ترجمة وتحرير نون بوست
للأسف الشديد، لن يختفي النقاش الممل عما إذا كان الإسلام دينًا أعنف – بشكل أو بآخر – من الديانات الأخرى، المشاحنات الأخيرة بين الكاتب رضا أصلان، والمذيع بيل ماهر، وطبيب الأعصاب سام هاريس الذي قال في برنامج ماهر إن “الإسلام هو أصل كل الأفكار السيئة”؛ أدت إلى استفزاز الكثيرين لكتابة آلاف التدوينات والتغريدات.
اعترف فريد زكريا، خلال مقال له الأسبوع الماضي في صفحات الرأي في واشنطن بوست، بوجود مستوى غير سار من التعصب في بعض البلدان ذات الغالبية المسلمية، لكنه أكد أن هذه الأمراض المجتمعية لا يمكن أن يُتهم فيها الإسلام كدين، وسأل زكريا، ماهر وهاريس ومؤيديهما “إذن فإن استراتيجية إصلاح الإسلام، هي أن أطلب من 1.6 مليار مسلم، معظمهم ملتزمين دينيًا، أن يعتبروا دينهم شرًا مطلقًا وأنهم يجب عليهم التوقف عن أخذه على محمل الجد؟!”
كان سبب هذه المحادثة هي الحرب التي تقودها الولايات المتحدة ضد متطرفي تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، فضلاً عن التهديد المستمر من الجماعات الإرهابية في أماكن أخرى، والتي تتبنى نفس النسخة المتزمتة من الإسلام، خطهم الأصولي الذي يتبنونه، بالنسبة للغرب، هو فزاعة هذه اللحظة، يجادل الكثيرون في أن هذه الفزاعة ليس لها علاقة بالإسلام.
في جميع الأحوال، الإسلام وهؤلاء الذين يؤمنون به لم يكن يُنظر إليهم على أنهم نوع من التهديد الثقافي! قبل بضعة عقود، كانت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في الغرب لا يتورعون عن استخدام الإسلاميين في معاركهم مع السوفييت في أفغانستان، لكن لننظر أبعد من ذلك، عندما كان الصوت المسموع في الغرب يرى في مجتمع المسلمين مخرجًا ومنقذًا ومكافحة لأيديولوجية عدو مشترك.
في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، نما لدى مجموعة مؤثرة من المسئولين البريطانيين، والتي كانت أقوى إمبراطوريات الغرب، قلق متزايد بشأن التوسع الذي تقوم به روسيا، من أسيا الوسطى إلى البحر الأسود، كانت روسيا قد سيطرت على مساحات شاسعة من الأرض، وهو ما كان قد بدأ يلقي بظلاله على المصالح الاستعمارية البريطانية في الهند وفي الشرق الأوسط، وكانت احتمالية أن تسيطر روسيا على إسطنبول، عاصمة الدولة العثمانية الضعيفة، تعني أن البحرية الروسية لديها حرية الوصول إلى البحر المتوسط، وهو احتمال لا يمكن أن تتصوره بريطانيا أو القوى الأوروبية الأخرى.
وهكذا، بين الدبلوماسيين والصحفيين، بدأت سردية “روسيا – فوبيا” في الظهور والانتشار، كانت سردية أيديولوجية تستبطن صراع الحضارات، وبعد كل شيء، وبدءًا من كاثرين العظمى في أواخر القرن الثامن عشر، كان الروس قد رسموا طموحاتهم الاستعمارية بصبغة دينية وحددوا أهدافهم: استعادة إسطنبول، التي كانت مركز المسيحية الأرثوذكسية، وكما عبر عنها أحد شعرائها المفضلين “تقدم للحملة الصليبية إلى الأراضي المقدسة وتطهير نهر الأردن”.
فاز هذا الخطاب المسيحي بتعاطف قليل بين المسيحيين غير الأرثوذكسيين، فالقدس في القرن التاسع عشر كانت موقع معارك قاسية بين الطوائف المسيحية يحاول العثمانيون الغاضبون السيطرة عليها، العمل التبشيري للروس الأرثوذوكس في بولندا كان قد أثار غضب الدول الأوروبية مثل فرنسا.
