في الأعوام الأخيرة وبالأخص منذ عام 2016، حينما تمكنت القيادة السياسية في تركيا من إجهاض واحد من أكبر الانقلابات العسكرية في تاريخ البلاد، وتحويل هذه المحنة إلى منحة نتج على إثرها إبعاد الجيش عن السياسة إلى حد كبير، وتركيز جهوده على خدمة الأهداف التركية الاستقلالية في الداخل والخارج، وقد بدأت الأعين توجه نحو مهندسي هذه السياسات في الاستخبارات التركية.
العلاقة بين النجاحات التركية المتلاحقة مؤخرًا وحراس الأمة الرابضين في “القلعة” (الاستخبارات التركية)، أكدها الرئيس التركي رجب أردوغان في تصريح رسمي منتصف العام الماضي، عندما شكر رجال الجهاز على دورهم في إجهاض الحملة العسكرية التي شنها الضابط المنشق خليفة حفتر بدعم خارجي واسع على العاصمة الليبية طرابلس.
ولما كان الجهاز التركي قد قرر أن يكشف بعض عملياته ومهماته بنفسه، في عمل درامي من إنتاج شبكة TRT الرسمية، في سياق صار خلاله هذا النمط من الأعمال الأمنية المعلوماتية رائجًا في منطقة الشرق الأوسط الملتهبة بالصراعات، فإنها أفضل فرصة لتسليط الضوء على “المنظمة” بعيوننا، شرحًا وتحليلًا، بعد أن نال العمل اهتمامًا كبيرًا في العالم العربي، رغم عرض 4 حلقات فقط.
فكرة العمل
تدور أحداث العمل حول 3 ملفات رئيسية من المفترض أنها منفصلة تاريخيًا، لكن صناع العمل قرروا دمجها بسبب تقاطعها في الواقع كونها تصب في اتجاه محاولات تقويض جهود الدولة التركية الحديثة الرامية للاستقلال، ولأهداف درامية تخدم تسويق العمل.
هذه الملفات الثلاث هي: مركزية مشروع الطائرات المسيرة المسلحة في إستراتيجية الاستقلال العسكري التركية، والسجل الدامي لوقائع اغتيال خيرة عقول الأمة التركية المنخرطين في مشروعات الاستقلال العسكري، والأيادي الخارجية الساعية إلى إحباط جهود الاستقلال التركي، وبالأخص من التحالف الإماراتي الفرنسي الذي يرى في القيادة السياسية الحاليّة لتركيا خطرًا ممتدًا من الماضي للمستقبل (أحفاد العثمانيين).
يظهر هذا الدمج منذ الحلقة الأولى في عملية اغتيال 22 مهندسًا تركيًا من العاملين في مصنع الطائرات المسيرة خلال عودتهم من إحدى مسابقات المجال التي قدموا خلالها مشروع محرك جديد، فإذا بزخات الرصاص ترديهم قتلى بينما هم في غمرة انتشائهم المهني، ثم يسرق المهاجمون القرص الصلب الذي يحتوي على “البروتوكول الأمني للطائرات المسيرة التركية”، ومن هنا يحاول رجال المخابرات التركية فك شفرة العملية، متعهدين بالقصاص لزملائهم بكشف المتورطين في هذا الحدث وعقابهم.
تشير التحقيقات الأولية إلى تورط مدرس فرنسي يدعى باسكال، مقيم في تركيا منذ 3 أعوام في التخطيط لتنفيذ العملية، بالاستعانة بعناصر محلية، لكن عمليةً بهذا الحجم يصعب عزوها إلى شخص واحد، فلا بد أن هناك تنظيمًا ما، يحمل فكرًا معاديًا للدولة التركية يقف خلفها، ومن الضروري استعادة القرص الذي يحوي البروتوكول الأمني للدرونز التركية، تقليلًا لخسائر العملية، ووفاءً للوعد الذي قطعه ضباط الاستخبارات التركية على أنفسهم باسترداد هذه الذاكرة المهمة.
