حظي الملك ببيانات دعم دولية وإقليمية حتى من قبل أولئك الذين كانوا يسعون لإضعافه، ولكنه لم يعد يثق بأولئك الذين هم أقرب إليه.
إن الرسالة التي أراد الأمير حمزة، الذي يزعم أنه اتهم باطلاً بإثارة الفتنة في المملكة، أن يسمعها الناس في العالم وفي بلده – بعد أن فرضت عليه الإقامة الجبرية في منزله، هي: “إنني أنا ابن الحسين.”
من حيث المظهر والأثر والمنطق، يشبه الأمير والده الراحل الملك حسين، الذي قضى نحبه بعد أن عاجله المرض.
كان يريد لابنه حمزة أن يرث العرش. ولكن حمزة كان صغيراً جداً حينذاك، فصعد إلى العرش أخوه غير الشقيق، عبدالله الابن البكر للأميرة منى، زوجة حسين الثانية. أعلن عبدالله أخاه غير الشقيق ولياً للعهد انفاذاً لرغبات والده، ولكنه سرعان ما جرده من اللقب لصالح ابنه هو، حسين.
إلا أن حمزة لم ينس أبداً وصية والده، ومازال يتصرف كما لو كان الوريث الشرعي للعرش.
وللأمير حمزة شعبيته في الأردن. يتحدث مع زعماء قبائل شرقي الأردن المتظلمين، الذين كانوا تقليدياً موالين للهاشميين. عندما زار حمزة عائلة واحد من المرضى الذين توفوا نتيجة للإصابة بفيروس كورونا في مستشفى السلط بسبب انقطاع إمدادات الأوكسجين، أعرب له أقارب المتوفى عن عميق امتنانهم. وعندما زار أخوه غير الشقيق المستشفى ذكره أحد المحتشدين من حوله بأن البلد يغرق في ظل حكمه.
يحمل مقطع الفيديو الذي أرسله إلى البي بي سي مباشرة بعد زيارة قام بها إليه اللواء الركن يوسف الحنيطي نفس الرسالة. قصد حمزة أن يظهر وجهه بموازاة صورة لوالده على الجدار. أم هل كان من باب المصادفة السعيدة أن تلتقي الكوفية الحمراء التي يرتديها والده الراحل مع رأس الأمير البالغ من العمر واحداً وأربعين عاماً، فيبدو بذلك كما لو كان هو الوريث الحق لوالده؟ لا أظن ذلك.
لم يُبد لا ولي عهد السعودية محمد بن سلمان ولا ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد أي تعاطف مع الأردن أو وفاء صحبة له، بينما وجد عبدالله صعوبة بالغة في إقناعهما بأن صفقات تطبيعهم مع “إسرائيل” ستكون لها عواقب وخيمة على الأردن
ولكن لا وجود لأي دليل دامغ – حتى الآن على الأقل – على مخطط يهدف بشكل خاص إلى الإطاحة بالملك عبدالله أو على ضلوع حمزة في مثل هذا المخطط لو وجد. بل، نحن أمام زعيم دولة، يزداد تهميشاً يوماً بعد آخر، بينه وبين أهم المانحين له قطيعة، وعلاقاته سيئة بـ “إسرائيل”، وتناط به مسؤولية إدارة بلد حبيس عاثت فيه جائحة كوفيد 19 خراباً.
العلاقات الإقليمية
تتكدس القضايا التي رفض عبدالله الانخراط فيها. يُذكر له أنه لم يقبل بخطة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب والمعروفة باسم صفقة القرن، ولكنه دفع ثمناً مقابل ذلك. وبانتقاله إلى جوار الرئيس الفلسطيني محمود عباس يكون عبدالله قد نأى بنفسه عن بلدين، عن المملكة العربية السعودية وعن الإمارات العربية المتحدة، وكلاهما كانا يصبان المال في جيوب الأردن.
في لحظة من اللحظات كان عبدالله مشاركاً في خطة تهدف إلى تنصيب محمد دحلان، المنفي الفلسطيني الذي يعيش في أبوظبي، خليفة لعباس. ولكنه لم يعد كذلك.
لم يُبد لا ولي عهد السعودية محمد بن سلمان ولا ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد أي تعاطف مع الأردن أو وفاء صحبة له، بينما وجد عبدالله صعوبة بالغة في إقناعهما بأن صفقات تطبيعهم مع “إسرائيل” ستكون لها عواقب وخيمة على الأردن. بل بلغ الأمر بمحمد بن سلمان، بمباركة من “إسرائيل”، أن يضع نصب عينيه الاستيلاء على الدور التاريخي الذي طالما لعبه الهاشميون كرعاة للأماكن المقدسة في القدس.
