حين تُذكر إسطنبول، فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان هو آيا صوفيا، هذا البناء الذي وقف على مدار خمسة عشر قرنًا متحديًا الزمن، ممثلًا قيمة ثقافية عظيمة ليس فقط بالنسبة إلى تركيا، بل إلى التراث الإنساني أجمع. افتتح آيا صوفيا ككاتدرائية أرثوذكسية في عهد الإمبراطور الروماني جستينيان عام 537، ثم تحول في عام 1204 إلى كاتدرائية كاثوليكية، ثم مرة أخرى إلى أرثوذكسية عام 1261. واستمر كذلك حتى تحول إلى مسجد في عهد محمد الفاتح، بعد ضمه القسطنطينية إلى الأراضي العثمانية عام 1453.
بعد تأسيس الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك، تحول إلى متحف عام 1935، ثم عاد إلى مسجد مرة أخرى في يوليو/ تموز 2020 بقرار من المحكمة الإدارية العليا في تركيا.
خضع المبنى لعدة تطويرات في عهد العثمانيين لكنه ظلَّ محتفظًا بخصائصه المعمارية الأولى، فنجد لوحات الخط الفني الإسلامي إلى جانب الفسيفساء الجدارية والأيقونات المسيحية، ما ولّد مزيجًا روحانيًّا وفنيًّا فريدًا، وحاليًا يحتضن آيا صوفيا ثلاث وعشرين لوحة خطية، سوف نتعرف في هذا المقال إلى تاريخها.
اللوحات الأساسية
بمجرد أن تدخل آيا صوفيا سوف تتجه عيناك إلى ثماني لوحات تزيّن حوائط المسجد، تحمل أسماء: “الله، محمد، علي، الحسن، الحسين، أبو بكر، عمر، عثمان”. علِّقت تلك اللوحات في عهد السلطان عبد المجيد حين عهدَ بترميم المسجد كاملًا ما بين عامَي 1847 و1851 إلى الفنان المعماري السويسري جاسبر فوساتي الذي درس فن العمارة في روما.
ونقشت اللوحات الثمانية من قِبل واحد من أهم الفنانين ورجال الدولة الخطاط والقاضي العسكري مصطفى عزت أفندي بين عامَي 1847 و1849، وتعد هذه اللوحات التي يبلغ قطر كل منها سبعة أمتار ونصف وارتفاعها ثلاثة عشر مترًا، إضافة مختلفة إلى فن الخط في تركيا، فعلى مدار 150 عامًا لم يخط في جمال وإتقان و حجم تلك اللوحات.
صنعت اللوحات من قماش الكتان وشجر الزيزفون، بسبب خفة وزنه وقدرته على مقاومة الرطوبة، ثم نقلت على شكل أجزاء، وتمّ تركيبها داخل المسجد. وبحسب البروفيسور وعالم الخط أوغور درمان، فإن الكتابات الموجودة فيها مغطاة بطبقة رقيقة من الذهب.
عاشت تلك اللوحات أيامًا سيّئة الطالع حين تمّ تحول المسجد إلى متحف في بداية عصر الجمهورية، فقد أنزلت من على الحائط ليتم نقلها إلى مسجد السلطان أحمد لكنها لم تخرج من الباب بسبب حجمها، وكسرت إحداها أثناء تلك العملية. بعد ذلك أرسل المدير العام للمتاحف تقريرًا لوزير الثقافة، يوضح فيه أن اللوحات لم تعبر من الباب للسبب المذكور وطلب منه تأجيل هذا العمل حتى يجد حلًّا، وذكر في التقرير أن تلك اللوحات قيّمة جدًّا من الناحية الفنية، كما أنه لا يعتقد أنها تتناسب مع التصميم المعماري لمسجد السلطان أحمد، فبقيت منسية على أرضية المسجد حتى عام 1949.
في العام المذكور التقى الكاتب والمؤرخ ابن المؤمن محمود كمال إينال بمدير متحف آيا صوفيا حينها مظفر رمضان أوغلو، وطلب منه إعادة اللوحات لمكانها لما تملكه من قيمة فنية لا يجب أن تهدر بهذا الشكل، فأبلغه رمضان أوغلو أنه مستعد لفعل ذلك لكن المشكلة في التكاليف المادية، حينها قام رجل الأعمال نظيف شلبي بالتبرع بالمال لهذا العمل، وعهد به إلى المعماري أكرم حقي آيفردي، وتمَّ ترميم اللوحة المكسورة، وتعليقها مرة أخرى في 28 يناير/ كانون الثاني 1949.
هناك أيضًا ثمان لوحات صغيرة الحجم نقشها مصطفى عزت أفندي، تحمل نفس الأسماء والشكل الفني معلقة بين نوافذ المحراب، يبلغ قطر كل منها 50 سنتيمتراً.