وفي نفس الوقت، يسلط العمل الضوء على قضية خطيرة في الوجدان التركي المعاصر وهي: العنصرية التي يتعرض لها المهاجرون الأتراك في أوروبا من الجماعات اليمينية المتطرفة، التي كثيرًا ما تتطور إلى أعمال قتل وإيذاء، كما جرى مع بطل المسلسل “سردار” الذي قتلت أسرته المكونة من 3 أفراد، الأب والأم والأخت، في حريق أشعله نازيون في منزلهم مساء، حين كان عمره 10 أعوام في برلين.
وقد تلقفت الاستخبارات التركية سردار حينما كان طفلًا وأعادته إلى البلاد ودربته على يد واحد من خيرة وأكفأ ضباطها، الرجل الثاني في الجهاز “ماتا” منذ هذه الحادثة الأليمة، حتى صار مسؤولًا عن قيادة عمليات كبرى مثل عملية الثأر لإحدى المعلمات التركية التي قتلت في هجوم إرهابي، إذ تم استعادة المتورط في العملية وقتل 27 إرهابيًا في سوريا، وهي العملية التي افتتح بها المسلسل، إلى جانب العملية الرئيسية التي يدور حولها باقي العمل: استشهاد المهندسين الأتراك العاملين في مصنع المسيرات في هجوم إرهابي كبير.
مسار الأحداث
يقرر الرجل الثاني في الاستخبارات التركية ماتا تكوين فريق احترافي من 5 أفراد، 2 منهم من العاملين في الجهاز وهما “أوزاي” أفضل محلل بيانات داخل الجهاز و”زهراء” الوجه النسائي الذي يقود عمليات أساسية على نحو يضاهي نظراءها الرجال إن لم يتفوق عليهم، إلى جانب 3 من المتعاونين السابقين مع الجهاز هم: “هولكي” أحد أقوى الرجال وأكثرهم شجاعةً والخال “حقي” أبرز متعقب في البلاد و”بينار” الجميلة الماهرة في التنكر والتخفي.
يتفق نائب الرئيس ماتا مع من سيقبل منهم الانضمام إلى الجهاز في المهمة، على تدبير حادث مزيف يعلن بعده أنهم ماتوا جميعًا في سقوط طائرة بالبحر الأسود، بحيث ينتهي وجودهم من السجلات الرسمية تمامًا، وهو ما يفرض عليهم تحديًا إنسانيًا بشأن أسرهم التي من المفترض أن تتصرف وفق هذا الوضع الجديد: موتهم، وقد ترك هولكي خلفه والدًا مريضًا بالقلب، وتركت زهراء خلفها ابنةً تشعر دائمًا بتقصير أمها في حقها وتفضيل العمل عليها.
ومع ذلك، في الاختيار بين الوطن والأسرة، قرر الـ5 الذين يحبون أسرهم بشدة – مع اختلاف طبيعة كل أسرة – الانخراط في المهمة دون معرفة أي شيء عن طبيعتها وخطورتها، وفاءً للوطن، فـ”الدولة عندما تقول لك مت تموت، عشْ تعيش”، كما وصف الخال حقي.
ويفاجأ البطل سردار بأن الملاك الجميل التي أحبها، وكانت دائمة الإلحاح عليه في التعبير عن حبه “جيرين”، لم تكن تحبه، وإنما كانت تستغل فراغه العاطفي الناتج بالأساس عن طفولته الصعبة، وتعمل مع المنظمة المقابلة التي يفترض أن يعمل سردار ضدها، إذ أسند لها مهمتان هما: تهريب المسؤول عن عملية الهجوم على الحافلة “باسكال” خارج تركيا، وإرسال القرص الصلب إلى المنظمة المعادية لتركيا في الخارج.
ينشأ بين الفريق الاستخباري الخماسي الذي يهدف إلى منع وصول البروتوكول الأمني إلى أعداء تركيا بالخارج وكشف المنظمة المسؤولة عن اغتيال أبناء وطنهم، علاقة ود وتعاون قائمة على وحدة الهدف وتشابه التضحية، وهي ثيمةٌ معروفة في الأعمال الدرامية بدايةً من “المغامرون الخمسة” حتى “فرقة ناجي عطا الله”، ويتداخل الشخصي مع المهني في حالة سردار الذي تنمو بداخله دوافع انتقام كبيرة نحو جيرين التي كانت تمثل الحب عليه ولم تحبه قط.