وأما علاقة الملك برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فكانت تتجه باستمرار من سيء إلى أسوأ.
لما أراد ابن عبدالله، ولي العهد حسين، الزيارة والصلاة في المسجد الأقصى، الذي يملك الأردن الوصاية عليه، نشب شجار بين المخابرات الأردنية والشين بيت حول عدد حراسه الشخصيين الذين سيسمح لهم بحمل السلاح.
شعوراً منه بالمهانة، قرر ولي العهد إلغاء الزيارة. وانتقاماً لما حدث، رفض الأردنيون منح إذن بالتحليق في الأجواء الأردنية لطائرة عمودية كان من المقرر أن تنقل نتنياهو إلى عمان ليستقل طائرة خاصة أرسلها محمد بن زايد لتطير به إلى أبوظبي حيث يلتقطان معاً الصور التذكارية.
والحقيقة هي أن كل هذا الخلاف كان لا يعدو كونه تمثيلية مصطنعة، لأن نتنياهو في الأغلب كان مأموراً بالبقاء وعدم السفر لأن زوجته، سارة، كانت تُجرى لها عملية جراحية. وذلك أنه بعد افتضاح أمر علاقة كان يقيمها خارج إطار الزوجية، انتشرت في “إسرائيل” شائعات تقول إن رئيس الوزراء وقع على عقد مع زوجته تشترط فيه عليه أن ترافقه في كل رحلاته التي يبيت فيها خارج البيت.
في العالم الواقعي، يعاني الأردن من إدارة “إسرائيل” ظهرها له. لم يزل نتنياهو يراوغ إزاء طلب من الأردن بتزويده بالمياه. وهذه هي نفس المياه التي تسحبها “إسرائيل” من نهر الأردن، وبموجب معاهدة السلام مع “إسرائيل”، يطلب الأردن من حين لآخر من “إسرائيل” إعادة ضخ المياه إليه أثناء فترات الجفاف. ولكن عقاباً للأردن على إغلاق مجاله الجوي في وجهه، قرر نتنياهو ألا يزوده بالمياه، رغم أن القادة الأمنيين لديه حثوه على الاستجابة للطلب.
انتهى دور باسم عوض الله كمبعوث خاص للأردن في عام 2018 عندما تم إقناع الملك عبدالله بأنه بات أقرب إلى الرياض منه إلى الأردن
كما أن نقص اللقاحات في الأردن مصدر آخر للتوتر مع “إسرائيل”. فبينما يعيث الفيروس في الأردن تمارس “إسرائيل” دبلوماسية المطاعيم، فتساعد بلداناً بعيدة جداً مثل غواتيمالا بينما تحرم جارها القريب، الأردن. هذا الإهمال للأردن من جانب “إسرائيل” يقابله في الجانب الآخر علاقات مزدهرة مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
وهذا محض جنون من جهة المصالح الأمنية لـ “إسرائيل” ذاتها، ولو أراد نتنياهو أن يعرف ما الذي سيجري لحدوده “إسرائيل” الشرقية المعرضة للخطر فيما لو تدهور الأردن، فإن مسؤوليه الأمنيين لن يترددوا في إخباره.
ولكنها الصرعة، والنهج الذي خطه جاريد كوشنر، صهر ترامب، والسفير الأمريكي السابق دافيد فريدمان، حينما حاكا صفقات التطبيع العربي مع “إسرائيل”، ولسان حالهم يقول: انس الفلسطينيين، وألق في سلة المهملات كل حديث عن دولتهم، وتجاوزهم، وتجاوز الأردن، وتوجه مباشرة إلى كهف علاء الدين لتغرف المال من صندوقي السيادة السعودي والإماراتي.
ارتباطات سعودية
بينما لا يوجد دليل يربط الأمير حمزة بمحاولة الانقلاب المزعومة، إلا أن من المثير للاهتمام أن تختار مصادر أمنية أردنية في تواصلها مع وسائل الإعلام الخارجية الحديث عن دور اثنين مما يقرب من عشرين من الذين تم توقيفهم.
وقد فعلوا ذلك بسبب ما يربط هذين الرجلين بالمملكة العربية السعودية. كانوا يوجهون أصابع اللوم نحو الخليج بينما كان معظم الحدث يجري داخل المملكة. والرجلان هما حسن بن زيد، أحد أفراد العائلة الملكية، وباسم عوض الله.
