تعد مصر إحدى أبرز الوجهات أمام الجاليات من مختلف دول العالم، فرقعتها الشاسعة، جغرافيًا (مليون متر مربع) وبشريًا (100 مليون نسمة)، تسمح لها بأن تكون قبلة للملايين من الشرق والغرب، الشمال والجنوب، سواء كان ذلك من خلال إقامات دائمة أم موسمية أم مؤقتة، لظروف طارئة.
وعلى مر التاريخ كانت أبواب المحروسة مفتوحةً على مصراعيها أمام زائريها، بمختلف توجهاتهم وأفكارهم، فكانت ملتقى حضارات العالم وموطن التقدم والنجاح لكل ساعٍ عن الإبداع خارج حدود بلاده، لذا فإن الكثير من الأعلام الذين أثروا الحياة المصرية في شتى المجالات، لم يكونوا في الأصل مصريين، بل إن الكثير منهم من الصعب معرفة هويتهم الحقيقية بعدما بات مظهرهم وسمتهم ولهجتهم مصرية وإن كان الموثق في جواز سفرهم غير ذلك.
السنوات العشرة الأخيرة على وجه التحديد، تعرضت خريطة الأجانب المقيمين في مصر للعديد من التغيرات الجذرية، في ظل ما انتاب المجتمع المصري من ضربات متلاحقة، أثرت بشكل أو بآخر في منسوب استيعابه للآخرين، ومن هنا بدأ يطفو على السطح حزمة من الصعاب والتحديات التي تواجه ملايين المقيمين فوق ترابها.
في هذا الملف المعنون بـ”ضيوف مصر” نلقي الضوء على أبرز الجاليات المقيمة في المحروسة، طبيعة حياتهم ومستويات معيشتهم، انسجامهم مع المجتمع المصري ومدى تقبله لهم، النجاحات التي حققوها خلال السنوات الماضية، وأبرز التحديات التي تواجههم.
نلقي الضوء في تلك المادة الافتتاحية للملف على تاريخ الوجود الأجنبي بمصر في العصور المعاصرة والحديثة، وما المغريات التي دفعت الكثير من مهاجري العالم للإقامة في هذه الدول العربية التي كانت أحد أبرز البلدان الجاذبة للغير، بعدما أصبحت اليوم على رأس الدول الطاردة حتى لكثير من أبنائها.
الوجود الأجنبي في الحكم العثماني
عشرات الكتب تناولت مسألة الوجود الأجنبي في مصر خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وهي الفترة التي كانت تقبع فيها الدولة العربية تحت الحكم العثماني، قبل أن يحتلها الإنجليز، غير أن أفضل الكتب التي تطرقت لتلك المرحلة بشيء من التفصيل كتاب Egypt’s Ruin لتيودور روثستين.
ونظرًا لأهمية هذا الكتاب وقيمة المادة المقدمة من خلاله أصدرت لجنة التأليف والترجمة والنشر بالمجلس الأعلى للثقافة في مصر طبعة معربة له تحت عنوان “تاريخ المسألة المصرية 1875-1910” وكان ذلك عام 1923، فيما أعاد المترجم علي شكري تقديمه مرة أخرى عام 1927 تحت عنوان “تاريخ مصر قبل الاحتلال البريطاني وبعده”.
الكتاب يشير إلى أن خلال فترة ولاية سعيد باشا (1822-1863) كانت مصر واحدةً من أكثر بلاد الشرق نهضةً ورخاءً وكرمًا وجودًا، وكان مستوى العيش فيها أفضل من نظيره في آسيا وأوروبا على حد سواء، حتى إن قرش صاغ واحد كان يكفي لسد حاجة أسرة بأكملها طيلة اليوم.
وكانت البلاد وقتها تشهد طفرةً من البنية التحتية العظيمة، فالاهتمام بالمرافق العامة وسكك الحديد والقناطر الخيرية وأدوات النهوض الزراعي والمائي، كان إستراتيجية حكم ثابتة، فضلًا عن التفوق المصري في المحاصيل الزراعية وعلى رأسها القطن والقمح.
