كثيرة هي المشكلات التي يشهدها العراق خاصة تلك التي تتعلق باستغلال الموارد الطبيعية للبلاد، غير أن أحد أهم الموارد الطبيعية المعرضة لخطر داهم تتمثل بالمياه ووفرتها في بلاد الرافدين التي تضم اثنين من أعظم أنهار العالم: دجلة والفرات.
العراق وعلى مدى العقود الماضية لم يفلح في استغلال موارد المياه الطبيعية، ما تسبب في حدوث أزمات مائية متلاحقة مع تحكم دول المنبع (تركيا وإيران) بالمياه.
ورغم المحاولات التي أبدتها الحكومة العراقية قبل الغزو الأمريكي عام 2003 والحكومات اللاحقة لهذا التاريخ، فإن جميع المساعي لم تفلح في توقيع العراق اتفاقيات ملزمة مع تركيا وإيران لضمان حصته من المياه المارة في أراضيه التي تنبع غالبيتها من الدولتين الجارتين.
أرقام صادمة
في خضم الأزمة المائية، أكد المستشار في وزارة الموارد المائية العراقية عون ذياب عبد الله أن العراق سيواجه نقصًا حادًا في مناسيب المياه خلال السنوات المقبلة، والحل يكمن بتوقيع اتفاقية مشتركة مع تركيا.
ذياب أوضح أن هناك تحديات جمة تواجه العراق خاصة مع وجود مؤشرات تنذر بنقص واردات المياه، مع زيادة أعداد سكان العراق ودول الجوار، إضافة إلى المؤشرات المناخية، لافتًا إلى أن المؤشرات الإستراتيجية لوزارته تتوقع أن يشهد العراق عام 2035 نقصًا في المياه يقدر بـ10 مليارات متر مكعب.
جاء حديث ذياب خلال أعمال المؤتمر الدولي الأول للمياه الذي نظمته وزارة الموارد المائية ببغداد في الـ13 من مارس/آذار الحاليّ، فقد أشار إلى أن العراق يتواصل مع تركيا منذ مدة طويلة لتأمين حصة معقولة ومنصفة من المياه وفق القوانين الدولية، إلا أن الجانب التركي لم يستجب لتوقيع اتفاقية مشتركة.
وتشير تقارير دولية إلى أن درجة الإجهاد المائي في العراق تبلغ 3.7 من 5 وفق مؤشر الإجهاد المائي، ليدرج العراق ضمن قائمة الدول المُصنفة بأن لديها “خطورة عالية” فيما يتعلق بالشح المائي ومخاطره، ويتوقع المؤشر العالمي أنه بحلول عام 2040 ستصبح بلاد الرافدين أرضًا بلا أنهار بعد أن يجف نهرا دجلة والفرات تمامًا.
وفي السياق، يبلغ إجمالي معدل استهلاك المياه في العراق نحو 53 مليار متر مكعب سنويًا، بينما تقدر كمية مياه الأنهار في المواسم الجيدة بنحو 77 مليار متر مكعب، وفي مواسم الجفاف نحو 44 مليار متر مكعب، ونقص مليار متر مكعب من حصة العراق المائية يعني بالمحصلة خروج 260 ألف دونم من الأراضي الزراعية من دائرة الإنتاج الزراعي.
التغيرات المناخية
تلعب التغيرات المناخية دورًا أساسيًا في الشحِّ المائي بالعراق، إذ تسبب تفاوت في كمية المياه الواردة إليه من نهري دجلة والفرات بين زيادة مفاجئة قد تحدث فيضانات أو شح يؤدي إلى الجفاف، فضلًا عن انخفاض معدلات سقوط الأمطار في السنوات الأخيرة، إذ انخفض معدل سقوط الأمطار في شتاء 2017 – 2018 إلى أقل من ثلث المتوسط.
متوسط نصيب الفرد العراقي من المياه الصالحة للشرب يبلغ 397 لترًا في اليوم، بفجوة عن الحصة الواجب توافرها وتقدر بـ450 لترًا في اليوم
وبحسب دراسة نضير الأنصاري أستاذ هندسة الموارد المائية العراقي بجامعة لوليو السويدية المعنونة بـ”أزمة المياه الحاليّة في العراق وتأثيراتها البشرية والبيئية”، يقول الأنصاري: “منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من أكثر المناطق تعرُّضًا للتأثيرات المحتملة لتغير المناخ، وبالفعل تعاني المنطقة من الجفاف وندرة المياه وزيادة متوسط درجات الحرارة وانخفاض هطول الأمطار”.