كان إلقاء القبض على باسم عوض الله هو أكبر إيماءة إصبع يستطيع الملك عبدالله توجيهها نحو محمد بن سلمان ومحمد بن زايد في نفس الآن
كان باسم عوض الله ذات يوم مقرباً جداً من الملك عبدالله، حيث شغل منصب السكرتير الاقتصادي لرئيس الوزراء الأردني في الفترة من 1992 إلى 1996. كما عين رئيس للديوان الملكي في الأردن في عام 2007 قبل أن يقال من منصبه بعد أقل من سنة. وعندما غادر الأردن، انتقل باسم عوض الله إلى دبي حيث أنشأ شركة اسمها طموح، واستقر ما بين الإمارات والسعودية، حيث عمل أيضاً مبعوثاً خاصاً للأردن.
انتهى دور باسم عوض الله كمبعوث خاص للأردن في عام 2018 عندما تم إقناع الملك عبدالله بأنه بات أقرب إلى الرياض منه إلى الأردن، مع العلم أن باسم عوض الله يحمل الجنسيتين السعودية والأردنية.
في تلك الأثناء أنشأ باسم عوض الله شبكة من رجال الأعمال البارزين وكان يعمل مستشاراً لدى ولي العهد السعودي. وغدا المستشار الاقتصادي لمحمد بن سلمان ومساعداً له في التخطيط لمدينته المستقبلية نيوم. كما أبرم صلات قوية مع محمد بن زايد وعين عضواً في مجلس إدارة جامعة دبي. وطبقاً لمصادر من داخل الديوان الإماراتي، بات باسم عوض الله أهم بالنسبة لمحمد بن زايد من القيادي الأمني الفلسطيني المنفي محمد دحلان.
وقالت بعض المنصات الإعلامية إن باسم عوض الله كان أحد العقول المدبرة وراء خصخصة شركة أرامكو.
ولعل مصطلح العقل المدبر يبدو طريفاً هنا إذا ما أخذنا بالاعتبار أن المشروع كان نصيبه الفشل الذريع. إلا أن باسم عوض الله ظهر برفقة سيده الجديد محمد بن سلمان في المؤتمر السنوي لمبادرة مستقبل الاستثمار في الرياض، أو ما يسمى دافوس الصحراء، في شهر يناير.
لربما كان إلقاء القبض على باسم عوض الله هو أكبر إيماءة إصبع يستطيع الملك عبدالله توجيهها نحو محمد بن سلمان ومحمد بن زايد في نفس الآن.
إلا أن الأردن لا يستطيع مواجهة السعودية على المكشوف، ولو فعلوا، واتهموا السعوديين بتوجيه رسائل إلى حمزة عبر باسم عوض الله للقيام بانقلاب ما، فهذا قد يترتب عليه طرد العمال ورجال الأعمال الأردنيين الذين يقيمون في السعودية، وهذا من شأنه أن يقود إلى كارثة اقتصادية ماحقة.
خلال ساعات من خروج نبأ اعتقال باسم عوض الله، طلب وفد سعودي يترأسه وزير الخارجية الإذن بزيارة عمان. وطبقاً لمصدر استخباراتي في بلد شرق أوسطي غير مسمى، ولكن يرصد الأحداث عن كثب، بحسب ما نقلته عنه صحيفة الواشنطن بوست، طلب السعوديون إطلاق سراح باسم عوض الله. ونقلت الصحيفة عن المصدر قوله: “يقول السعوديون إنهم لن يغادروا البلد بدونه. إذ يبدو أنهم قلقون بشأن ما قد يقوله.”
ولا يملك الأردن كذلك مجابهة الإسرائيليين بشكل مباشر. كانت وسائل الإعلام الإسرائيلية هي من غاص في ماضي روي شابوشنيك، الإسرائيلي الذي يعيش في أوروبا والذي عرض على حمزة طائرة خاصة لينقل بها زوجته وأولاده إلى خارج البلاد.
نفى شابوشنيك أن يكون عضواً في الموساد، ولكنه عمل مع إريك برينس، ثم أسس شركته الخاصة واسمها آر إس للحلول اللوجستية، والتي قدمت خدمات لشركة برينس لتدريب الجنود العراقيين في الأردن. وكان قد التقى بحمزة عبر معارف مشتركين، ونشأت بين عائلتيهما صداقة حميمة.
تفسر هذه الارتباطات الريبة التي تنتاب عبدالله. فحمزة لديه طموحات، بينما لدى السعوديين والإماراتيين والإسرائيليين جميعاً أجندة غايتها إضعاف الأردن.