مصر في هذا الوقت – بحسب روثستين – كانت تملك مقومات الجذب التي لا تملكها أي دولة في العالم، لذا كانت محط أنظار الأوروبيين والآسيويين على حد سواء، فتحولت المحروسة إلى سوق كبير للأجانب، سواء للإقامة أم العمل أم الاستثمار، وهو ما حول القاهرة في هذا الوقت إلى قطعة من أوروبا كما يقولون.
كما استعرض المؤلف عددًا من الإحصاءات عن نمو عدد الأوروبيين في مصر في تلك المرحلة، فأشار إلى ارتفاع عددهم من قرابة 10 آلاف نسمة في 1848، إلى نحو 100 ألف في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وكانوا في الغالب يتمركزن في القاهرة والإسكندرية، وكان على رأسهم الفرنسيون والإنجليز والإيطاليون واليونانيون والأرمن.
طبقًا للإحصاء الذي تم في 3 من مايو/آيار 1882، بلغ تعداد الأجانب بالقاهرة 22422 نسمةً من إجمالي سكان القاهرة الذين كان يبلغ عددهم 374838 نسمةً، أكثرهم من الجنسية اليونانية، فقد بلغ عددهم 7000 نسمة، يليهم الفرنسيون بتعداد 5000 نسمة، ثم الإيطاليون 3367 نسمة، ثم النمساويون 1800 نسمة، وأخيرًا الإنجليز 1000 نسمة.
كان أغلب الأوروبيين في ذلك الوقت يعملون في مهن تخدم المصريين كالتجارة والحلاقة وأعمال المقاهي وغيرها، لكن مع صعود الخديوي إسماعيل للحكم (1830- 1895) دخلت البلاد في أتون القروض الأوروبية، ما أحدث خللًا نسبيًا في تركيبة المجتمع المصري، حيث فُتحت أبواب الاقتصاد المصري بصورة واسعة أمام الأجانب من خلال الامتيازات والاستثناءات التي قدمت لهم، فتقلدوا أعظم المناصب على حساب المصريين.
في الحكم الجمهوري
مرت مصر بمرحلة مخاض كبيرة منذ حركة الضباط الأحرار في يوليو/تموز 1952، فقد دخلت البلاد العصر الجمهوري بعد الإطاحة بالنظام الملكي، ليتعرض المجتمع المصري لهزات عنيفة في خريطته الاقتصادية والمعيشية أسفرت عن انضمام الملايين لخط الفقر.
شهدت مصر خلال حقبة الرئيس جمال عبد الناصر (1918-1970) العديد من الأزمات، كما دخلت في أتون من الحروب المتتالية، بداية بالعدوان الثلاثي 1956 مرورًا بحرب اليمن 1962 وصولًا إلى الهزيمة أمام “إسرائيل” فيما عرفت إعلاميًا بـ”نكسة 1967″.
كل تلك الحروب وضعت مصر في مرتبة متأخرة لدى الأجانب، فيما غادرت الكثير من الجاليات المحروسة لحين هدوء الأوضاع مرة أخرى، ولم يتبق خلال تلك الفترة إلا عدد من الجالية السورية بحكم العلاقة القوية التي كانت تجمع بين النظامين في القاهرة ودمشق ونجم عنها نشأة الجمهورية العربية المتحدة 1958 التي لم تستمر سوى عام واحد فقط.
الوضع تغير تمامًا مع ولاية أنور السادات (1918-1981)، فقد انفتحت مصر على العالم بصورة غير مسبوقة، فيما تخلص الرئيس من إرث عبد الناصر العروبي الذي كان يراه البعض حينها طوقًا يقيد الدولة المصرية في ظل تغير ملامح الخريطة الدولية.
وقد أدت السياسات الانفتاحية للسادات إلى استقبال الكثير من المهاجرين إلى مصر بعدما أصبحت سوقًا كبيرًا للاستثمار، لكن في المقابل خرج ما يقرب من 3 ملايين مصري من البلاد، في الفترة بين 1974 و1985، للعمل في الخارج لا سيما الخليج.