البارون بوسونبي، السفير البريطاني في إسطنبول لمعظم الفترة في ثلاثينات القرن التاسع عشر، قرر أن مهمة إحباط التوسع الروسي هي “قضية مقدسة”، واعتبر مقال نُشر عام 1836، في كتيب “بريطانيا ومراجعة السياسة الخارجية”، العثمانيين “الحصن الوحيد لأوروبا ضد الموسكوفيين، حصن الحضارة ضد البربرية”، روسيا كانت تظهر في الكتابات باعتبارها مجتمع متخلف يمتلئ بالخرافات، ولا يزال الفلاحون هناك يعيشون في ظل عبودية وحكم الملوك والطغاة الذين لا ينازعهم برلمان ولا أي موقف ليبرالي، العثمانيون الذين كانوا قد شرعوا في نسختهم الخاصة من الإصلاح، بدوا أفضل كثيرًا من الروس عند المقارنة.
ديفيد أوركوهارت، خدم في إسطنبول مع بونسونبي، أصبح واحدًا من أشد المتحمسين للعثمانيين وللثقافة الإسلامية في دوائر السياسة البريطانية، كتاباته بخصوص التهديد الروسي شكّل آراء الكثيرين في بريطانيا في ذلك الوقت، بما في ذلك بالتأكيد، كارل ماركس، كما أن الوقت الذي قضاه أوركهارت بين القبائل القوقازية مهد الطريق لعقود من التمجيد الرومانسي الأوروبي للمقاتلين المسلمين الوعرين في ظل الحكم الروسي.
عاد أوركهارت من أسفاره في تركيا العثمانية وغيرها مقتنعًا بأن الحياة على النمط العثماني أفضل كثيرًا لصحة الإنسان، وكتب يقول “إذا كانت لندن مسلمة، فإن السكان سيستحمون بشكل منتظم، وسيرتدون ملابس أفضل، وسيفضلون شرب المياه على الخمر أو البراندي أو البيرة”، أوركهارت حاول في وقت لاحق أن يطلق حركة ثقافية لجلب ثقافة الحمامات التركية إلى بريطانيا الفيكتورية الباردة، لكنه فشل في ذلك.
وفي نظرة على المناطق التي يحميها العثمانيون، أشاد أوركهارت بحكم الإمبراطورية العثمانية لمجموعة من الطوائف المختلفة مثل المسيحيين وغيرهم مثل الدروز والموارنة المتحاربين في بلاد الشام، أو الروم الأرثوذكس والأرمن، وفي قطعة اقتبسها المؤرخ أورلاندو فيغيس في عمله الرائع بشأن حرب القرم، وصف أوركهارت الإسلام في ظل العثمانيين بأنه “قوة متسامحة ومعتدلة” أمام التعصب والتطرف الذي يحكم علاقة الطوائف المسيحية، الذين قال أوركهارت إنه لن يعيد انسجامهم إلا اليد القوية الروسية بسياط الاستبداد!
وعودة إلى 2014، انقلب الحوار تمامًا، بدأ المتحاورون يتحدثون عن الحروب بين السنة والشيعة، عن اضطهاد المسيحيين المحاصرين من قبل المسلمين في الشرق الأوسط، الآن يقال لنا إننا من دون الحكام الأقوياء المستبدين المتحالفين مع الغرب، فإن العالم الإسلامي سيسبح في حمام من الدم والفوضى الذي تكتسب فيه المنظمات الإرهابية نفوذها وقوتها.
الدروس التاريخية المذكورة ليس الهدف منها أن تشوه سمعة الروس أو أن تثني على العثمانيين الذين ارتكبت امبراطوريتهم العديد من الآثام، أوركهارت نفسه كان لديه العديد من المعارضين والمنتقدين في بريطانيا، لاسيما أولئك الذين كانوا يريدون لبريطانيا أن تكون أقل عدائية تجاه روسيا، وفي النهاية حاربت روسيا الدولة العثمانية وبريطانيا وفرنسا في حرب طاحنة بلا جدوى في خمسينات القرن التاسع عشر.
لكن هذه الدروس تظهر كيف تغير سياسات العصر من محادثات الناس تجاه الثقافة والشعوب، الوضع الآن لم يختلف كثيرًا عما كان عليه قبل قرنين من الزمان.
المصدر: واشنطن بوست