حظي الملك عبدالله في أقل تقدير على بيانات دولية وإقليمية مؤيدة له حتى من قبل من عرف عنهم السعي لإضعافه، كما حصل من الأمير حمزة على الدعم اللفظي لحكمه ولحكم ابنه، ولي العهد، من بعده.
الحاجة الملحة
لابد أن عبدالله يشعر بأن خياراته تتلاشى. فلم يعد يثق بأقرب الناس إليه. كان في الماضي على استعداد للتوجه حيثما تدفعه الريح السائدة، طالما أن الأردن لديه ما يكفيه من المال. وكان على استعداد للانضمام إلى من نددوا بتركيا وقطر عندما كان الربيع العربي في صعود.
ولكن مع تدهور الأوضاع في المملكة، انتهى الأمر إلى طريق مسدود: فهناك مشاكل ضخمة لم تحل مع المعلمين ومع القبائل ومع الأعداد الكبيرة من العاطلين عن العمل – والأمير حمزة، الذي لم يتخل أبداً عن طموحه، يبدو بشكل متزايد جذاباً كبديل محتمل.
لربما لم يكن هناك انقلاب معين يشارك فيه حمزة. لكن شعبيته في تنام بينما شعبية الملك في تراجع. ولربما تعزز موقع حمزة الدولي وزادت شعبيته المحلية منذ السبت الماضي. قبل ذلك لم يكن سوى قلة قليلة من الناس خارج المملكة تعرف شيئاً عنه، أما الآن فقد ارتقى بشكل دراماتيكي إلى موقع زعيم المعارضة.
شهدت ليلة الأمس مساع للوساطة استضافها عم الملك عبدالله، الأمير الحسن. لعل من المفارقات أن الرجل الذي اختير ليصلح سياج العائلة هو نفسه الذي خلعه عبدالله وألجأه إلى ترك المملكة. فقد كان الحسن هو ولي العهد تحت حكم شقيقه الراحل الملك حسين، وكان لعقود طويلة هو خليفته المنتظر.
في نهاية المطاف وقع حمزة على رسالة وافق فيها على الوقوف خلف الملك.
جاء في الرسالة: “وفي ضوء تطورات اليومين الماضيين، فإنني أضع نفسي بين يدي جلالة الملك، مؤكدا أنني سأبقى على عهد الآباء والأجداد، وفيا لإرثهم، سائرا على دربهم، مخلصا لمسيرتهم ورسالتهم ولجلالة الملك، وملتزما بدستور المملكة الأردنية الهاشمية العزيزة. وسأكون دوما لجلالة الملك وولي عهده عونا وسندا.”
بحلول يوم الثلاثاء، حظي الملك عبدالله في أقل تقدير على بيانات دولية وإقليمية مؤيدة له حتى من قبل من عرف عنهم السعي لإضعافه، كما حصل من الأمير حمزة على الدعم اللفظي لحكمه ولحكم ابنه، ولي العهد، من بعده.
مشاكل عبدالله لم تنته
إلا أن الأمور ليست بهذا الوضوح محلياً. فمما لا ريب فيه أن شعبية حمزة قد زادت، ولم تغير المداخل والمخارج الدراماتيكية للساعات الثماني والأربعين الماضية من الأمور داخل المملكة قيد أنملة، إذ مازال عبدالله يتربع على كومة من السخط المحلي.
والأهم من ذلك كله، ليس الخطاب هو ما سيبقى في ذاكرة الأردنيين وإنما التسجيل الصوتي المسرب للقاء الذي جرى بين رئيس أركان الجيش والأمير حمزة، والذي انتشر خلال الليل كالنار في الهشيم.
يقول حمزة في التسجيل المسرب:
“سيدي، أنا أردني حر، أنا ابن أبي، ولي كامل الحق في أن أختلط بأبناء شعبي وبلدي وأن أخدم وطني كما وعدته وأقسمت له وهو على سرير الموت. وأنت تأتي الآن، سامحني سيدي، أين كنت قبل عشرين عاماً؟ كنت أنا حينها ولي العهد في هذا البلد بأمر من والدي رحمه الله. أقسمت له بأنني سأستمر في خدمة وطني وشعبي ما حييت. والآن أنت، بعد كل التخبيص الذي جرى، والذي لم يكن بسببي، ولم يكن لي أي علاقة به، تأتي لتقول لي إن على أن ألتزم؟”
مشاكل عبدالله لم تنته.
المصدر: ميدل إيست آي