الأمر ذاته استمر خلال فترة حسني مبارك (1928-2020) إذ استمرت حملات الهجرة الخارجية للمصريين، بحثًا عن حياة أفضل، بعدما تحولت الدولة إلى المسار الرأسمالي الذي زج بمحدودي ومتوسطي الدخل في مستنقعات الفقر والعوز، لكن في مقابل ذلك فتحت البلاد أبوابها أمام المستثمرين الأجانب بجانب الملايين من أبناء الجاليات الأخرى لا سيما الإفريقية التي زاد عددها خلال العقدين الماضيين بصورة كبيرة.
مرحلة ما بعد ثورة يناير
بعد انطلاق قطار الربيع العربي، فر ملايين العرب هربًا من بطش أنظمتهم الحاكمة، ورغم أن مصر كانت إحدى محطات هذا القطار، فإن ما تتمتع به من اتساع وقبول مجتمعي للآخر، وانفتاح نسبي على دول العالم، جعلها مهبط الكثير من اللاجئين الهاربين من نيران حكامهم.
وتعاني خريطة اللاجئين في مصر من تغيرات جوهرية فيما يتعلق بالمقارنة بين الأعداد الرسمية وغير الرسمية، وهو ما يجعل المقيمين الفعليين فوق التراب المصري أكثر بكثير مما يعلن بشكل رسمي، فالشريحة الكبرى من الموجودين دخلوا البلاد بأوراق ثبوتية مؤقتة واستمروا دون تجديدها أو دخلوا بطرق غير شرعية.
وتتصدر الجنسيات السورية والعراقية والفلسطينية واليمنية والسودانية قائمة الجنسيات الأكثر عددًا بين اللاجئين في مصر، إذ تذهب التقديرات إلى وجود 3.8 مليون سوداني، بجانب 550 ألف سوري، بنسبة 10% من اللاجئين السوريين في باقي الدول، رغم أن المسجل لدى مفوضية اللاجئين في مصر لا يتجاوز 129 ألفًا و200 لاجئ.
كما أن هناك أكثر من مليون يمني، بحسب تصريحات رئيس الحكومة المصرية، و150 ألف عراقي، بجانب أكثر من مئة ألف فلسطيني، و217 ألف لاجئ إفريقي، إضافة إلى عدة آلاف من المقيمين الآسيويين، لأغراض عدة أبرزها الدراسة والعمل.
العاملون في مصر
في دراسة رسمية صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي) كشفت ارتفاع عدد الأجانب العاملين بالقطاع الخاص والاستثماري في مصر، من 14777 أجنبيًا عام 2018 – 2019 إلى 14950 أجنبيًا عام 2019-2020 منهم: 12236 من الذكور بنسبة 81.8%، و2714 إناث بنسبة 18.2% من مختلف الجنسيات، وذلك بنسبة زيادة 1.2%.
الزيادة ترجع إلى استمرار قدوم الأجانب للعمل في مصر، ففي هذا العام هناك 6227 أجنبيًا قدموا للبلاد لأول مرة، أما عن الوافدين من الدول الآسيوية غير العربية فقد بلغ عددهم 6423 أجنبيًا، بنسبة 43.0% معظمهم من بنغلاديش بعدد 1924 أجنبيًا، يليها الصين بعدد 1197 أجنبيًا، وأوروبيًا، تتصدر بريطانيا جنسية الأجانب الأوروبيين العاملين في مصر (البالغ عددهم رسميًا 3655 فردًا) بإجمالي 1110 بريطانيين بنسبة 30.4%، ثم إيطاليا بإجمالي عدد 546 شخصًا.
وتأتي الدول العربية في المرتبة الثالثة، بإجمالي 3326 عاملًا، تتصدرهم سوريا بعدد 1447 عاملًا، بنسبة 43.5% ثم فلسطين بعدد 788 عاملًا بنسبة 23.7%، ورابعًا تحل الولايات المتحدة بعدد 1082 أجنبيًا، تليها الدول الإفريقية “غير العربية” بعدد 185 أجنبيًا.
جدير بالذكر أن تلك الأعداد لا تعبر بالضرورة عن الأرقام الفعلية للعاملين الأجانب في مصر، التي تبلغ عشرات أضعاف ما هو معلن بشكل رسمي، وهو ما تكشفه الجهات الحقوقية والكيانات المهتمة بشؤون اللاجئين التي تشير إلى أن ما يزيد على ثلثي الوافدين في مصر لا يعملون بأوراق رسمية.