تدور معظم الأحداث في ألمانيا التي اجتمعت فيها المنظمة المعادية لتركيا بغرض استلام البروتوكول الأمني المهرب، وتدشين حملة علاقات عامة تهدف إلى فرض عقوبات سياسية جماعية من أوروبا على أنقرة، وإثارة النعرات العنصرية ضد المجتمع المحلي التركي، وهي نفس البلد (برلين) التي شهدت ميلاد البطل سردار واكتواءه بنار العنصرية.
ويتضح أن شخصًا معينًا يقف خلف كل هذه المكائد لتركيا، يدعى زايد فادي، فلسطيني الجذور، فقير المنشأ، إذ تربى في المخيمات ويحلم برئاسة فلسطين ويرأس في المنظمة ملف تركيا، فقد كرس حياته إلى تأليب الرأي العام الأوروبي على تركيا، ومحاولة شراء ذمم البرلمانيين ورجال الإعلام، وصولًا إلى تدبير أعمال إرهابية عبر وكلاء لتشويه تركيا في الخارج، وهو ما رجح أن يكون رمزًا لشخصية الفلسطيني المقيم في الإمارات والطامح إلى قيادة فلسطين والمعروف بعدائه لتركيا وسياساتها، محمد دحلان.
علم اجتماع المنظمات
يقوم المسلسل بالأساس على تنافس عدد من المؤسسات بشكل يبرز مفاهيم أحد فروع علم الاجتماع، والمعروف بعلم اجتماع المنظمات، فلكل منظمة تقاليدها وقيمها ورموزها وطريقتها في تعريف الولاء والانتماء إليها، ومحفزات ذلك، وعواقب الخروج عليها.
ففي المقابل من مؤسسة الاستخبارات التركية (المنظمة) التي تسعى إلى حماية المجتمع التركي أمنيًا، وقد نمت تقاليدها منذ أن كانت التقنيات المستخدمة في المجال الاستخباري شديدة البدائية كما أوضح ماتا الذي قضى 30 عامًا في المؤسسة إلى زهراء التي قضت 8 أعوام، هناك منظمة معادية لتركيا تشبه المنظمات الماسونية.
لهذه المنظمة أيضًا طقوسٌ ورموز وأنشطة وأهداف ومحظورات، حيث سلط العمل الضوء عليها في البداية من خلال تصويت جماعي على الإطاحة بشخص يدعى مختوم من قيادة ملف تركيا، عبر ضرب عنقه بالسيف نتيجة تقصيره في العمل، تبعه انتخاب زايد فادي لتولي هذا الملف بعده، وما تلى هذه العملية من غرس وسم على ذراعه يحمل دلالةً معينة خاصة بالمنظمة، كما أن لها أميرًا بهذا المصطلح كما وصفه فادي إلى البرلماني الألماني.
تنتمي الاستخبارات التركية إلى منظمة أعلى، وهي “الدولة”، فيتقاطع هذا المفهوم كما يبدو من العمل مع الوطن الذي يكن له أبناؤه الحب بالفطرة، فوصف ماتا طبيعة وجذور الدولة القومية التركية الحديثة التي ينتمي إليها جهازه قائلًا: “قسمونا وحاولوا تدميرنا قبل 100 عام، وعندما كنا على وشك الدمار أسسنا هذا البلد بنفضة أخيرة”.
“كلما رفعنا رأسنا حطوا علينا مثل الجاثوم، كلما رفضنا الدور المحدد هطلت الانقلابات على رؤوسنا، تعرض زعماؤنا للاغتيال، حرقوا روحنا بالإرهاب، وجدوا خونةً يطلقون علينا الرصاص، عندما نفد رصاصهم أتت الحرب الاقتصادية”.
وفي معرض تفريقه بين الدولة كمنظمة والمنظمة التي تدبر المكائد لتركيا التي يعد فادي عضوًا بها، قال ماتا: “بعد الحرب العالمية الثانية كان سيتم تأسيس دولة العالم الواحد، لكن تم تأسيس شركة هي عقل هذا النظام تحت قيادتهم، ونحن خرجنا إلى الطريق كي نكون أحد المراكز الجديدة، لكن الشركة عاقبت من لا يلتزمون بالنظام دومًا”.
