هزائم تلو الأخرى في الانتخابات، أدت إلى أفول نجم أحزاب اليسار في المغرب، ودخلت منذ سنوات في حالة من الجمود السياسي، كانت كفيلة بجعل مستقبلها في حيص بيص.
قوة في الماضي
لقد شكل اليسار قوة سياسية منذ ستينيات القرن الماضي، إذ قاد المعارضة، ثم شارك في حكومة التناوب، بين العامين 1998 و2002، عندما اتفقت المؤسسة الملكية مع المعارضة اليسارية على المشاركة الحكومية لأول مرة، وقاد عبد الرحمان اليوسفي (وافته المنية في 29 مايو/ أيار 2020) حكومة التناوب، بعدما تصدر حزبه “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية” انتخابات 1997.
نبيل بنعبد الله، منذ عام 2010 وهو أمين عام للتقدم والاشتراكية، ولم يغادر المنصب
يوجد عدد من الأحزاب اليسارية في المغرب، أبرزها حزب الاتحاد الاشتراكي (مشارك بالحكومة)، وحزب التقدم والاشتراكية (معارض)، وفدرالية اليسار الديمقراطي (معارضة)، التي هي عبارة عن تحالف 3 أحزاب: الاشتراكي الموحد والطليعة الديمقراطي الاشتراكي والمؤتمر الوطني الاتحادي، فضلاً عن أحزاب يسارية أخرى غير ممثلة في البرلمان.
انسحاب يعمق الخلاف
أعلن مؤخرًا عمر بلافريج، النائب البرلماني عن فدرالية اليسار الديمقراطي، عزمه اعتزال الحياة السياسية بصفة نهائية، وهو قرار أثار ردود فعل واسعة من قبل متابعين للشأن السياسي، إذ لم يكن من المنتظر أن يعود بلافريج إلى الوراء، لكنه اختار ذلك بمبرر أن التغيير لا يقوم به شخص واحد، وأبرز كذلك أنه لم يكن يومًا ما معارضًا بل كان إصلاحيًّا، وقد يعود يومًا ما إذا برزت الشروط والظروف المناسبة.
منيب وبلافريج
لم يكن انسحاب هذا البرلماني اليساري مصدر دهشة فقط بالنسبة إلى المتتبّعين للشأن السياسي، بل أحدث شيئًا أشبه بالهزة داخل فدرالية اليسار، لعله يعمق حدّة الخلافات داخل هذا التنظيم السياسي، الذي تقوده نبيلة منيب؛ فبدلاً من أن تتدخل القيادات لرأب الصدع، فضّلت التكتم على الأسباب الحقيقية وراء “اعتزال” بلافريج السياسة، واللعب على عامل الوقت لتجاوز “ارتدادات” الاستقالة.
زعيمة من دون “خطة خلاص”
تُعدّ نبيلة منيب زعيمة اليسار المغربي، وهي أول امرأة تتزعم تنظيمًا سياسيًّا، بعدما تمّ انتخابها كأمينة عامة للحزب الاشتراكي الموحد، منذ 16 يناير/ كانون الثاني 2012، وقد اشتهرت بنضالها ودفاعها عن حقوق المرأة، وأسلوبها الخطابي النقدي.
لكن خطاب هذه الزعيمة اليسارية لا يكاد يخلو من إفراط في النخبوية، بعبارات متكررة، متعالية عن فهم عموم المواطنين، كما تؤكد مرارًا وتكرارًا على ضرورة تخلُّص البلاد مما تسميه بـ”الفساد والاستبداد”، ولا تكمل جملتها المفيدة بإعلان خطة واضحة عن “كيفية الخلاص”.
يحيلنا هذا على “العدمية” التي يوصَف بها تيار اليسار في العادة، وخطاب “التيئيس” الذي يتبناه بلا جدوى عند الحديث عن كل محاولات الإصلاح، في مجالات السياسة والاقتصاد والمجتمع.
تائه في الشتات
لم يعد يقبل المجتمع المغربي، بأي حالٍ من الأحوال، وعودًا وردية كالتي تبجّح بها “الإسلاميون” (حزب العدالة والتنمية)، ومن سبقهم من “الاستقلاليين” (حزب الاستقلال)، و”الاشتراكيين” (حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية)، وهي الأحزاب التي قادت الحكومة في عهد الملك محمد السادس، منذ اعتلائه سدّة الحكم عام 1999.
