بعد حصولها على ثقة البرلمان وتسلمها مهامها، تُواجه السلطة الجديدة في ليبيا مطبات كبيرة تحول دون أداء المهام المنوطة بعهدتها وفقًا لاتفاق جنيف بين أطراف منتدى الحوار السياسي، وهي استحقاقات تبدو بعيدة التحقق في ظل التحديات الداخلية وغياب التنسيق بين المؤسسات وتعنت بعض الأطراف لتوجيه مسارات الانتقال لغاياتهم الشخصية والجهوية.
رغم تحسن الأوضاع الأمنية وانخراط الفاعلين في عملية ترميم مخلفات الحرب الأهلية سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وتغير المواقف خاصة في الشرق الليبي بعد تراجع القبائل عن دعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر ورفع الغطاء الاجتماعي عنه، فإن فرص تأسيس مشهد ليبي جديد اصطدمت بتعنت رئاسة البرلمان (طبرق) واستئثاره بقرارات تعرقل جهود إجراء انتخابات في موعدها المقرر في 24 من ديسمبر/كانون الأول 2021.
صالح.. غربًا وشرقًا
في الوقت الذي يعول فيه الليبيون على عودة الاستقرار الأمني والسياسي وعجلة بناء مؤسسات الدولة إلى الدوران، يعمل رئيس البرلمان الليبي عكس عقارب ساعة الشعب، فقد شكلت تحركاته الأخيرة تهديدًا لمسار التوافق ولمخرجات حوار بوزنيقة المغربية خاصة فيما يتعلق بملف المناصب الكبرى في البلاد، ما أثار حفيظة النواب في البرلمان ومخاوف الفاعلين السياسيين.
عقيلة صالح الرجل الثاني في الشرق الليبي الذي صعدت أسهمه مؤخرًا بعد هزيمة اللواء المتقاعد خليفة حفتر وفشل حملته العسكرية، يحاول جاهدًا استغلال تراجع شعبية قائد عملية الكرامة لتقديم نفسه بديلًا يرعى المصالح الحيوية للداخل (القبيلة) وكذلك الخارج وبالتحديد قوى الثورة المضادة، وذلك من خلال تحركاته التي تؤكد مساعي الغرف الخلفية لإعادة إنتاج نفسها بأشكال جديدة من أجل التموضع في السلطة الجديدة للبقاء في المشهد لوقت أطول.
في ذات السياق، يتحرك رئيس البرلمان الليبي في أكثر من دائرة للتأثير على المشهد السياسي وتوجيه مجريات الأمور لصالحه، ففي الغرب يعمل على عرقلة جهود توحيد مؤسسات الدولة ووضع العصا في عجلة التوافق من خلال جملة من الإجراءات التي اتخذها دون الرجوع إلى البرلمان أو التواصل مع المجلس الأعلى على اعتبار أنه شريك في تحديد المناصب.
وفي الشرق، يُمسك صالح بخيوط القبيلة وبشبكة العلاقات الجهوية ويحركها وفق الأجندة التي وضعت له في الغرض، فرغم علاقاته القوية باللواء المتقاعد خليفة حفتر ومساندته له في حربه على العاصمة طرابلس من خلال التفويض واستدعاء التدخل الأجنبي (مصر)، يحاول رئيس البرلمان التنصل من ارتباطه بمليشيات الكرامة واستبداله بحلف آخر.
عقيله صالح ليس بشريك بل لاعب رئيسي واساسي فيما حصل وهو اول المتورطين في الدماء التي سفكت ويجب ان يطارد ويحاكم ويحاسب علي الجرائم البشعه التي ارتكبها في حق الليببن شرقا وغربا وجنوبا وان يحاسب علي خيانته للامه ولجوءه لبرلمان مصر طالبا تدخل الجيش المصري لدعم حفتر ومليشياته ومرتزقته.
— Nagi abdurrahman (@AbdurrahmanNagi) August 18, 2020
على ما يبدو فإن الحلف الجديد رُسمت ملامحه منذ وقت قريب، فالدعوات الأخيرة لبعض قبائل الشرق (المرج شرق بنغازي) بتنصيب عبد الرزاق الناظوري قائدًا لأركان الجيش الموحد، تؤكد تقارب قبائل العبيدات (كبرى قبائل الشرق) مع بقية قبائل برقة، من أجل تشكيل تحالف سياسي عسكري بديلًا لحفتر.
