استيقظت تركيا صباح الأحد 4 من أبريل/نيسان 2021 على بيان لضباط متقاعدين من البحرية التركية، انتقدوا فيه مساعي الحكومة التركية لإنشاء قناة إسطنبول المائية الموازية لمضيق البوسفور والرابطة بين البحر الأسود وبحر مرمرة، كما انتقدوا كثرة الحديث مؤخرًا عن نية حكومة أردوغان إلغاء معاهدات دولية قد تمس بالسيادة الوطنية للجمهورية التركية.
ففي منتصف ليلة الأحد 4 من أبريل/نيسان، وقع 104 أميرالات بحريين متقاعدين بيانًا رفضوا فيه عزم أردوغان الخروج من معاهدة مونترو أو الالتفاف عليها من خلال إنشاء قناة إسطنبول، المعاهدة التي تعتبر نصرًا للدبلوماسية التركية، وتنظم حركة السفن التجارية والحربية في المضائق التركية الواصلة للبحر الأسود، الموقعة عام 1936، بالإضافة لاعتراضهم على مساعي أردوغان وحكومته لزعزعة قيم مؤسس الجمهورية التركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك.
أثار البيان جدلًا واسعًا على وسائل التواصل الاجتماعي، وتسبب في ردود فعل غاضبة بصفوف المسؤولين في الحكومة التركية وقيادات حزب العدالة والتنمية وحليفه حزب الحركة القومية، فقد اعتبروه مؤشرًا على انقلاب عسكري يجري التحضير له، وأصدرت النيابة العامة، الأحد، تحقيقًا بشأن البيان، أوضحت فيه أنه سيتم التحقيق مع الضباط الموقعين عليه، ومنذ صباح اليوم جرى توقيف 10 ضباط على ذمة التحقيق لكشف ملابسات القضية.
من جهتها، علقت وزارة الدفاع التركية، من خلال الكتابة على صفحتها الرسمية، مؤكدة “لا يمكن بأي شكل من الأشكال استخدام القوات المسلحة التركية كوسيلة لتحقيق الأطماع والآمال الشخصية لمن ليس لديهم أي مهمة أو مسؤولية”.
أبرز ما جاء في البيان
استهل البيان رفض الضباط لمشروع قناة إسطنبول المدعوم من أردوغان وحكومته، وعبروا عن شعورهم بالقلق جراء المساس بمعاهدة مونترو، حيث قالوا: “مونترو ليست مجرد اتفاقية تحكم مرور السفن عبر المضائق التركية، بل هي انتصار دبلوماسي كبير أعاد لتركيا سيادتها على مضائقها الإستراتيجية، كما تعتبر مونترو الوثيقة الأساسية لأمن البلدان المشاطئة للبحر الأسود، وبفضلها أصبح البحر الأسود بحرًا من السلام، كما مكنت تركيا من لعب دور حيادي إبان الحرب العالمية الثانية”.
لفت الضباط إلى ضرورة تدريب عناصر القوات البحرية وفق مبادئ ثورة أتاتورك
كما أدان البيان مساعي أردوغان وحكومته للخروج بالبلاد والقوات المسلحة عن قيم العلمانية التي وضعها مصطفى كمال أتاتورك، بقولهم: “ندين ابتعاد القوات البحرية التركية عن هذه القيم وعن المسار المعاصر الذي رسمه أتاتورك”. يذكر أنه في الأيام الماضية انتشرت صورة لضابط في البحرية التركية يرتاد مقر (تكية) جماعة إسلامية مرتديًا عمامة وعباءة فوق لباسه العسكري، في مشهد لم تشهده المؤسسة العسكرية من قبل.
وركز البيان على التصفية التي تعرضت لها القوات المسلحة التركية بشكل عام، وخصوصًا القوات البحرية بسبب المكائد التي حاكها تنظيم غولن، ودعا البيان إلى ضرورة احترام مواد الدستور الأربعة الأساسية التي تحمي قيم علمانية الدولة، بقولهم: “من الضروري أن يعمل الجيش التركي بجد للمحافظة على القيم الأساسية للدستور، التي لا يمكن تغييرها ولا يمكن اقتراح تغييرها”، في إشارة منهم لرفض الدستور المدني الذي يدعو إليه أردوغان.
وفي البيان لفت الضباط إلى ضرورة تدريب عناصر القوات البحرية وفق مبادئ ثورة أتاتورك، وأكدوا أنهم يقفون إلى جانب البحارة الأتراك الذين يعملون بإخلاص في كل ركن من أركان البلاد، في البحر والبر والجو وفي منطقة الأمن الداخلي وخارج الحدود، الذين يعملون بقلبهم وروحهم لحماية تركيا وحقوقها.
ردود الفعل
أثار البيان العديد من ردود الفعل الغاضبة من مسؤولي الحكومة وقيادات في تحالف الشعب الذي يضم حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية وحزب وطن.