وقد حققت منظمة الاستخبارات التركية مع سردار حينما شكت في ولائه بعد ثبوت علاقته بجيرين العاملة مع المنظمة المعادية، وطوال المسلسل كانت المنظمة الأكبر “الدولة التركية” حريصةً على إظهار الحماية لأبنائها كما فعلت مع والد هولكي الذي تعرض لنوبة قلبية فور معرفة وفاة ابنه في حادث طائرة بالبحر الأسود، إذ تفانى المتخصصون في العناية بالوالد حتى أنقذوه من الموت.
بهذا المعنى أيضًا، تصبح الجماعة النازية التي كانت تتلقى أموالًا من فادي بغرض الهجوم على المجتمع المحلي التركي في ألمانيا “منظمة” تحتاج، من أجل الانضمام لها، أن تحمل هويتها الرمزية وتؤمن بأهدافها، كما فعل سردار عندما طبع الوسم الخاص بهم على ذراعه حينما أراد أن يتظاهر بأنه منهم كي يعرف مزيدًا من المعلومات عن خطط أعداء بلاده في ألمانيا.
جذور الأحداث
ما يطرحه العمل من أحداث سواء كانت استعادة إرهابيين من الخارج أم كشف خيوط شبكات تنظيمية مترابطة تعمل ضد تركيا، هي وقائع حقيقية جرت فعلًا بشكل أو بآخر من قبل، أو ما زالت تمارس بأشكال مختلفة، وما فعله العمل هو تقديم هذه المكائد في قالب درامي سردي فقط.
فمنذ عام 2006، وجد عدد من المهندسين الأتراك مقتولين بطرق مختلفة توحي ظاهريًا بأنها كانت انتحارًا أو حوادث عارضة أو شجارات مع آخرين بداية من علي حسين باشبيلان وحافظ كوجا وعلي أونال وحتى كريم باليدار الذي ألقي من الطابق 14 بإحدى البنايات في أنقرة عام 2017، وكان ما يربط بين هذه الحوادث جميعًا هو اشتراك هؤلاء المهندسين في برامج عسكرية نوعية تابعة للجيش التركي، وبالأخص مشروعات تطوير مقاتلات “إف 16” الأمريكية على نحو يقلل من سيطرة بلد التصنيع عليها ويعظم من التحكم المحلي بها.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2019، أضيفت تهمة جديدة رسميًا إلى سجلات جرائم القيادي السياسي الفلسطيني المفصول من حركة فتح والمقيم في الإمارات، محمد دحلان، بعد أن رصدت السلطات التركية مكافأة مالية تقدر بـ4 ملايين ليرة لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى القبض عليه، عقب كشف تورطه في دعم عناصر ضالعة في التخطيط للانقلاب العسكري الفاشل في تركيا يوليو/تموز 2016 ماليًا، من الإمارات وصربيا إلى قيادات مقربة من جماعة غولن في الولايات المتحدة.
ويعد دحلان ذراع الإمارات الميدانية في صراعات المنطقة الممتدة من ليبيا وحتى تركيا ومصر، فقد طالبت المحكمة الجنائية الدولية الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن عام 2012 بالمساهمة في التحقيقات المرتبطة به بعد اتهامه بدعم جرائم حرب في ليبيا بالاشتراك مع سيف الإسلام القذافي، كما برز اسمه ذراعًا للإمارات في الساحة المصرية بأكثر من دور متناقض، بدايةً من عام 2012 حينما دعم تدشين حركة تمرد التي وطأت الأرض أمام انقلاب يوليو/تموز 2013، وفي ملف سد النهضة ممثلًا للمصالح الإماراتية في إثيوبيا مؤخرًا، بالمقابلة للمصالح المصرية.
في العمل، يتسم دحلان أو زايد فادي بجسارة شديدة من أجل خدمة داعميه في إلحاق الأذى بالأتراك في ملف الطائرات المسلحة دون طيار الذي يعد رأس المال العسكري للسياسة الخارجية التركية خلال الأعوام الأخيرة، إلى جانب محاولة شراء ذمم المؤثرين في ألمانيا بالمال والعطايا وإقناعهم بالانخراط في مشروعه العابر للحدود ضد الأتراك.
