تلقي تحركات جبهة البوليساريو في موريتانيا بظلالها على العلاقات المغربية الموريتانية، مرة أخرى، في الوقت الذي كان فيه مسؤولو البلدين يأملون تحسن العلاقات بينهما بعد عقد من الفتور والتوتر الصامت، فما الذي يجري في المنطقة؟
تحركات البوليساريو تزعج المغرب
نهاية شهر مارس/آذار الماضي، كان مبرمجًا أن يبدأ وزير الخارجية الموريتاني إسماعيل ولد الشيخ أحمد زيارة غير معلنة المدة إلى الرباط يلتقي خلالها نظيره المغربي ناصر بوريطة، وفق مسؤول في الخارجية المغربية، لكن في آخر وقت أُلغيت الزيارة، ولم يُحدد تاريخ جديد لها.
الرباط قالت إن سبب إلغاء الزيارة يعود إلى تطورات تفشي فيروس كورونا في البلدين، لكن لسائل أن يسأل ما الذي تغير في الوضع الوبائي بالبلدين في تلك الفترة، فالحالة نفسها عندما تقررت الزيارة وعندما أُلغيت.
هذا ما أحال البعض إلى طرح سبب آخر مغاير للطرح الرسمي لإلغاء الزيارة، ويتمثل في كون المغرب رفض استقبال الوزير الموريتاني لأن الرباط منزعجة من استقبال الرئيس الموريتاني القيادي المكلف بالشؤون السياسية في جبهة البوليساريو البشير مصطفى السيد، في القصر الرئاسي بنواكشوط، الأسبوع الماضي.
الصحراء الغربية على رأس أولويات السياسة الخارجية للمملكة باعتبارها القضية الوطنية الأولى للمغاربة
استقبال الرئيس محمد ولد الغزواني القيادي في البوليساريو، حاولت الجبهة الترويج له كانتصار لها، كما أعقبه تصريحات للبشير مصطفى السيد، أكد فيها أن الجانب الصحراوي في “منتهى الرضا والاطمئنان للدور الموريتاني”، مؤكدًا أنه خرج من المقابلة التي جمعته بالرئيس الموريتاني السيد محمد ولد الشيخ الغزواني بثقة واطمئنان.
كما التقى الوفد الصحراوي في نفس الزيارة، بأعضاء من الفريق البرلماني الموريتاني للصداقة مع ما يسمى “الجمهورية الصحراوية”، وثمن الوفد الدور البرلماني الذي يؤديه فريق الصداقة البرلماني بالساحة الموريتانية.
واستقبل رئيس حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية الموريتاني محمد محمود ولد سيدي بمقر الحزب، الوفد الصحراوي، وقالت البوليساريو إن رئيس الحزب أكد “موقف حزبه الثابت من القضية الصحراوية، وحرصه على كل ما يعزز الموقف الموريتاني الرسمي والشعبي، القائم على الحياد الإيجابي، المعني بوجود حلول سلمية عادلة تضمن الحقوق وتحقيق السلام”.
تحركات جماعة البوليساريو في موريتانيا لم تتوقف هنا، فقد التقى الوفد الصحراوي قياديين في حزب الإصلاح وحزب تكتل القوى الديمقراطية، كما التقى رئيس حزب اتحاد قوى التقدم الموريتاني الذي أكد “موقف حزبه الثابت والدائم إزاء القضية الصحراوية ودعم حزبه اللامشروط لنضال الشعب الصحراوي في سبيل حريته واستقلاله”.
توتر العلاقات
وفق مصادر مطلعة فإن الرباط منزعجة من تحركات البوليساريو في نواكشوط، خاصة أنها جاءت في الوقت الذي يسعى فيه المغرب لتوطيد علاقاته مع موريتانيا وتعبير العاهل المغربي الملك محمد السادس عن استعداده للقيام بزيارة رسمية لموريتانيا، وتوجيه الدعوة للرئيس الموريتاني ولد الشيخ الغزواني لزيارة المغرب.
هذا الأمر يؤكد توجه العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وموريتانيا، التي توصف بـ”المعقدة”، إلى مزيد من التوتر الصامت بعد ما عرفته من تقارب طفيف في الفترة الأخيرة، إذ تشهد العلاقة بين الرباط ونواكشوط، حالة من التذبذب، لتباين مواقف البلدين في بعض القضايا الإقليمية خصوصًا ما يتعلق بملف الصحراء الغربية.
يعتبر النظام المغربي تبادل الزيارات الرسمية بين النظام الموريتاني وجماعة البوليساريو، موقفًا معاديًا من الجارة الجنوبية وخروجًا عن حيادها المفروض، فما بالك باستقبال الرئيس لوفد صحراوي كبير وإعطائه الفرصة للتحرك بحرية ولقاء ممثلي الأحزاب الموريتانية.