شجب رئيس البرلمان التركي مصطفى شانتوب، البيان، بكتابته على موقع تويتر: “لقد دفنت أمتنا في 15 من يوليو/تموز ليس فقط مدبري الانقلاب من منظمة غولن الإرهابية، لكن أيضًا جميع عشاق الانقلابات”، يذكر أن شانتوب هو من ألمح إلى إمكانية خروج أردوغان من معاهدة مونترو بقرار رئاسي مثلما فعل بالخروج من معاهدة إسطنبول (الخاصة بحماية الأسرة والمرأة).
وزير الداخلية سليمان صويلو من جانبه كتب على تويتر: “الشعب التركي العظيم يحب لباس الجيش ويعتبره شرفه، وبعد التقاعد يزداد الشرف أكثر من خلال الارتباط بالديمقراطية والدولة والشعب، ومن لا يستخدم رتبته العسكرية في أهداف سياسية يتم ذكره بالشكر دائمًا، لكن ماذا عن البقية؟”.
من جانبه وصف زعيم حزب الحركة القومية دولت بهتشلي، البيان بالمعادي للديمقراطية وأشبه ما يكون بمذكرات الوصاية العسكرية، ليغرد على تويتر “بأنه يجب سحب الرتب العسكرية من الضباط الذين وقعوا على البيان المعد بأسلوب المذكرة العسكرية، ويجب إلغاء معاشاتهم التقاعدية، وإجراء تحقيق قضائي وإداري بحقهم”.
حزب الشعب الجمهوري: ليس لدينا أي أهمية في الحديث عن الأجندات المزيفة التي يصدرها العدالة والتنمية من خلال لعب دور الضحية
في المقابل اعتبرت المعارضة الخوض في هذا النقاش وإظهار الأمر على أنه نية للانقلاب على الشرعية والديمقراطية، ما هو إلا محاولة من الحكومة لخلق أجندة وهمية تلعب من خلالها دور الضحية، وذلك لإشغال الشعب عن مشاكله الأساسية المتعلقة بسوء الأحوال الاقتصادية للبلاد.
وعبر عن ذلك الناطق باسم حزب الشعب الجمهوري (أكبر أحزاب المعارضة)، فائق أوزتراك، عندما كتب على موقع تويتر: “ليس لدينا أي أهمية في الحديث عن الأجندات المزيفة التي يصدرها العدالة والتنمية من خلال لعب دور الضحية، نهتم بسماع مشاكل شبابنا العاطل عن العمل، غير المرئيين من قصر الرئاسة، والواعين للألاعيب السياسة التي تدار حاليًّا”.
هل في البيان إشارة لانقلاب عسكري؟
الحكومة من طرفها ترى في البيان نيةً لإحداث انقلاب عسكري وتهديدًا للديمقراطية في البلاد، إذ تسود حالة من القلق في الآونة الأخيرة في أروقة الحكومة التركية بالتزامن مع عدة تصريحات، قُرئت على أنها تهديد وتحريض على التحضير لانقلاب للإطاحة بأردوغان وحكومته، وكان آخرها تصريح رئيس أركان الجيش الأسبق إلكر باشبوغ عندما قال: “عدنان مندريس لو كان دعا إلى انتخابات مبكرة لما حصل عليه انقلاب”، فقد قرأها البعض على أنها رسالة مبطنة لترهيب أردوغان.
يذكر أنه بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 من يوليو/تموز 2016، وخلال عملية التنظيف التي تجريها القوات المسلحة التركية، بهدف استئصال أعضاء حركة غولن، أُقيل أكثر من 20 ألف من منتسبي القوات المسلحة التركية، معظمهم من الضباط والرتب العليا، وذلك بحسب تصريح لوزير الدفاع التركي خولصي أكار.
وعلى الجانب الآخر، ترى المعارضة أن البيان عبارة عن وجهة نظر للضباط المتقاعدين فيما يخص القضايا التي يجري تداولها في الإعلام مؤخرًا، وليس فيه أي دعوة لإحداث انقلاب عسكري، كما أن المادة الـ25 من الدستور تكفل حرية الرأي للجميع بما فيهم الضباط المتقاعدون.
القارئ للبيان يرى فيه مناشدة للالتزام بالاتفاقيات الدولية التي تصون السيادة الوطنية التركية، وعلى رأسها معاهدة لوزان ومكملتها معاهدة مونترو، ويدعو للحفاظ على نهج أتاتورك ولصون قيم العلمانية التي تأسست عليها الجمهورية التركية الحديثة، بالإضافة لرفضهم تغلغل الجماعات الإسلامية في صفوف القوات المسلحة كما حدث في السابق.
وفي الخلاصة، الموقعون على هذا البيان ضباط متقاعدون لا يملكون أي سلطة، ومن الصعب عليهم التأثير على الجيش لإحداث انقلاب عسكري قد يسلب الإرادة الشعبية، كما أن الشعب التركي ضرب أعظم الأمثلة في التصدي للوصاية العسكرية من خلال وقوفه إلى جانب الديمقراطية في أثناء الانقلاب الفاشل عام 2016، والشعب مستعد للوقوف في وجه كل من تسول لهم أنفسهم بحرف البلاد عن المسار الديمقراطي.