.
قويت الحركة النسوية في الألفية الثالثة، فبين عامي 1982 و2004 كان عدد المنظمات النسوية 64 منظمة، لكن اعتبارًا من 2004 أصبح عددهم 350، ورغم الإصلاحات القانونية المتعددة، فإن المرأة التركية مثل نظيراتها في جميع أنحاء العالم، لم تحصل على كامل حريتها، ولا تزال تناضل ضد السلطة الأبوية دون يأس للحصول عليها، فكما قالت الكاتبة دنيز قانديوتي: “تحررت المرأة في تركيا، لكنها لم تصبح حرة”.