شكل ملف الطاقة في تونس جدلًا كبيرًا منذ انطلاق ثورة 14 يناير إلى يومنا هذا، فكان أحد المواضيع الرئيسية التي أججت الشارع وأثارت لغطًا كبيرًا على مواقع التواصل الاجتماعي بداية من حملة “وينو البترول” ودعوات التصدي لارتفاع أسعار البنزين والكهرباء والتحذيرات من مخاطر غاز الشيست وصولًا إلى احتجاجات الكامور بمحافظة تطاوين المطالبة بالتنمية والتشغيل في الشركات البترولية وتلويح إيني وشال بمغادرة البلاد.
قرار الشركات النفطية العالمية الأخير ببيع عملياتهما للنفط والغاز في تونس الذي تُحاول السلطة التقليل من شأنه بإعلانها عدم تلقيها أي إشعارات بذلك، يحمل بين طياته إشارات متعددة عن الوضع الراهن لقطاع الطاقة الحيوي، ويفتح الأبواب للتساؤل عن الأسباب الحقيقية لهذه الخطوة وتداعياتها على الاقتصاد التونسي الذي يُعاني من تراجع على أكثر من مستوى.
هروب عمالقة النفط
تسعى رويال داتش شل وإيني الإيطالية، بحسب مصادر إعلامية، إلى وقف عملياتهما للنفط والغاز في تونس، في الوقت الذي يواجه فيه البلد الواقع في شمال إفريقيا صعوبات في استقطاب استثمارات جديدة عقب سنوات من عدم الاستقرار السياسي وتعقد المسار الانتقالي.
وكانت الشركة الإيطالية للنفط إيني قد أنتجت نحو 5500 برميل من المكافئ النفطي يوميًا في تونس في 2019 ولديها تسعة امتيازات للنفط والغاز وتصريح تنقيب واحد في تونس، وفقًا لموقعها الإلكتروني.
ونقلت وكالة رويترز عن مصادر، إن شل استعانت ببنك الاستثمار روتشيلد آند كو لبيع أصولها التونسية، التي تشمل حقلين بحريين للغاز ومنشأة إنتاج برية، فيما تعتزم شركة الطاقة النمساوية أو. إم. في أيضًا بيع ما تبقى في محفظتها للنفط والغاز بتونس، وذلك بعد أن قلصت تدريجيًا وجودها في البلاد.
وكانت “أو. إم. في” قد باعت عام 2018 أغلب محفظتها في البلاد إلى بانورو إنرجي المدرجة في أوسلو مقابل 56 مليون دولار، ويفيد تقريرها السنوي بأنها أنتجت نحو أربعة آلاف برميل يوميًا من المكافئ النفطي في 2019، ورغم إدارتها لأكبر حقل في تونس “نوارة” الذي من المتوقع أن ينتج 10 آلاف برميل يوميًا، فإن الشركة خفضت أجور موظفيها بنسبة 60% بسبب تعطل أنشطتها جنوب البلاد.
بدوره أعلن الرئيس التنفيذي لمازارين إنرجي أن الشركة المدعومة من عملاق الاستثمار المباشر كارليل جروب تسعى أيضًا إلى بيع ما يصل إلى النصف من حصصها في تراخيص استكشاف النفط الخاصة بها في تونس لتسريع تطورها.
الأسباب
مغادرة شركتي “إيني” و”شال” اللتين تبحثان عن مشترين لحصصهم وسعي شركة “أو. إم. في” للتخلي عن استثماراتها وبيع حصصها في المشاريع المشتركة واقتصار أنشطتها على حقل نوارة ومحيطه، يحيل إلى أن أزمة قطاع النفط تاريخية ومركبة يلتقي فيها سوء الإدارة والتخطيط بالفساد والمحسوبية.
ويرجع الخبراء والمراقبون الأزمة إلى أسباب متعددة ومترابطة فيما بينها، ويتمثل أولها في الإشكال الهيكلي وتعقد عمليات الإصلاح رغم تولي عشرة وزراء مهمة الطاقة منذ سنة 2011، علاوة على إنشاء وزارة الطاقة مرتين وحلها وإعادة إنشائها.