وينجح بالفعل في شراء امرأة ترأس المجلة الأكثر مبيعًا في أوروبا، من خلال هدايا نادرة مكلفة جدًا (ساعة تجاوزت قيمتها 400 ألف دولار وقرط)، من أجل تصميم غلاف مثير ضد الأتراك بالتزامن مع التصويت البرلماني الأوروبي على مشروع قرار لإدانة تركيا، بما يفتح الباب أمام موجة من الاعتداءات العنصرية ضد الأتراك في ألمانيا، ويسهل اتهام الأتراك في أي عمل عدائي مشبوه يوجه ضد هذه المجلة لاحقًا.
ويعد المجتمع التركي في ألمانيا واحدًا من أكبر الجاليات الأجنبية هناك بالفعل منذ أن برزت برلين كمجتمع عمل بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ما أكسب البلدين أهميةً خاصةً لبعضهما البعض، وفتح الباب في نفس الوقت، أمام استهداف هذه الجالية الضخمة، التي يعتنق أغلبها الإسلام، من جانب ما يعرفون بـ”النازيين الجدد”، الذين برزوا في المسلسل في أكثر من مشهد بدايةً من التورط في مقتل عائلة ساردار بطل العمل، إلى الاعتداء على السيدات المحجبات في الشارع الألماني على الهوية، وصولًا إلى التورط في سلسلة جرائم ضد المجتمع التركي هناك، بالتنسيق سرًا مع المنظمة التي يعد فادي عضوًا بها على رأس إدارة الملف التركي.
الواقعية
إلى جانب بنائه على أحداث حقيقية، فقد حرص صناع المسلسل على تلافي الخطأ الشائع في هذه الأعمال من هذا النوع، وهو الميل إلى المبالغة، فقد أبرزوا النشأة الصعبة للبطل بعد خسارة أسرته بما جعله عرضةً للإغواء النسائي، وهي “ثيمةٌ” متكررة في أعمال المخابرات الدرامية، ساهمت في أنسنة البطل، وخدمت العمل من زاوية التركيز على قضية العنصرية ضد المجتمع التركي في الخارج، إذ يقع على عاتق الاستخبارات التركية مسؤولية حماية هذه الجاليات، كما يقع على الموساد حماية الجاليات اليهودية المعرضة للاعتداءات في الخارج.
وقد أبرز المسلسل الجانب الآخر من حياة العاملين في هذا المجال، فرجل الاستخبارات نظرًا لطبيعة عمله السرية والمعقدة والمجهدة قد يخسر اتصاله مع عائلته التي لا تعلم بطبيعة الحال ظروف عمله بما يخلق جوًا من سوء التفاهم والتوتر المتبادل، كما حدث مع زهراء وابنتها يامور، فقد نشأ تصور في الأسرة بأن الأم تحب عملها أكثر من ذويها، كما وقع في نفس الصراع السيد ماتا نفسه الذي اكتشفنا لاحقًا بأن ابنه غوكجان كان مسجونًا في قضية سرقة أموال افتراضية، وهو ما ولد إلى جانب تحقيق هدف الواقعية، شعورًا عامًا بالتعاطف لدى المشاهد الذي بات يعلم الجانب المظلم، إن جاز التعبير، من حياة رجال الاستخبارات.
ولم يجد صناع العمل التركي مشكلة في إبراز الاتهامات الموجهة لبلادهم في السياق الدرامي من أجل تبرير العمليات العدائية ضدهم، حيث يطرح زايد فادي (دحلان) على البرلماني الألماني مسألة تقديم الأتراك دعمًا إلى المنظمات الإرهابية، ويسأل مديرة تحرير المجلة الأكبر مبيعًا في أوروبا مستنكرًا: “ألا تسمعين بقدوم الدولة العثمانية؟ أولًا سوريا ثم ليبيا، أذربيجان، البحر المتوسط، ربما اليونان لاحقًا، ربما أبواب فيينا”، وهي السردية التي يلعب عليها خصوم تركيا دومًا في الخارج عند مخاطبة الوجدان الأوروبي.