يبدو أن حضور أحزاب اليسار سيظل محدودًا في إطار المشهد السياسي والانتخابات المقبلة، لأن هذا التيار يعيش أزمة الفكرة وأزمة المشروع في حد ذاته، هذا فضلاً عن تيهه في الشتات، وحالة الانقسام والصراع الداخلي بين مختلف مكوناته.
أظهرت الانتخابات التشريعية لعام 2016 التراجع اللافت لمجموع الأحزاب اليسارية، التي دخلت البرلمان بـ 35 مقعدًا فقط من أصل 395، حيث حلَّ الاتحاد الاشتراكي سادسًا بـ 20 مقعدًا، وحزب التقدم والاشتراكية (الشيوعي سابقًا) في المركز الثامن بـ 12 مقعدًا، وحصلت فدرالية اليساري الديمقراطي (بأحزابها الثلاثة) على مقعدَين فقط متأخرة إلى المركز العاشر، ومقعد وحيد لحزب اليسار الأخضر، الذي لا يكاد يُسمع عنه.
وفي حكومة سعد الدين العثماني الثانية (المعدلة في أكتوبر/ تشرين الأول 2019)، يحوز حزب الاتحاد الاشتراكي على حقيبة وزارية واحدة، وهي وزارة العدل التي يشغل منصبها محمد بن عبد القادر.
فقدان التأثير
يبدو واضحًا أن التيار اليساري في المغرب أضحى فاقدًا لأي تأثير أيديولوجي وسياسي، وموقعه الحالي يوجد خارج دائرة الصراع حول السلطة، بل إن مكوناته تغرق تباعًا في التشتّت والعزلة والأفكار البالية التي عفا عنها الزمن، وأضحت غير صالحة لترجمة العمل السياسي، الذي يمس على نحو مباشر كافة المواطنين.
“الاشتراكيون”.. صراع بلا نهاية
أم أن اليسار أضحى ينظر إلى المغاربة كما لو أنهم مجرد أرقام انتخابية؟ يتذكرهم حينما يدنو موعد التصويت، لعلهم يحصلون على قدر، ولو ضئيل، من الثقة التي تؤهّلهم لتبوُّء الحد الأدنى من المناصب.
ولو أن فدرالية اليسار الديمقراطي لها موقف آخر من اعتلاء المناصب، إذ صرحت نبيلة منيب، في أكثر من مناسبة، أن الفدرالية لا تقف في الطابور، كشأن الأحزاب الأخرى، في انتظار أن يحين دورها لتبوُّء مناصب السلطة. وتشدد هذه الزعيمة اليسارية على أن دخولهم الحكومة، يستلزم توفر شرط أساسي، وهو انتقال النظام المغربي إلى الملكية البرلمانية.
طرد لعنة العدمية
إلى أن يتوفر هذا الشرط، اختارت فدرالية اليسار الديمقراطي أن تشارك في الانتخابات وتدخل البرلمان، لعلها تطرد عنها لعنة “العدمية”، ويكون هذا التيار “إصلاحيًّا من داخل المؤسسات” لا معارضًا من خارجها.
منيب هي الأمينة العامة الوحيدة لحزب سياسي، التي ما زالت تعتبر أن فيروس كورونا مجرد مؤامرة. ولولا الحصانة السياسية التي تتمتع بها الأمينة العامة للحزب الاشتراكي الموحد، لأدى بها هكذا ادّعاء إلى مشاكل عديدة، خاصة أن المناضلة اليسارية انتقلت من “التشكيك في الوباء” إلى “التشكيك في اللقاح”.
وتتحدث مصادر إعلامية عن رغبة نبيلة منيب في نزول الانتخابات بدائرة المحيط في العاصمة الرباط، التي يسميها السياسيون بـ”دائرة الموت”، إذ تبدو واثقة من الفوز بعدما تكهّنت للصحافة بأن حزبها والحزبَين المكونين للفدرالية، قادرون على كسب 3 ملايين صوت في انتخابات 2021.
بين الخطاب السياسي الغارق في النخبوية البالية والحروب الداخلية، يتوه اليسار في مشكلة تدبير الديمقراطية الداخلية، التي أدت إلى تحطيم العديد من الأحزاب السياسية، لتتحول إلى مجرد خلايا فكرية، يتضاءل أثرها في الواقع، ويتضخم صوتها فقط في الإعلام.