هذه التحركات تزامنت مع حملات مناوئة لحفتر في الشرق تُطالب بالتحقيق في جرائم ميليشيات اللواء كالقتل خارج القانون وعمليات الخطف التي طالت ناشطين وحقوقيين، وهي دعوات تلقى دعمًا من القبائل المساندة لرئيس البرلمان عقيلة صالح، وذلك بالإضافة إلى اجتماعات قبائل برقة الأخيرة في كل من مدن وبلدات بنغازي والمرج والأبيار وسلوق (جنوب بنغازي) وبياناتها الداعمة لحكومة الوحدة والرافضة للحكم العسكري في إشارة إلى حفتر.
صالح والمشهد الجديد
يرى بعض المراقبين أن رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح فشل طوال السنوات الأخيرة في إدارة المؤسسة بسبب انحيازه إلى معسكر حفتر وخطابه المقسم لأبناء الوطن، فهو يتصرف كزعيم قبلي يدافع عن مصالح إقليم برقة دون باقي المناطق، وسعى طيلة عهدته إلى تعطيل عمل البرلمان وجلسات انعقاده كما حدث في اجتماع غدامس أو من خلال جلسات موازية لا يحضرها إلا قلة من النواب.
ورغم فشله في انتخابات المجلس الرئاسي، يحاول صالح الذي وضع في السابق كامل بيضه في سلة حفتر، إعادة التموضع في المشهد الليبي الجديد، ورغم ترحيبه بالسلطة الجديدة وانضمامه للتسوية السياسية، وهي خطوة اعتبرت تنصلًا من حفتر ومشروعه العسكري، فإن كل المؤشرات توحي بأن صالح يسير فرض خياراته بكل السبل.
رغم خسارته.. عقيلة صالح: سنتولي مناصب في الحكومة الجديدة « غصبا عن أي حد » – https://t.co/90zBHzkHUr pic.twitter.com/OV1C8yNTeB
— Libya 24 – ليبيا 24 (@libya24tv) February 7, 2021
من هذا الجانب، كشفت مصادر إعلامية في وقت سابق أن نوابًا مقربين من صالح أبلغوا عبد الحميد الدبيبة رغبتهم في الدفع بعدد من الأسماء المرشحة من قبلهم، لشغل وكالات وزارات بالحكومة لقاء موافقتهم على اعتماد مجلس النواب لميزانية الحكومة.
هذه المساعي عززتها تحركات صالح الأحادية الجانب التي تهدف لفرض الأمر الواقع والدفع بالسلطة الجديدة للقبول بمقترحاته وتوصيات اللجان التي أحدثها وتصب في خانة تطويع قرارات البرلمان لخياراته وتوجهاته، والضغط على السلطة الجديدة بشتى الوسائل.
لجان وانتقادات
كان من المنتظر أن يخطو عقيلة صالح خطوة إلى الأمام لإسناد السلطة الجديدة وتقوية عضدها من خلال تنسيق العمل لإنجاح المسار السياسي، إلا أنه اختار العمل دون الرجوع إلى مخرجات اتفاقات الحوار بجنيف وبوزنيقة المغربية، وأمر بتشكيل لجان مؤقتة للحقوق والحريات العامة، ولجان إدارة المؤسسات التابعة للبرلمان، وعدد من اللجان النيابية المختلفة آخرها لجنة المناصب السيادية.
كما عمل صالح إلى تشكيل وفود باسم مجلس النواب تهتم بالزيارات الخارجية، ويرى فيها النواب تجاوزًا قانونيًا، لا يجب القبول بنتائجها خاصة أن أعمالها لم تصدر من القاعة ولم تشكل وفق ما نصت عليه المادة 209 من اللائحة الداخلية.