وإذا كانت مديرة تحرير المجلة قد قبلت الرشوة المقدمة من زايد فادي من أجل التحريض على الأتراك، فقد رفض البرلماني الألماني نفس الطلب، منوهًا أنه لا دلائل حقيقية على دعم تركيا للإرهاب، وأن أسلوب شراء الذمم بهذا الشكل قد يكون جزءًا من طبيعة العمل السياسي في الشرق الأوسط، غير أن الأمور في أوروبا ليست من الضرورة أن تسير على هذا النحو البدائي والوضيع، أو بالأحرى فليست كل الشخصيات قابلةً للشراء.
ورغم دوره الشرير طوال العمل وما هو معروف عنه في الواقع من الأدوار المشبوهة، فإن المسلسل عمد إلى إبراز الجانب الإنساني في شخصية فادي (دحلان)، فقد كانت طفولته غاية في الصعوبة، وكان وفيًا لقيمه النضالية في بادئ الأمر، صامدًا على التعذيب 4 مرات في السجون الإسرائيلية، إلا أن خيانة رفاقه لقيم النضال من جهة وطموحه الشخصي الجامح من جهة أخرى، قد أوصلاه إلى نقطة العمل مع المنظمة والاستعداد لفعل أي شيء من أجل خدمة أهدافها، والانتقام من الماضي الأليم، أو كما قال نصًا في العمل: “إذا أردت أن تكون قويًا، فلتحرص على البقاء بجانب الأقوياء”.
وتعد الصدمة النفسية محركًا لكثير من الأحداث في المسلسل بدايةً من صدمة البطل سردار التي ما زالت تشكل هويته رغم مرور هذه السنوات وعمله في الاستخبارات، وتضطره إلى الوقوع في فخ غواية المرأة، فلا يستطيع أن ينفك عن الحادث الأليم الذي تعرضت له أسرته في الصغر ويتذكره بين الحين والآخر، وتدفع الصدمة أيضًا زوجة أوزاي إلى النبش في فجوات السردية التي قدمتها الاستخبارات عن وفاة ذويهم، حتى تكتشف شواهد عديدة على احتمال ترتيب الأمر وعدم وفاتهم فعليًا، من شاكلة اتفاق الضحايا جميعًا على توديع ذويهم قبل يوم من الحادث، كما لو كانوا على علم بما سيقع بالفعل.
دلالات الدول
يميل صناع العمل إلى تقديم الفرنسيين كخصوم أكثر من كونهم حلفاءً، وهي المعادلة التي ظهرت بوضوح فعلًا خلال الأعوام الأخيرة في ساحات صراعات متعددة مثل ليبيا ومالي ولبنان وشرق المتوسط، وفي التراشق السياسي بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون.
ظهر في المسلسل باسكال الذي أشرف على مجزرة مقتل المهندسين الأتراك في الحافلة كمعلم فرنسي الجنسية، وفي حوار بين فادي والبرلماني الألماني، يستنكر فادي موقف برلين المناهض للعقوبات ضد تركيا قائلًا: “هذا ليس موقف أصدقائكم الفرنسيين” في إشارة إلى رعاية فرنسا مسألة فرض عقوبات على تركيا في ملف حظر توريد الأسلحة.
كما تبرز الإمارات كخصم أكثر من كونها حليفًا في المسلسل، فيظهر ساردار بطل العمل بطاقة هوية إماراتية إلى المسلحين عند أحد الحواجز في سوريا، ويخبرهم مستنكرًا تفتيشه: “إنني أمر يوميًا من هذا الحاجز”، في إشارة إلى الصلة بين الإماراتيين والجماعات المسلحة في سوريا، كما يفترض أن فادي (دحلان) يعمل في منظمة يقوم عليها إماراتيون، فهم الأقوياء الذين رافقهم حتى يحصل على المال والقوة والعلاقات كما قالت رفيقته.
