قديما كان المهندسون في تونس من علية القوم، ماديا واعتباريا، لكن في السنوات الأخيرة هذه المكانة بدأت تتهاوى تدريجيا ما جعل العديد منهم يقرّرون الهجرة إلى الخارج، ومن لم يحالفه الحظ لخوض هذه التجربة وبقي في تونس فقد قرّر الاحتجاج على الوضع الذي وصلت إليه مهنة المهندس علّ الحكومة تستجيب إليه وتنصفه.
إضرابات متواصلة
نتيجة الأوضاع الصعبة، قرّر مئات المهندسين التونسيين العاملين في القطاع العام، الإضراب بداية من يوم الإثنين الماضي،من أجل الضغط على السلطات لتحسين وضعهم وتطبيق اتفاقات موقعة مع الحكومة لزّيادة علاوات المهندسين العاملين في المؤسسات العمومية.
وحمل مهندسو تونس الشارات الحمراء، وشعارات على غرار”فك حقّك يا مهندس” ( افتك حقك)، “يكرم المهندس ولا يهان”، و”نحن الأمل والمستقبل”، و”الزيادة الخصوصية حق وليست منة”، في مختلف تحركاتهم الاحتجاجية أمام مقر رئاسة الحكومة بالعاصمة ومقرات السلطة المحلية في باقي محافظات البلاد.
عادة ما ينتظر المهندس الجديد في تونس لسنوات حتى يجد عملا سواء في القطاع العام أو الخاص
تتمثل الزيادة التي يطالب بها المهندسين المحتجين في مِنَح قيمتها 450 دينارا (162 دولارا) لمنصب مهندس رئيسي، و550 دينارا (198 دولارا) لمنصب رئيس المهندسين، و750 دينارا (270 دولارا) لمنصب المهندس العام، ويستنكر المهندسون استثناء الحكومة لنحو 12 ألف مهندس يشتغلون في المؤسسات الحكومية من الزيادة الخصوصية في الرواتب التي تحصّلت عليها الإطارات العليا، منذ سنة 2019.
وفي عامي 2019 و2020، وقعت الحكومة التونسية اتفاقين مع عمادة المهندسين بهدف زيادة علاوات مهندسي القطاع العام، ونص الاتفاق الثاني على أن يتم تطبيق هذه الزيادة قبل نهاية مارس/ آذار الحالي، لكن إلى الآن لم يتم تطبيق الاتفاق على أرض الواقع، ويهدّد المحتجون بشنّ إضراب عام في حال لم تستجب الحكومة لمطالبهم.
ظروف صعبة
يعاني المهندس في تونس من العديد من المشاكل أبرزها تدني الأجور بالنسبة لمن يعمل من بينهم، بالإضافة إلى العقود التي لا تضمن حقوقهم، فضلا عن ارتفاع نسبة البطالة بين الحاملين لشهادة الهندسة.
ويتراوح معدّل أجور المهندسين في القطاع العام في تونس ما بين 1500 (540 دولار) و2500 دينار شهريا (896 دولار)، وهي ضعيفة جدا مقارنة بالمهندسين في دول عربية أخرى، ففي المغرب مثلا يتراوح أجر المهندس المدني بين 8530 درهم (945 دولار) و28700 درهم (3180 دولار)، أمّا متوسط أجر المهندس في الأردن يبلغ ضعفي متوسط أجور المهندس التونسي.
إلى جانب ذلك، يعاني المهندس في تونس من البطالة، وتشير الإحصاءات الأخيرة إلى أنّ نحو 10 ألاف مهندس عاطلون عن العمل، وهذا العدد مرشّح للزيادة في ظلّ تجميد الانتدابات في الوظيفة العمومية والصعوبات التي يواجهها القطاع الخاص، فضلا عن ارتفاع أعداد خريجي كليات الهندسة في البلاد بشكل كبير.
وارتفع أعداد الخريجين من 4300 خريج عام 2010 إلى حوالي 8 آلاف خريج السنة الماضية، ويرجع ذلك إلى ارتفاع عدد الكليات الخاصة في الاختصاص، وتشير إحصائيات نقابة المهندسين إلى وجود 28 كلية هندسة خاصة في البلاد، مع العلم بأنّ في تونس 30 كلية هندسة عامة.
عادة ما ينتظر المهندس الجديد في تونس لسنوات حتى يجد عملا سواء في القطاع العام أو الخاص، وفي بعض الاختصاصات يمكن أن تطول المدة خاصة خريجو الهندسة الفلاحية (الزراعية) وأيضا الهندسة الميكانيكية والكهربائية لعدم التلاؤم ما بين المؤهلات العلمية وسوق العمل وحاجاته.
