هما خاتون (بالتركية Hüma Hatun) أو خديجة حليمة هما خاتون (بالتركية Hatice Âlime Hüma Hatun) ـ (1401 ـ 1449) أحد رموز الدولة العثمانية، الزوجة الرابعة للسلطان العثماني مراد الثاني، سادس سلاطين آل عثمان ورابع من تلقب بلقب سلطانٍ بينه، وأول من قُلد سيف عثمان الغازي عند البيعة.
“ختامه مسك”، كما تقول الآية القرآنية المباركة في سورة المطففين (الآية 26) أردنا أن نختتم ملفنا الذي بدأناه تحت عنوان “سلطانات آل عثمان” بصاحبة العصمة السلطانية، التي لم تنل حظها من الأضواء الإعلامية والدراسة والبحث والتناول، رغم دورها العظيم في مسيرة الإمبراطورية التي هزت عرش العالم لقرون طويلة.
وبعيدًا عن مآثرها الخيرية والاجتماعية ودورها السياسي التقليدي، مقارنة بنظيراتها من الحرملك ونساء القصر، إلا أنه يكفيها أنه والدة السلطان الأعظم محمد الفاتح، فاتح القسطنطينية ورافع راية الإسلام فوق مآذنها، فكانت له الجامع والجامعة، المعلم والملهم، القدوة والمثل.
الزوجة الملهمة
لم تتوافر المعلومات الكافية عن هما خاتون، إلا أن الروايات المتواترة تشير إلى أنها جارية تعود إلى أصول سربية، فكانت تحمل اسم “ستيلا” وهو اسم روماني، فيما ذهب آخرون إلى أنها كانت من أسرة عريقة، ذات جذور نبيلة، فكانت أميرة من إمارة زيتا، كانت من أقارب دوراد الثاني بالتسيتش، أما “هما” فهو اسم فارسي ويعني “طائر الجنة”.
عثر على حجة وقفية في خزائن الدولة العثمانية ذكر فيها أن اسمها كان “خاتون بنت عبد الله”، فيما كان يطلق اسم “عبد الله” في المجتمع العثماني على معتنقي الإسلام الجدد، ممن ليسوا بمسلمين في الأساس، وهو ما دفع بعض المؤرخين للاستشهاد على ذلك بأنها في الأصل لم تكن مسلمة.
جاءت جارية لتباع إلى قصر السلطان، ولم ترد وثائق كافية عن مستوى جمالها، غير أن المؤكد أنها كانت تتمتع بقدر كبير من الذكاء وقوة الشخصية ورجاحة العقل، فاستطاعت أن تحتل مكانة بارزة في قلب السلطان مراد الثاني رغم أنها الزوجة الرابعة بجانب: يني خاتون وخديجة حليمة خاتون ومارا خاتون، ابنة قيصر الصرب جريج برانكوڤيچ.
تعززت مكانتها أكثر لدى السلطان بعدما أنجبت له صاحب البشارة الملك المجاهد والسلطان الغازي أبي الفتح والمعالي محمد خان الثاني، الذي يعرف اختصارًا باسم “محمد الثاني” ويلقب بـ”محمد الفاتح”، الذي تباينت الروايات بشأن يوم مولده الحقيقي، ففريق ذهب إلى أنه 20 من أبريل/نيسان 1429، وآخر 31 من مارس/آذار 1430، بينما أكد فريق ثالث أن يوم مولده الحقيقي كان صبيحة 30 من مارس/آذار 1432.
لم يكن لدى هما خاتون طموح سياسي كغيرها من سلطانات القصر، فقد كانت من أشد النساء تدينًا
الروايات تشير إلى أن ليلة ميلاده لم ينم السلطان، وظل متيقظًا منذ أن جاء المخاض لزوجته هما خاتون، فيما ظل يقرأ القرآن الكريم، وبينما هو في سورة الفتح جاءته البشارة بميلاد السلطان الصغير، فقال مبتهجًا “الْحَمْد للَه، لَقَدْ تَفَتَحَتْ وَرْدَةٌ محَمَديَةٌ في رَوْضَة مرَادٍ” وعلى الفور أسماه محمد، وأمر بتوزيع الهدايا وإقامة الأفراح ابتهاجًا بقدومه.
أم الفاتح.. جامع وجامعة
لم يكن لدى هما خاتون طموح سياسي كغيرها من سلطانات القصر، فقد كانت من أشد النساء تدينًا، ومن ثم أرادت أن تتقرب إلى الله بتربية ولدها على أكمل وجه، وأن تغرس فيه معاني البطولة والإقدام وقيم العزة والكرامة، فكانت له مدرسة وجامعة، أمًا ومعلمةً.
منذ نعومة أظافره كانت تتعامل معه كقائد عظيم، رغم حداثة سنه، فكانت تخرج به كل صباح إلى حدود قريتها وتقول لصغيرها: “يا محمد هذه القسطنطينية وقد بشر الرسول صلى الله عليه وسلم بفتحها على أيدي المسلمين، أسأل الله القدير أن يكون هذا الفتح على يديك”.