فيما يقدم العمل الألمان في موقف محايد قياسًا على الفرنسيين والإماراتيين، إذ يتساءل الألمان عن مسوغات اتهام تركيا بدعم الجماعات الإرهابية، إلا أن برلين تعد ساحة صراع خلفية للتأثير على مجريات الأمور بين مختلف الأطراف نظرًا لثقلها الأوروبي وموقفها النقدي من الاتهامات الموجهة إلى تركيا واحتوائها على جالية تركية ضخمة.
ومع ذلك، فإن هناك بعض التقاعس في التعامل الألماني مع ملف العنصرية البيضاء والنازيين الجدد ضد المهاجرين الأتراك، فقد ظل قتلة عائلة سردار البطل طلقاء رغم مرور أكثر من 20 عامًا على الحادث كما أخبر البطل رفاقه في برلين، وهو الاتهام الذي وجهته السلطات التركية إلى ألمانيا رسميًا بعيدًا عن المسلسل أكثر من مرة، بالأخص بعد الأحكام المخففة على نشطاء نازيين متهمين بتعمد قتل أتراك في ألمانيا، كما أبرز المسلسل الشرطة الألمانية في آخر مشهد توجه الرصاص إلى فريق التعقب التركي بدلًا من ملاحقة المتورطين في التخطيط لشن عمليات إرهابية مغرضة لتشويه الأتراك، وقد أبلغ أحد عناصر الاستخبارات الألمانية (الدولة العميقة) فادي بتعقب الاستخبارات التركية لعملياته هناك من باب التحذير.
للقصة بقية
قد تكون المنظمة المعادية لتركيا قد استطاعت تنفيذ الهجوم على حافلة المهندسين الأتراك العاملين في مصنع الطائرات المسيرة وقتل عدد كبير منهم وسرقة البروتوكول الأمني الخاص بالشركة والفرح انتشاءً بالاعتقاد بأنهم كشفوا أسرار المشروع التي ستباع إلى من يدفع أكثر في مزاد سري، وتهريب باسكال من تركيا إلى ألمانيا.
لكن ما حدث في المسلسل أن الاستخبارات التركية نجحت في كشف جيرين وتأمين سفر باسكال إلى ألمانيا لكشف شبكة المتعاونين معه، ثم الانتقام لمقتل 22 مهندسًا تركيًا بقتله، ثم إعاقة الوصول إلى البروتوكول الأمني الخاص بالطائرات دون طيار، واستخدامه لتعقب عناصر المنظمة المعادية لتركيا وكشف مخططاتهم.
في الواقع، حققت صناعة المسيرات التركية مزيدًا من النجاحات العملية خلال الساعات الأخيرة بالتزامن مع عرض المسلسل، فقد كرم سلجوق بيرقدار من الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف بوسام “قره باغ” على مساهمته في النصر العسكري الأخير على أرمينيا في الإقليم الذي ظل محتلًا لنحو 3 عقود، وأعلنت شركة “بايكار” المصنعة لطائرات بيرقدار الاستعداد لطرح نسخة جديدة من هذه المسيرات تحمل اسم “بيرقدار تي بي 3”.
كما أعلن الجيش الأمريكي مراجعة خططه التكتيكية الخاصة بالتعامل مع خطر المسيرات بعد الثورة التي أحدثتها المسيرات التركية خلال معارك سوريا وليبيا وأذربيجان، وذلك بعد أن أعلنت قيادة الجيش البريطاني تكثيف العمل خلال الأعوام القادمة على برامج تطوير المسيرات بالاستفادة من خبرة نظرائهم الأتراك.
وقد توقفت أحداث المسلسل عند ترتيب العملية الانتحارية التي ستستهدف المجلة التي هاجمت الأتراك للإيحاء بأن الأتراك هم المسؤولون عن العملية، ووقوع سردار في قبضة المخططين الذين يتكونون من إرهابيين ولاجئين ونازيين مدعومين مباشرةً من فادي، وما زال الجمهور في انتظار الحلقة الخامسة بعد وصول الشرطة الألمانية إلى مقر التحضير للعملية ومهاجمة فريق التعقب التركي بدلًا من مداهمة وكر التحضير للعملية، وسط اندهاش من غرفة التحكم والمراقبة المركزية في تركيا.. فإلام ستؤول الأحداث؟