ما يؤخّر الحصول على عمل أيضا، ضعف التكوين في الجامعات الخاصة، فالكثير منها لا يستجيب لكراس الشروط وبرامج التعليم والتكوين، ولا يخضع طلابها إلى مناظرات وطنية كالتي يعمل بها في القطاع العام، وهو ما يفرض إصلاحا شاملا في هذا الغرض.
وفق المعمول به، يدرس طلاب الهندسة لمدة عامين في مدارس تحضيرية عامة تُختم بمناظرة، ثم ينتقل الناجحين للدراسة في مدارس الهندسة لمدة 3 سنوات لهم حقّ الرسوب في سنة واحدة فقط، أما طلاب القطاع الخاص فيعبرون مباشرة إلى القطاع من دون الحاجة إلى اجتياز المناظرة الوطنية ولا حصر لعدد السنوات التي لهم حق الرسوب فيها، فالمهم عند طلاب القطاع الخاص تأمين المبلغ المالي اللازم حتى يضمنوا نجاحهم كلّ عام.
إفراغ الدولة من المهندسين
هذا الوضع السيء، دفع الآلاف من المهندسين التونسيين إلى الهجرة، حيث أثبتت دراسة أنجزتها العماد الوطنية للمهندسيين التونسيين عام 2019، أنّه من مجموع 100 ألف كفاءة هاجرت تونس في السنوات العشر الأخيرة، غادر 22 ألف مهندس.
أما من بقي من المهندسين في تونس فهم يفكّرون جديا في الهجرة، وفي حركة رمزية هدّد مهندسو تونس في القطاع العام أمس الخميس بالهجرة الجماعية وإفراغ المؤسسات الحكومية من كفاءاتها الهندسية في مختلف الاختصاصات.
تتكبّد تونس خسائر كبيرة جرّاء هجرة المهندسين الذين تنفق عليهم المجموعة الوطنية أموالا طائلة تقدّر بنحو 50 ألف دينار
ضمن هذه الحركة، توجّه المهندسون إلى الوكالة الحكومية للتعاون الفني التي يقع مقرها في الضاحية الشمالية لتونس العاصمة (مؤسسة حكومية بتوفير الكفاءات التونسية المطلوبة ووضعها على ذمة العديد من البلدان) حاملين جوازات سفرهم لتقديم مطالب هجرة جماعية إلى بلدان أجنبية توفّر لهم أجورا جيّدة.
ويتعرّض المهندس في تونس كغيره من الموظفين أو الباحثين عن العمل إلى أبشع أشكال التحقير المادي والمعنوي من طرف المسؤولين، سواء على مستوى الإدارات المركزية أم على مستوى إدارات المؤسسات التي ينتمون إليها وظيفيًا، ما يدفع به إلى التفكير في الهجرة.
ويرى المهندس التونسي أن الدول الغربية (في مقدمتها فرنسا وألمانيا) فضلا عن كندا والولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الخليجية والإفريقية فضاءً بديلًا يوفر له كرامة العيش التي تفقدها في بلاده، ويحول دون إجهاض مشاريعه العلمية والفكرية التي أراد من قبل تحقيقها في تونس.
الخاسر الأكبر
تخسر تونس سنويًا الآلاف من الكفاءات التي تلقت تكوينًا عاليًا في جامعاتها العمومية والخاصة، على الرغم من أن الدولة تقول إنها راهنت على هذه الكفاءات لتسيير مؤسساتها وتحريك التنمية بما يعزز عملية التحديث الاجتماعي ويرفع من قدرات المجتمع في استخدام العلوم التكنولوجية.
تتكبّد تونس خسائر كبيرة جرّاء هجرة المهندسين الذين تنفق عليهم المجموعة الوطنية أموالا طائلة تقدّر بنحو 50 ألف دينار، أي نحو 18 ألف دولار، طيلة سنوات الدراسة الخمس لكلّ طالب، ومن ثمّ تنتفع بهم دول أجنبية أخرى.
نتيجة ذلك، أضحت ظاهرة هجرة المهندس بالشكل الحالي، تمثل خطرًا كبيرًا على البلاد، فهي بمثابة النزيف الخطير الذي ينخر جسد تونس، ولا ترى السلطات في هؤلاء المهاجرين إلا عملة أجنبية يحولها المهاجر إلى أهله نهاية كل شهر تساهم بها الدولة في تغطية حاجياتها من العملة الصعبة.
في حال تواصلت ظاهرة هجرة المهندسين على النحو التي عليه الآن، ستضطر الدولة التونسية إلى استيراد المهندسين الأجانب بعقود باهظة بدلًا من أبنائها المؤهلين الذين لم يجدوا لهم مستقرًا فيها، كما هو الحال عليه مع الأطباء.