حديث كان بمثابة الخيال بالنسبة لهذا الطفل الصغير، فكيف له أن يؤدي هذه المهمة التي تحتاج إلى رجال أشداء وجيوش جرارة وعزيمة من نوع خاص، ليرد عليها بفطرته النقية: “كيف يا أمي أفتح هذه المدينة الكبيرة؟ لكن نظرات الأم لولدها كانت تحمل من معاني الثقة واليقين في الله ما يمنح السلطان الصغير ثقة بالنفس تناطح كواكب الجوزاء”.
وحينما بلغ عامه الـ22 توفي والده السلطان مراد الثاني، ليدخل الأمير الشاب في نوبة بكاء شديد، وحين سمعت والدته صوته وهو يجهش بالبكاء، دخلت عليه مسرعة، واضعة يدها فوق ظهره قائلة له: أنت تبكي؟! قم القسطنطينية بانتظارك وأعداء أبيك في كل مكان.
لم تدخر السلطانة جهدًا في تربية ولدها بمساعدة أبيه السلطان، فأقدموا له عشرات المعلمين في شتى العلوم، وسار الأمير الصغير بخطوات ثابتة نحو تحصيل العلم الشرعي والدنيوي على حد سواء، فكان فقيهًا وعالمًا قبل أن يكون سياسيًا بارعًا ومقاتلًا شرسًا.
جدلية الديانة
من المسائل الجدلية التي وقع فيها المؤرخون في تناولهم لحياة هما خاتون ديانتها، فذهب فريق إلى أنها مسيحية الديانة ومن أسرة مسيحية، بينما أكد آخرون أنها مسلمة، وحلًا لهذا الإشكال خصص الباحثان أحمد آق كوندز وسعيد أوزتوك مساحة تفصيلية في كتابهما “الدولة العثمانية المجهولة” لمناقشة تلك المعضلة.
الكتاب أشار إلى أن أنصار الرأي الرامي إلى أن والدة الفاتح كانت مسيحية، استندوا في موقفهم إلى تمليكه لها دير “كومجا” في سلانتيك، وكتب في وثيقة التمليك “والدتي” وعليه ذهب هذا الفريق إلى أن هما مسيحية، بل تجاوزوا ذلك إلى القول إن السلطان محمد الفاتح نفسه كان مسيحيًا!
لطالما عزفت الآلة الإعلامية والفنية والثقافية العربية على وتر الغريزة والشهوة والمجون عند الحديث عن الحرملك وسلطنة الحريم، تشويه له دوافعه السياسية والتاريخية، لكنه لا يطمس الحقيقة
وبالعودة إلى الوثائق ثبت أن هناك خلطًا بين زوجة السلطان مراد الثاني التي تدعي “مارا” وهوما خاتون، فالأولى هي ابنة جورج برو كوفيج ملك الصرب، كانت عاقرًا ولم ترزق بولد، وظلت على الأرثوذكسية طيلة زواجها من السلطان حتى وفاته، ثم عادت إلى موطنها الأصلي صربيا لكنه عاودت المجيئ إلى العاصمة التركية مرة أخرى.
من باب البر بوالده، أراد السلطان الفاتح مساعدة زوجة أبيه، فعرض عليها خدماته وتلبية أي طلب تحتاجه، وفي الأخير قام بتمليكها بعض الأملاك، وفي وثيقة التمليك كتب كلمة “والدتي” من باب الذوق والتقدير كونها في منزلة والدته وليست والدته بالفعل.
وفي صيف سبتمبر/أيلول 1449، توفيت السلطانة الأبية والأم العظيمة هما خاتون في مدينة بورصة، لتدفن في ضريحها بالجهة الشرقية من جامع مرادية الذي حمل اسمها “ضريح خاتونية” بعدما تركت خلفها قائدًا ما زالت مآثره تحكى بين أجيال المسلمين حتى يومنا هذا.
وفي نهاية هذا الملف، يمكن الوقوف على حجم ما قدمته نساء الدولة العثمانية لرفعة شأن إمبراطوريتهم، وكيف كن منارات للعلم والتعلم والقيادة، بعضهن كان دافعًا قويًا لسلاطين الدولة نحو التقدم والازدهار، بعيدًا عن التشويه المتعمد الذي تعرضن له، فقد واجهن واحدة من أقذر حملات التشويه في التاريخ.
لطالما عزفت الآلة الإعلامية والفنية والثقافية العربية على وتر الغريزة والشهوة والمجون عند الحديث عن الحرملك وسلطنة الحريم، تشويه له دوافعه السياسية والتاريخية، لكنه لا يطمس الحقيقة، لتظل الكتابات الموثقة، لا سيما الأجنبية، وشهادات الرحالة والمفكرين، أكبر وسام يوضع على صدر هذه الحقبة التي قدمت فيها المرأة العثمانية أروع المثل في الريادة والقيادة والتطور والنبوغ.