وكذلك إلى غياب رؤية إستراتيجية للدولة في تسيير القطاع الحيوي والتعامل مع الشركات الأجنبية خاصة في مسألة تشابك الأدوار بين الشركة التونسية للأنشطة البترولية والوزارة المعنية، بالإضافة إلى عدم اعتمادها سياسة تعطيل مشاريع الطاقة المتجددة باعتبارها أولوية وطنية وضرورة حيوية للأمن الطاقي ورافعة للاقتصاد.
من جهة أخرى، فإن ضبابية التشريعات ومحدودية الأحكام الواردة بمجلة المحروقات وغموض وتعقد الإجراءات وجمود الأطر الهيكلية والقانونية، عطلت فرص جذب واستقطاب المستثمرين، وذلك بالإضافة إلى حالة عدم الاستقرار السياسي وغياب الأمن وارتفاع منسوب الاحتقان الاجتماعي (مظاهرات قطع طرقات ومضخات) الذي عطل الإنتاج في أكثر من مناسبة.
ومن الأسباب الأخرى، نجد المشاكل المالية وتبعات الانخفاض المتتالي في أسعار النفط خلال السنوات الأخيرة، مقابل ارتفاع كلفة التشغيل نسبيًا في تونس، وكذلك التأخيرات التي باتت متكررة في الدفوعات من الطرف التونسي، كلها عوامل ساهمت في عرقلة عملية الاستثمار وأنشطة الشركات الأجنبية الساعية إلى ضمان مصالحها، ودفعتها إلى البحث عن أماكن جديدة للاستثمار.
التداعيات
تعد الاستثمارات الأجنبية في قطاع المحروقات من أهم القنوات التي تضخ عائدات للدولة على مستوى الأرقام، فحقل نوارة الذي تم تنفيذه قُدرت قيمته الاستثمارية بمليار دولار، لذلك فإن خروج مثل هذه الشركات (متعددة الجنسيات) ولها أنشطة في أكثر من دولة في العالم وهي في الغالب مدعومة من الحكومات والسفارات، تمثل انتكاسة حقيقية للاقتصاد التونسي المنهك أصلًا.
خطورة هذه الخسارة لا تقتصر على رقم المعاملات أو قيمة استثمار هذه الشركات، فالتداعيات ستتوسع لتصل إلى فقدان الثقة في هذا البلد وتراجع سمعته الاقتصادية وبالتالي سيصعب إقناع حتى الشركات الأصغر حجمًا بالقدوم والاستثمار، فكل الإشارات عن مناخ الأعمال سلبية، وهو ما يفسره تراجع عدد تراخيص الاستكشاف في تونس من 52 في 2010 إلى 24 فقط في 2020 بسبب التعقيدات الإدارية والبيروقراطية التي تنخر السياسية الاقتصادية لحكام ما بعد الثورة.
دبيبة يجتمع بالمدير التنفيدي لشركة #إيني الإيطالية، قلتلكم قبل قليل #إيطالياغاز . #ليبيا pic.twitter.com/DALlF95roG
— MOHAMMED MAHJOOB (@M_MAHJOOB32) March 21, 2021
كما أن مواصلة الدولة انتهاج سياسة شراء السلم الاجتماعي عبر التوظيف في الشركات البترولية على حساب الإصلاحات الهيكلية والحلول العميقة والمستدامة وفرص تغيير منوال التنمية الذي يساعد على خلق مواطن عمل والثروة، سيدفع باقي الشركات إلى تصفية أعمالها ومغادرة البلاد، ناهيك بتواصل الخسائر.
فبحسب المدير العام للمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية (حكومية)، عبد الوهاب الخماسي، فإن اعتصام منطقة الكامور في محافظة تطاوين (جنوب شرق) كبد الدولة خسائر بـ300 مليون دينار (107.5 مليون دولار)، لا سيما أن هذه المنطقة تُنتج 40% من نفط تونس و20% من الغاز.
على المستوى الداخلي، سيكون لقرار الشركات النفطية العالمية إيني وشل ببيع عملياتهما للنفط والغاز في تونس، تداعيات على الاقتصاد المحلي، ففشل المستثمرين في إيجاد مشترٍ يعني بالضرورة عودة الأصول إلى الدولة التونسية، وسيترتب عليه إثقال كاهل المالية العمومية ومضاعفة الأعباء في ظل شح الموارد.