استئثار عقيلة صالح بالقرارات قوبل بانتقادات شديدة سواء من داخل البرلمان أم خارجه، فقد رفع أعضاء تجمع الوسط (كتلة برلمانية) مذكرة احتجاجية لرئاسة المجلس وصفوا فيها قراراته الأخيرة بأنها باطلة، مشيرة إلى أن المادة 13 من القانون رقم 4 لسنة 2014 نصت على أن مهامه محددة في تنظيم عمل المجلس ولا يحق له بأي حال من الأحوال تجاوزها.
من جانبه، أكد عضو مجلس الدولة عبد السلام الصفراني، أن قرار رئيس مجلس النواب الخاص بتعيين المناصب السيادية خطوة فردية من شأنها أن تزيد الوضع تعقيدًا وتعيد المشهد السياسي إلى المربع الأول، مضيفًا أن صدور هذا القرار وتوقيته رغم وصول مجلسي النواب والدولة إلى تفاهمات بشأنها بناء على المادة الـ15 من الاتفاق السياسي التي نصت على أن تعيين المناصب السيادية يتم بالتوافق والتنسيق بين المجلسين، كان مفاجئًا.
وكانت مصادر إعلامية ليبية قد كشفت في وقت سابق أن قرار تشكيل لجنة المناصب السيادية جاء كرد فعل على عدم التجاوب مع مساعي صالح لفرض شخصية مقربة منه لشغل منصب المفوضية العليا للانتخابات.
يصف المراقبون الليبيون خطوات عقيلة صالح بأنها تأتي في سياق محاولات عرقلة توحيد مؤسسات الدولة وعمل السلطة التنفيذية الجديدة، وهي تجاوزات متكررة تستدعي التدخل الفوري من نواب البرلمان لإطاحة به من الرئاسة، وكذلك من البعثة الأممية المشرفة على المسار الانتقالي برمته.
ويهدف تعطيل توحيد المؤسسات وتعيين المناصب السيادية إلى عرقلة مجهود حكومة الوحدة في تنظيم الاستحقاقات الانتخابية المقررة في 24 من ديسمبر/كانون الأول 2021، ما يعني أن عدم التزام السلطة الجديدة بهذا الموعد سيحولها إلى حكومة تصريف أعمال، بحسب ما جاء على لسان رئيس مجلس النواب عقيلة صالح.
في سياق ذي صلة، قال المحلل السياسي الليبي عصام الزبير في تصريح لـ”نون بوست” إن تحركات عقيلة صالح الأخيرة لن تؤثر على المشهد في ليبيا ولن تغير المعادلة السياسية أو مخرجات اتفاقات بوزنيقة المغربية التي رعتها الأمم المتحدة، مضيفًا أنها لا تعدو أن تكون إلا خطوات لتثبيت موقعها وتحسين صورته التي اهتزت بدعمه لعملية الكرامة وحرب اللواء المتقاعد خليفة حفتر على العاصمة طرابس.
وأشار المتحدث إلى أن عقيلة صالح ورقة أخرى تداعت كورقة حفتر التي راهنت عليها قوى الثورة المضادة، مضيفًا أن جل تحركاته الأخيرة خارج صلاحياته البرلمانية ستصطدم بمساعي المجلس الرئاسي الذي بدا مصممًا على المضي قدمًا في عملية الإنقاذ والتأسيس لمرحلة استقرار كامل قوامها الانتخابات والمصالحة.
ونوه إلى أن إرادة مجلس النواب ليست سيدة نفسها وهي غير حرة وتقع تحت سيطرة اللواء المتقاعد والقوى الدولية المناهضة لثورة 17 فبراير، مضيفًا أن السلطة الجديدة في ليبيا ستلقى الدعم من الشعب والمنظمات المحلية والدولية التي لن تقبل بأقل من استكمال الليبيين للاستحقاق الانتخابي وتنصيب مؤسسات الدولة.
بالنهاية، يبدو أن عقيلة صالح يتجه لإعادة إنتاج فشل خليفة حفتر، لكن هذه المرة سياسيًا، فالرجل الذي تراهن عليه مصر وروسيا لإصلاح ما أفسده اللواء، سقط في أول امتحان بتسرعه ومحاولاته لتجاوز اتفاق جنيف وبوزنيقة الذي ترعاه الأمم المتحدة وتدعمه القوى الدولية، وآمال الليبيين في بناء وطن جامع.