لا مكان للحياد السلبي
في الوقت الذي كان يرجو فيه المغاربة تغييرًا في سياسة موريتانيا تجاه قضية الصحراء الغربية، بات واضحًا أن نواكشوط لم تغير سياستها في هذا الشأن، الأمر الذي يرفضه المغرب بشدة وهو ما يؤثر على العلاقات بين البلدين.
بعد التطورات الأخيرة في ملف الصحراء واعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الإقليم وتضاعف عدد السفارات والبعثات الدبلوماسية الأجنبية هناك، أصبح المغرب يرفض الحياد السلبي للدول، فإما أن تكون معي وإما ضدي.
تحاول السلطات الموريتانية اللعب بورقة الصحراء الغربية، حتى تضمن مصالحها في المنطقة المشتعلة
هذا التوجه ناتج عن كون قضية الصحراء تُعتبر محددًا رئيسيًا للسياسية الخارجية المغربية، فهي على رأس أولويات السياسة الخارجية للمملكة باعتبارها القضية الوطنية الأولى للمغاربة، حتى إن ظهر من الناحية العملية أن الدبلوماسية المغربية بدأت تتحرر شيئًا فشيئًا من ثقل هذه القضية لا سيما في تعاطي المملكة مع بعض الدول الإفريقية.
يذكر أن موريتانيا تعترف رسميًا منذ عام 1984، بما يسمى “الجمهورية الصحراوية”، وهو الاعتراف الذي جاء بعد خمس سنوات من توقيعها اتفاق سلام مع جبهة البوليساريو ينهي حالة القتال بينهما وتنسحب بموجبه موريتانيا من جزء كانت تسيطر عليه في الصحراء الغربية.
إلا أن هذا الاعتراف الرسمي لم يتطور إلى سفارة أو تمثيل دبلوماسي للبوليساريو في موريتانيا، فقد شهدت علاقات الطرفين الكثير من المد والجزر وصلت حد انقطاعها في فترات معينة، حسب الظروف الدولية وتغير أنظمة الحكم في موريتانيا، وكذا حسب مؤشر العلاقات مع الجزائر أو المغرب.
موريتانيا تبحث عن مصلحتها
انتظر العديد من المغاربة أن تشهد علاقات بلادهم مع موريتانيا تطورًا ملحوظًا مع وصول ولد الغزواني إلى سدة الحكم، استنادًا إلى تلقي هذا الأخير تكوينًا عسكريًا بالمغرب ودراسته في المغرب أيضًا قبل أن ينتقل إلى الأردن، وعلاقاته الاجتماعية مع المملكة، لكن يبدو أن للغزواني حسابات أخرى.
تعتبر موريتانيا البلد الوحيد الذي يملك حدودًا مشتركة مع كل من المغرب والجزائر والجبهة (سبق أن تقاسمت نواكشوط الصحراء مع الرباط بعد انسحاب الاستعمار الإسباني منها عام 1975)، ما يجعلها معنية بشكل مباشر بالصراع على الصحراء الغربية، المشكلة الكبرى في المنطقة.
وغالبا ما تؤكد موريتانيا أن موقفها من النزاع في الصحراء، حيادي، يهدف في الأساس للعمل من أجل إيجاد حل سلمي للقضية يجنب المنطقة خطر التصعيد، وتشهد الصحراء الغربية منذ 1975 نزاعًا بين المغرب وجبهة البوليساريو، وذلك بعد إنهاء الاحتلال الإسباني وجوده في المنطقة.
صحيح أن موريتانيا مترددة في إعلان اعتراف متكامل الأركان بما يسمى “الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية” التي تعلنها البوليساريو ولا تعترف بها الأمم المتحدة، إلا أنها ظلت في أغلب الأوقات محافظة على علاقات “متميزة” معها وفق وصف الصحراويين.
ولا يرغب الموريتانيون في تدهور العلاقات مع البوليساريو، فقد سبق أن دخلت موريتانيا في حرب ضروس مع جبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر قبل أن تقرر الانسحاب من الصحراء والتخلي عن حصتها عام 1979، بتوقيع اتفاقية سلام مع الجبهة تعترف فيها بالدولة الصحراوية.
يُفهم من هنا أن السلطات الموريتانية تحاول تبني خيار الحياد والبقاء على علاقتها مع المغرب كما تبقيها مع الصحراويين، حتى لا تخسر الطرفين خاصة أن إمكاناتها أضعف من المغرب والجزائر التي تدعم بشكل واضح البوليساريو، وبذلك تضمن مصالحها في المنطقة المشتعلة، لأن أي اصطفاف لطرف على حساب آخر سيكلفها خسائر كبيرة لا تقوى نواكشوط عليها في الفترة الحاليّة.