وفي ظل تراجع الإنتاج الناتج عن التقلص الطبيعي للحقول المنتجة وعدم تجديد المخزون الوطني وعزوف الشركات عن الاستثمار وتراجع مؤشرات قطاع الاستكشاف وإنتاج المحروقات، فإن العجز الطاقي سيشهد ارتفاعًا وسيؤثر بدوره على الميزان التجاري وميزانية الدولة ودينامكية الاقتصاد الوطني ونسق الإنتاج.
ما علاقة ليبيا؟
من المعلوم أن تونس تمتلك حقولًا ثانوية كثيرة العدد محدودة المساحة والمخزون (الدولاب وسمامة)، أما أكبر الحقول فهي البرمة الذي دخل مرحلة الإنتاج في الستينيات وحقل عشتروت في السبعينيات، لذلك فإن إنتاجها لم يتجاوز الـ55 ألف وفي أقصى حالاته الـ60 ألف برميل نفط يوميًا قبل الثورة.
أما إنتاجها الحاليّ من النفط، فيبلغ 37.8 ألف برميل في اليوم، فيما تراجع إنتاج الغاز بنسبة 15%، لذلك يُوصي خبراء الطاقة بتكثيف رخص حفر آبار استكشافية جديدة بهدف تجديد مخزون الطاقة للبلاد ورفع الاكتفاء من 40% حاليًّا إلى 70% في السنوات العشرة القادمة.
وعلى عكس تونس، تضخ ليبيا وفق الإحصاءات الرسمية الشهرية 1.250 مليون برميل يوميًا من النفط وتسعى إلى رفع إنتاجها من النفط إلى 2.1 مليون برميل نفط يوميًا بحلول عام 2024، فيما تنتج ملياري قدم مكعبة من الغاز الطبيعي، وتهدف إلى 3.5 مليار قدم مكعبة في السنوات المقبلة، ويبلغ احتياطها من الغاز نحو 54.6 ترليون قدم مكعبة، ما يضعها في المرتبة الـ21 عالميًا.
هذه الأرقام إذا قارناها، تؤكد أن ليبيا تنتج ضعف تونس بنحو أربعين مرة وأن الأخيرة سوق صغيرة جدًا، ما يعني أن الاستثمار في الدولة التي تدخل في طور الاستقرار النسبي بعد الاتفاق السياسي الذي أفرز سلطة جديدة، يُعد أولوية قصوى بالنسبة للشركات العابرة للقارات (إيني – شال – أو إم في) التي تبحث عن مجالات جديدة أكثر مردودية لتعويض تبعات جائحة كورونا وتقهقر أسعار النفط.
هذه القراءة عززتها المصادر الإيطالية، التي كشفت عن تحضير روما لتوقيع اتفاقية جديدة طويلة المدى مع ليبيا تشمل بناء محطات لمصادر الطاقة المتجددة في فزان خلال زيارة يجريها رئيس الوزراء ماريو دراغي إلى طرابلس الأسبوع القادم، وذلك في مسعى من روما لتثبيت موقعها كشريك إستراتيجي وقوة تاريخية نشطة في البلاد، خاصة أن إيني تسيطر على 45% تقريبًا من عقود النفط والغاز في ليبيا.
وكذلك تصريحات رئيس الحكومة الليبية عبد الحميد الدبيبة الذي وصف فيها عملاق الطاقة الإيطالي “إيني” بالشريك الرئيسي في مجال النفط والغاز، لافتًا إلى مشاركة فنيين من الشركة في استكشاف آبار جديدة في إقليم برقة.
دبيبة يجتمع بالمدير التنفيدي لشركة #إيني الإيطالية، قلتلكم قبل قليل #إيطالياغاز . #ليبيا pic.twitter.com/DALlF95roG
— MOHAMMED MAHJOOB (@M_MAHJOOB32) March 21, 2021
على مدى عقود، وقع استغلال الثروات الطبيعية في تونس بطريقة شابها كثير من الغموض وسوء الإدارة والتخطيط، وهو ما انعكس بشكل واضح على البنى التحتية لهذه الدولة وعلى الفوارق الاجتماعية بين المركز والجهات التي تحتضن هذه المقدرات، لذلك فإن تونس مدعوة إلى عملية إصلاح جذرية ودقيقة لهذا القطاع الذي نخره سوس الفساد وتتحكم فيه العائلات المتنفذة.