وأشار الأنصاري إلى أن تحليل سجلات هطول الأمطار ودرجات الحرارة في أجزاء مختلفة من العراق يؤكد وجود انخفاض مستمر في هطول الأمطار وزيادة في درجات الحرارة، ما يؤدي إلى انخفاض السعة التخزينية للخزانات والإنتاجية الزراعية، واستنزاف موارد المياه الجوفية بسبب قلة إمدادات المياه.
في الوقت ذاته، يشير تقرير خطة التنمية الوطنية العراقي أن متوسط نصيب الفرد العراقي من المياه الصالحة للشرب يبلغ 397 لترًا في اليوم، بفجوة عن الحصة الواجب توافرها وتقدر بـ450 لترًا في اليوم.
في حين حذرت دراسة “التنمية والتغير المناخي في العراق” من أن التغيرات المناخية ستؤدي إلى انخفاض نصيب الفرد العراقي من المياه العذبة إلى نحوٍ غير مسبوق يقدر بما يقارب 865 مترًا مكعبًا سنويًا.
سوء التخطيط
على مدى العقود الماضية لم يفلح العراق في توسيع عدد سدوده التي بنى آخرها في ثمانينيات القرن الماضي، يقول الباحث الاقتصادي محمد الحمداني في حديثه لـ”نون بوست” إن سوء التخطيط في العراق لا يقف عند إهمال بناء السدود بل يتعدى ذلك إلى سوء إدارة ملف المياه داخليًا وتلوث الأنهار المتعمد من المصانع والمستشفيات، فضلًا عن عدم وضع سياسة مائية لحماية المياه السطحية والجوفية على حد سواء.
ويكشف أن هناك قناعات راسخة لدى تركيا في عدم زيادة الإطلاقات المائية لنهري دجلة والفرات وتتمثل في أن نسبة عظيمة من مياه النهرين العراقيين تذهب سدى لتختلط بالمياه المالحة في الخليج العربي، وهو ما يعني أن العراق لن يستفيد من الإطلاقات المائية إلا لفترة زمنية قصيرة لا تتعدى الأشهر، لافتًا إلى أن على العراق التفكير جديًا ببناء مزيد من السدود التي تعزز الخزين الإستراتيجي المائي في البلاد.
ويضيف الحمداني مشكلة أخرى تتعلق بملف المياه، فإخفاق الحكومات العراقية في التعامل مع كل من تركيا وإيران في ضمان حصة العراق من المياه، جعل كلا الدولتين تعملان على إقامة مجموعة كبيرة من السدود على منابع نهري دجلة والفرات، فضلًا عن أن إيران عمدت إلى قطع المياه عن الروافد المائية الداخلة للعراق من أراضيها وتحويل تلك المياه إلى الداخل الإيراني، ما أدى بالمجمل إلى أن يكون العراق الحلقة الأضعف في ملف المياه بالمنطقة.
وبين الحمداني أنه ووفقًا لتقرير رسمي سرّي أعدته وزارة الموارد المائية عام 2018، فإن العراق خسر 30% من كمية المياه التي كان يحصل عليها من نهرَي دجلة والفرات، مشيرًا إلى أن التقرير كشف أن العراق سيخسر خلال سنوات 50% من حصته التاريخية من مياه النهرين، دون أن تشمل هذه النسبة الخسارة المائية المتأتية من التأثيرات المناخية والاحتباس الحراري.
ملف حزب العمال الكردستاني المصنف في تركيا إرهابيًا يمكن أن يكون له دور كبير في إقناع تركيا بتوقيع اتفاقية ملزمة للمياه مع العراق
ويختتم الحمداني حديثه قائلًا: “العراق بات الآن في المراحل شبه النهائية لتدارك الوضع المائي، وبغير ذلك قد لا تجد البلاد فرصةً للمراوغة والمباحثات مع دول الجوار لضمان حصة الشعب العراقي من المياه العذبة”.
معالجة سياسية
“قد لا تكون الحلول يسيرة، إلا أن لا شيء مستحيل في عالم السياسة” هكذا يصف المحلل السياسي رياض الزبيدي الحال في العراق فيما يتعلق بأزمة المياه، إذ يرى أن العراق يمتلك أدوات سياسية ناجحة يمكنه استخدامها في التفاوض مع كل من إيران وتركيا لضمان الحصة المائية.
ويشير الزبيدي إلى أن ملف حزب العمال الكردستاني المصنف في تركيا إرهابيًا يمكن أن يكون له دور كبير في إقناع تركيا بتوقيع اتفاقية ملزمة للمياه مع العراق، فضلًا عن أن العامل الاقتصادي مع إيران يعد ورقةً رابحةً جدًا لبغداد في الضغط على طهران من أجل إعادة تدفق المياه في الروافد التي أقدمت على تحويل مياهها للداخل الإيراني ومنها نهر الكارون جنوب البلاد.