من الجدير بالذكر أن قبل اللوحات الكبيرة التي نقشها مصطفى عزت أفندي كان هناك ست لوحات تحمل الأسماء نفسها دون “الحسن والحسين”، تعود إلى الخطّاط تكنجي زاده إبراهيم أفندي، وبقيت معلقة على حوائط المسجد لمدة قرنين منذ عام 1651 وحتى ترميم المسجد في عهد السلطان عبد المجيد، وهي تتساوى مع اللوحات الحالية في الحجم، وتختلف عنها في كونها دائرية وليست مربعة الشكل، كما تتفوق عليها من الناحية الفنية.
لوحات بأيادي السلاطين العثمانيين
يوجد خمس لوحات خطية على الحائط الذي يقع على يمين المحراب، نُقشت جميعها من قِبل ثلاثة سلاطين عثمانيين في عصور مختلفة. اللوحة الأولى أعلى يمين المحراب، والتي تحتوي على كلمة التوحيد، كتبها السلطان محمود الثاني في القرن التاسع عشر بخط الثلث الجلي على خلفية سوداء منفّذ بالذهب، والذي يعرف باسم زرندود، ونجد في زاوية اللوحة إمضاء “كتبه محمود بن عبد المجيد”. يبلغ حجمها 350*280 سنتيمتراً، وتعد أكبر لوحات المحراب.
على الحائط نفسه نجد بالترتيب اللوحة الثانية “سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم”، وهي أيضًا خطت من قِبل محمود الثاني بخط الثلث الجلي منفّذ بالذهب، ويبلغ حجمها 70*240 سنتيمتراً.
أما اللوحة الثالثة “رأس الحكمة مخافة الله”، تعود إلى السلطان أحمد الثالث الذي نجد توقيعه في زاوية اللوحة، كتبت في القرن الثامن عشر بخط الثلث الجلي والزرندود على قماش أسود، ويبلغ حجمها 70*200 سنتيمتر.
على الحائط نفسه جانب اللوحة السابقة من ناحية اليمين، نجد اللوحة التي كتبها السلطان مصطفى الثاني بخط الثلث الجلي والزرندود: “اللهم أدخلنا الجنة بشفاعة محمد عليه السلام”، ويبلغ حجمها 50*250 سنتيمتراً.
أما اللوحة الخامسة، تعود أيضًا إلى مصطفى الثاني، وهي عبارة عن البسملة كتبت كبيرة بخط المحقق الذي كان شائعًا ما بين القرن الثالث عشر والسادس عشر، وعلى يمينها ويسارها من الأعلى الآية رقم 56 من سورة الأحزاب بخط الثلث، ونقشت تلك اللوحة عام 1693 بحبر أسود على ورق أبيض، ونلاحظ أن الأحرف المغلقة مطلية باللون الذهبي. ويبلغ حجمها 120*200 سنتيمتر.
لوحات يسار المحراب
على يسار المحراب هناك لوحتان تعودان إلى القرن الثامن عشر، كُتب على اللوحة الأولى “بارك الله تعالى” عام 1768 من قِبل الخطاط ولي الدين أفندي بخط التعليق، ويبلغ حجمها 60*100 سنتيمتر.
أما اللوحة الثانية والأخيرة “حسبي الله”، فقد خطّها الخطاط محمد إسعاد يساري عام 1798، والذي يعدّ أهم فناني خط التعليق في العهد العثماني رغم إصابته بالشلل في ناحيته اليمنى، ويبلغ حجمها 80*150 سنتيمتراً.
تختلف تلكما اللوحتان عن لوحات المسجد الأخرى من الناحية الفنية، فكما لاحظنا أن جميع اللوحات الأخرى تحوي خط الثلث الجلي، وهو خط زخرفي بخلاف خط التعليق أول أشكال الخط الفارسي، والذي كان خطًّا بسيطًا يستخدَم في العهد العثماني في المحاكم الشرعية والرسائل.
بخلاف الثلاث وعشرين لوحة التي ذكرناها، هناك ثماني لوحات داخل محراب محفل السلطان الموجود داخل المسجد، تحمل الأسماء المنقوشة نفسها على اللوحات الأساسية، وقد خطت من قِبل الخطاط شفيق بيك تلميذ مصطفى عزت أفندي، ويبلغ قطر كل منها 35 سنتيمتراً.
مرَّ آيا صوفيا بتحولات عديدة لكنها لم تقوِّض بنيانه، بل على العكس مع كل تحول يزداد بهاؤه، ويضاف إليه قيمة فنية جديدة تجتذب الزائرين من كل حدب وصوب.